الخميس، 22 أكتوبر 2020

هل فعلا لو عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم سيحبونه؟!

لو عرفوه لأحبوه ، عبارة تتردد كثيرا كلما حدث هجوم واعتداء على شخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الغرب، يرى قائلوها أن السبب الوحيد للهجوم على النبي صلى الله عليه وسلم أو الإسلام عموما هو جهل المهاجم بالنبي والإسلام، ولو رفع هذا الجهل لأحبوه قطعا وما هاجموه، فهل هذا الربط صحيح مطلقا؟ وما آثاره الأوسع مدى في واقعنا؟

إن للجهل دور بلا شك في هجوم ورفض البعض لشخص النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، فهم لم يتعرفوا عليه جيدا ولم يدركوا حقيقته لذلك فهم يكرهون شخصا وشرعا مغايرين تماما للحقيقة، لذلك بعض من ترفع جهالته هذه بجهد شخصي منه أو بدعوة منضبطة من مسلم بالقول أو السلوك تتحول كراهيته إلى حب وعداوته إلى اتباع، ومما لا ريب فيه أننا كمسلمين مقصرين إجمالا بشكل كبير في تبليغ الإسلام بأسلوب صحيح قولا وعملا، ونحتاج لجبر هذا التقصير على الفور لننجو من الحساب قبل أن ننجي الآخرين من ضيق الدنيا والآخرة.

ولكن هل معنى ذلك أن كل كافر إذا رفعت جهالته سيؤمن وسيحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو حتى معظمهم لا كلهم؟!

الإجابة من الواقع والتاريخ بل ومن القرآن الكريم.. لا، ليس بالضرورة

فقد كان أهل مكة هم أعلم الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأخلاقه وصفاته وكان من أحب الناس إليهم قبل بعثته وأعدلهم عندهم، هذا عن شخصه، أما عن دعوته وطريقة تبليغها فبلا شك أن بلاغه وأدواته فيه كان الأفضل والأكمل على الإطلاق لن يماثله في ذلك أحد من بعده، ومع اجتماع كل ذلك كان كفرهم وجحودهم وعداوتهم وتحول الحب إلى بغض في انتظاره بمجرد أن بدأ بالدعوة.

فهل كان عداءهم وكفرهم وسبهم له سببه عدم المعرفة به؟ أم عدم تبليغه؟ أم عدم تبليغه بطريقة جاذبة واضحة؟

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) سورة الأنعام

هنا مكمن الخلل، فالاعتقاد الخاطئ بأن رفض الحق سببه فقط الجهل وأنه إذا ما اتضح الحق سيتبعه الناس ولابد أمر مخالف للمنطق والواقع المشاهد ولآيات القرآن الكريم وقصص الأنبياء كلها ، كما أن له آثار أكثر خطورة تؤدي لانحرافات فكرية ومنهجية واسعة، منها:

١ - ترسخ مفهوم أن رفض الحق يعني بالضرورة أن ثمة مشكلة وقصور في بلاغ الحق أدى إلى قيام البعض بتغيير الحق نفسه إذا رفضه الكفار، فأصبحنا نجد من ينكر مثلا أحاديث نبوية صحيحة وربما متواترة أو أحكام شرعية ثابتة مجمع عليها لأن بعض الكفار يرفضونها وينتقدونها بعدما وصلت إليهم، فبدلا من أن يقوم بواجبه وهو التأكد فقط أنها وصلتهم بصورة صحيحة ثم يدعهم يتخذون قرارهم الذي سيحاسبون عليه وحدهم بقبول الحق أو رفضه ( وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ( 40 ))، أصبح يحاول حذف وتأويل كل ما لا يرضيهم ظنا منه أن هذا خدمة للدعوة ودفاع عن الإسلام الصحيح بزعمه، بعد أن وضع قاعدة واهية خاطئة وهي أن معيار الإسلام الصحيح هو قبول الكفار له فور تبليغه بطريقة صحيحة، وبذلك أصبح بعض من تصدوا في الأصل لدعوة الكفار والملحدين سببا في الكفر والإلحاد بعدما فرغوا الدين وأصوله من مضامينهم فشككوا المسلمين بدلا من أن يبلغوا الكافرين، فللأسف أغلب من يرفعون شعار (لو عرفوه لأحبوه) عند كل نازلة لتهدئة الناس ولنسبة خطأ الغير للنفس إما لا يقدمون شيئا أصلا لأجل التعريف به صلى الله عليه وسلم وبرسالته، وإما يقدمون بمنهجية خاطئة ناتجة عن خلل البذرة فيزيدون المسلمين بعدا عن الدين بدلا من أن يقربوا الآخرين إليه.

٢- جلد الذات الدائم وعدم اتخاذ مواقف جادة صلبة مع المعتدين لردعهم، فإن أخطأ مسلم لطموا الخدود وشقوا الجيوب على ما تسبب فيه من تشويه للإسلام بزعمهم، ودعموا كل موقف وإجراء صلب ضده من الداخل والخارج، أما إذا أخطأ كافر واعتدى لطموا الخدود وشقوا الجيوب مرة أخرى ولكن ضد المسلمين أيضا فهم من قد تسببوا في ذلك لأنفسهم ودفعوا الكافر المسكين والمعتدي البرئ لفعل هذا بسبب قصور فهمهم لدينهم وعدم تبليغهم له بصورة صحيحة ترضي الكفار، ورفضوا أي إجراء صلب ضد المعتدي المسكين لأنه طالما فعل هذا فهو لم يعرف! لأنه لو عرف ما فعل كما يزعمون! حتى لو كان الفاعل حكومات ذات أجهزة معلوماتية كبرى لا تأخذ معلوماتها من الإعلام كالعوام بل هي التي تصنع الأخبار، ويستحيل مع طبيعتها وإمكانياتها تصور وجود الجهل بالحقائق.

٣- ولعل من آثار هذا الخلل والانكسار المبالغة في الدفاع عن الرافض المعاند إلى حد التشكيك في أمور بديهية عقلا وشرعا كاستحقاق الكافر للنار، وهذا ما فصلت فيه في كتاب (أزمة البخاري)الفصل الخامس ومنشورات سابقة ولا مجال للإعادة هنا بشأنه، ولكن وجه الارتباط أن رفض الحق قد أصبح عيبا في الحق وحامليه دائما وليس عيبا في الرافض وبالتالي فلما يعذب ذلك الجاحد المسكين؟!



الاثنين، 8 يونيو 2020

ميزان النعم


الوقفة الثانية: ميزان النعم
وهو من الموازين التي يكثر استخدامها أيضا من قبل الكثيرين لتقييم الحق والباطل والصواب والخطأ لذا فدعونا نتتبع هذا الميزان في كتاب الله عز وجل لنفهم مدى دلالاته وما هي ضوابط استخدامه في ضبط مواقفنا وتوجهاتنا.
هل الرخاء يعبر دائما عن رضا الله عز وجل عن المنعمين؟

ذكر القرآن الكريم أصنافا من المنعمين المغضوب عليهم منها على سبيل المثال لا الحصر..
(لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)) سورة آل عمران
(كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)) سورة التوبة ، وفي حديث نبي الله صالح لقومه ثمود (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ (149)) سورة الشعراء ، (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)) سورة سبأ.

إذن فمعنى ذلك أن الرخاء يعبر دائما عن غضب الله على المنعمين كما تبين في الآيات السابقة وغيرها كثير، هل هذا صحيح؟ تأمل في قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96)) سورة الأعراف ، وفي قوله تعالى (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112)) سورة النحل ، وقوله تعالى (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)) سورة سبأ!

إذن فهل معنى ذلك أن النعمة والرخاء لا يمكن أن يستخدمان بأي صورة من الصور لقياس مكان المرء والأمة من الشرع ، لا يمكن أن يدلا على شيء أبدا؟

(وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44)) سورة الأنعام ، (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (95)) سورة الأعراف.

من مجمل الآيات الكريمات يتبين لنا أن ميزان النعم من الموازين التي ممكن اعتبارها في تقييم حال الفرد وحال الأمة ولكنه ليس ميزانا مستقلا قائما بذاته ، من الآيات يمكن أن يكون الصالح منعما أو مبتلى ، وممكن أن يكون الطالح منعما أو مبتلى ، ولكن دلالة النعمة مع وجود الصلاح والالتزام بدين الله دلالة طيبة جيدة ودعوة للشكر والاستمرار في الطاعة والقرب من الله ، أما وجود الابتلاء مع الالتزام فهو أيضا امتحان وتمحيص ورفع درجات (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ (214)) سورة البقرة ، أما المحنة والكرب مع وجود المعصية والبعد فهي نداء وتذكير وإفاقة لذلك الغافل العاصي عساه يرجع إلى ربه ويعود، أما قمة الخطر في أن تأتي النعمة مع المعصية فهي استدراج وباب هلاك كما تبين (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44)) سورة الأنعام.

إذن فليست النعمة في ذاتها دلالة رضا أو غضب وليس الابتلاء في ذاته دلالة رضا أو غضب فلينبغي أن ينظر معه في حال المرء وحال الأمة ومدى قربها وبعدها من دين الله ، لذلك فإن الذين يفخرون بابتلاءاتهم وتضحياتهم وكربهم ويتخذونها دلالة في ذاتها على صلاح مواقفهم ومناهجهم حجتهم داحضة وعليهم أن يثبتوا صحة مواقفهم ومناهجهم بالقرآن والسنة أولا قبل أن يقال أن هذا البلاء بلاء خير ، والعكس صحيح ، فإن العمل على تحقيق النعمة والرفاهية دون الالتزام بمنهج الله باب هلكة لا باب خير ، والمتحدثون عن أن الرفاهية أولا ثم الإسلام إذا حققوا شيئا من ذلك فعليهم أن يخافوا ويرتعدوا إذ وفقهم الله للنعيم دون الالتزام الكامل بالإسلام ، أما إذا وجدوا أنفسهم فاشلين في تحقيق ذلك فليشكروا الله وليعودوا إليه بدلا من أن يستزيدوا من التنازلات والبعد عن الحق الثابت قرآنا وسنة، إن قمة الفتنة أن تروج للناس فكرة الالتزام بالدين بأن تقص عليهم قصص شعوب حققت الرفاهية دون دين أو بكثير من التنازلات فيه! أنت تقول لهم صراحة أن الإسلام ليس الحل كما تزعم لا سيما بعدما روجت للإسلام كمشروع دنيوي تنموي كما بينت في الفصل الأول، قمة الفتنة أن تدعو الناس للرفاهية المطلقة ثم تنتظر أن تأتيهم بعد ذلك وتحدثهم عن تطبيق الإسلام ذي الفاتورة الغالية بعدما ذاقوا الراحة والنعيم ، أنت لا تدعوهم بتلك الرفاهية السطحية إلى الدين بل أنت تصعب عليهم الامتحان ، بل وتصعب على نفسك أنت أيضا ، فقد تكون أول الراكنين إلى الدنيا اللاهين فيها، ناهيك عن أن تحقيق ذلك التقدم والرفاهية أمر نسبي وأمر لا نهاية له ، فالفرق بينك وبين العلماني الفاصل تمام للدين عن الحياة أنه من الآن يفصل بينهما للأبد ، أما أنت فتفصل بينهما إلى أمد لن يلبث إلا ويتحول عمليا إلى الأبد.

من كتاب وقت مستقطع الفصل العاشر

الثلاثاء، 14 أبريل 2020

معادلات الهداية والضلال






الهداية ليست قيمة مفردة، وكذلك الضلال، بل هي مجموع قيمتين
(سبب هداية صريح + حال قلب المتعرض له)
(سبب فتنة صريح + حال قلب المتعرض له)
(سبب متعادل + حال قلب المتعرض له)
والنتيجة قد تكون زيادة هداية أو زيادة ضلال أو لا شيء
-
لعل من الأسباب المتعادلة، المواقف الصعبة، كمثال حصار الأحزاب للمدينة
(إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)) سورة الأحزاب
اجمعها على صدق القلب تجد النتيجة كما يلي
(وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)) سورة الأحزاب
نفس الحصار إذا جمعناه على قلب المتردد المنافق تجد نتيجة مختلفة
(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)) سورة الأحزاب.
-
من أسباب الهداية مثلا، القرآن الكريم
سورة القرآن + قلب يبتغي الحق =
( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)) سورة التوبة
سورة القرآن + قلب لا يبتغي الحق =
(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)) سورة التوبة
-
من أسباب الهداية، العلم
نتيجة -1
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور (28)) سورة فاطر.
(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)) سورة آل عمران

نتيجة-2
(وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)) سورة يونس
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)) سورة الأعراف
--
وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم عامة من أسباب الهداية
نتيجة-1
(وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)) سورة المائدة
نتيجة-2
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۖ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)) سورة المائدة
-
وغير هذا مما لا يحصى
فورود هذا في القرآن كثير
(يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)) سورة البقرة
-
فالعبرة بمدى نقاء القلب وصدقه في طلب الحق وليس بمدى توافر أسباب الهداية حوله فحسب، وهذا من العدل والكرم الإلهي العظيم
(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)) سورة محمد
(وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)) سورة مريم
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)) سورة العنكبوت
وفي المقابل
(وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)) سورة النساء
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)) سورة الأنعام
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)) سورة الجاثية
-
فعندما تنظر حولك وترى أن الآية التي ترى أنها قاطعة لهداية كل الناس لا تزيد بعض الناس إلا إعراضا، وأن البلاء الذي ترى أنه كاف جدا لإفاقة كل الناس لا يزيد بعضهم إلا لغوا وغفلة وفسادا، لا تتعجب وتظن الظنونا، فهذا أمر حسمه القرآن الكريم منذ القدم، فالعبرة ليست بأسباب الهداية والإفاقة ولا حتى بأسباب الفتن والضلال، وإنما هناك قيمة أخرى تحكم نتيجة المعادلة، وهذه القيمة في داخلك أنت، وليس هناك أهم منها لتنشغل دوما بها وبتنميتها إيجابيا، فإذا جمع عليها سبب هداية ضاعفته، وإذا جمع عليها سبب فتنة عادلته وزادت عليه وأخرجتك منه أكثر ثباتا.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك

الجمعة، 6 مارس 2020

هدنة مع طواحين الهواء



1-      هل توجد عقوبات إلهية في الدنيا (المبدأ)؟
2-      هل إصابة المسلمين في حدث ما تنفي عنه مطلقا (احتمالية) كونه عقوبة؟
3-      ما الفرق بين الابتلاء والعقاب، وبين رخاء وبركة الطاعة والاستدراج؟
4-      إذا كان هناك عقوبات إلهية في الدنيا، فلماذا لا يعاقب أعداء المسلمين (كونيا) رغم كل ما فعلوه ويفعلونه؟
أولا: هل توجد عقوبات إلهية في الدنيا (المبدأ)؟
أدلة مبدأ وجودها في القرآن والسنة أكثر من أن تنحصر، فجُل قصص الأنبياء تدل عليها، وكثير من الآيات والأحاديث تذكر استمرار ذلك، أخذا في الاعتبار أن أنها لا تنحصر في الظواهر الكونية الخارجة تماما عن تأثير الإنسان في ابتدائها أو في مباشرتها، بل يدخل فيها فساد ذات البين ووقوع الاقتتال والتناحر وفقدان بوصلة الصواب وحرمان التوفيق للهداية وغيرها، كما أن وقوع العقوبة الدنيوية غير لازم دائما لكل فاسد وظالم، فالاستدلال بعدم وقوع العقاب المادي لبعض الكفار والفاسدين على انتفاء وصف العقوبة عما وقع للبعض الآخر استدلال به خللان:
الأول افتراض ضرورة وقوع العقاب العاجل للجميع وإلا فلا عقاب لأحد.
والثاني حصر العقاب في الصور المادية الكونية وتجاهل الصور الأخرى.
وكلاهما يخالف الأدلة القرآنية والنبوية، ولا يشترط في الحدث الإهلاك الكامل كي يعد عقوبة، بل دلت الآيات والأحاديث على وقوعه بصور جزئية للتذكير والاستتابة ومنح فرص العودة واليقظة قبل أن يأتي العقاب الأساسي والأخير والذي لا ينفع معه شيء وهو العقاب الأخروي.
ثانيا: هل إصابة المسلمين في حدث ما تنفي عنه مطلقا (احتمالية) كونه عقوبة؟
وهذا مما يكثر به وفيه الجدل، وهو بناء على افتراض غير مستند لدليل، بل الدليل يخالفه من وجهين:
الوجه الأول: أنه بالنظر في الأدلة الشرعية نجد فيها احتمالية امتداد أثر العقاب إلى المسلمين إذا كثر الفساد والخبث
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)) سورة الأنفال
عن زينب أم المؤمنين أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يقولُ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ، ومأْجُوجَ مِثْلُ هذا، وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ، وبِالَّتي تَلِيهَا فَقَالَتْ زَيْنَبُ فَقُلتُ يا رَسولَ اللَّهِ أنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ، رواه البخاري ومسلم.
عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بأولهم، وآخرهم، قالت: قلت يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم. متفق عليه،
إذن فوصول الأذى للمسلم ليس دليلا نافيا بالضرورة لكون الأذى عقوبة محتملة.
الوجه الثاني: أن أدلة القرآن الكريم والسنة النبوية لم تجعل النجاة من هذه العقوبات مرتبطة بمجرد الإسلام فقط، فخيرية الأمة مشروطة وعافيتها كذلك، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)) سورة آل عمران.
(فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)) سورة هود، ووصف الإصلاح مرتبط بالنهي عن الفساد وليس بمجرد الصلاح الذاتي (الصالح غير المصلح)، والصلاح قدر إضافي فوق الإسلام.
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)) سورة المائدة.
حديث أبي بكر الصديق قال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه. رواه الترمذي.
فهل الموانع الحقيقية للعقوبة الدنيوية متوفرة عند المسلمين الآن؟ انظر حولك.
والعجيب أن كثيرا ممن يستدلون بامتداد أثر حدث ما إلى المسلمين لينفوا عن هذا الحدث أي وصف بالعقوبة هم أنفسهم من يعيرون المسلمين ليل نهار بتخلفهم وانتشار الفساد فيهم، والتخلف والفساد ليسا من الدين في معتقدنا، ومعتقدهم الذي يظهرونه على الأقل، وبالتالي هؤلاء المسلمون ليسوا النموذج الحقيقي للإسلام، فلماذا يتحولون فجأة إلى نموذج مثالي تعد إصابته بالضرر دليلا جازما على كون هذا الضرر ليس عقوبة!
ثالثا: ما الفرق بين الابتلاء والعقاب، وبين رخاء وبركة الطاعة وبين الاستدراج؟
خلاصتها، أن زيادة النعمة أو وقوع المحنة ليسا دليلا مستقلا، إذ أن كليهما يقع للصالح والطالح، وإنما الأمر مرتبط بالحال المصاحب، وللتفصيل وتجنب الإطالة والتكرار يرجى مراجعة هذا الرابط.
-
رابعا: إذا كان هناك عقوبات إلهية في الدنيا، فلماذا لا يعاقب أعداء المسلمين (كونيا) رغم كل ما فعلوه ويفعلونه؟
خلاصتها: أن الأمم التي كلفت بالصبر فقط كان عقاب أعدائها إلهيا كونيا مباشرا، أما الأمم التي كلفت بالجهاد فأمرها مختلف، وفي قصة بني إسرائيل نجد نموذجا للحالتين معا، إذ نصروا أول الأمر عند خروجهم من مصر بشق البحر وإغراق فرعون وجنوده، وهم لم يؤمروا حينها بالجهاد، فلما كلفوا بالجهاد لدخول الأرض المقدسة لم يُهلك الجبارون كما أهلك فرعون، وعندما عصى بنو إسرائيل أمر الجهاد عوقبوا هم على تقصيرهم وامتد حكم الجبارين إلى أن جاء الجيل المجاهد وكان عقاب الجبارين على أيديهم، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم كذلك، نعم يكون هناك توفيق وإمداد يفوق أسباب المسلمين وإمكانياتهم، نعم قد يقع بعض النصر لهم وبعض العقاب لأعدائهم دون سعي منهم، فالله تبارك وتعالى يفعل ويحكم ما يريد، ولكن يبقى أن الأصل في أمتنا أنها مكلفة بالجهاد وأن عذاب الكافرين في الدنيا على أيدي المؤمنين وليس كالأمم التي لم تكلف بالجهاد.
(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)) سورة التوبة.
(ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)) سورة التوبة.
وكان تأويل وعيد آية الإسراء (وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ۖ وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)) ما وقع في غزوة بدر، فلم تلبث قريش مستقرة بعد إخراجها النبي صلى الله عليه وسلم إلا قليلا، فوقعت بها الهزيمة المنكرة التي قتل فيها سادتها بعد عام ونصف، ولم يمض في عمر الزمان شيئا يذكر حتى زال حكمهم عن مكة كلها، بأيدي المؤمنين.
وللاستزادة أيضا يمكن الرجوع للفصل الرابع من (وقت مستقطع).
-
وأخيرا، قد يكون من المبالغات التي يقع فيها بعض الناس الجزم اليقيني القاطع بتوصيف حدث بعينه بكونه عقوبة لأمة معينة على فعل معين، فهذا مما يعسر الجزم به وأقصى ما يقال فيه الاحتمال والتأمل والعظة، ولكن في المقابل النفي المطلق مع تجاهل أدلة ثبوت المبدأ، ثم الاستناد في النفي على أدلة وهمية لم ترد في الشرع أصلا بل ربما ورد ما يضادها تماما -كما تبين - خطأ جسيم، واستهلاك النفس والناس فيه رغم خواء محتواه محاربة لطواحين الهواء، والأمر لا يحتاج لكل هذا لمن أعطى لنفسه فرصة النظر في الدليل قبل تحديد نتيجة الاستدلال وليس العكس.

الاثنين، 3 فبراير 2020

وزاء موسى وجنوده



فجأة وبدون مقدمات، بدأت أتأمل في حال تلك الصبية الصغيرة التي كلفتها أمها أن تبحث عن أخيها الرضيع الذي ضاع في النهر، (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ)، ولكن ما مجال وحدود البحث؟ الدنيا كلها، فلا يعلم أحد أين يمكن أن يكون، لا يعلم أحد هل نجا من النهر أصلا أم لا، تنطلق في الطرقات والأسواق لتتفحص وجوه وأيادي آلاف الناس بلا يأس أو كلل، حتى تسمع وسط هذا الزحام صوتا تعرفه رغم تقارب الأصوات في هذا السن، وتلمح وجها تألفه رغم تقارب الملامح بين الرضع، (فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) إن أضعف الاحتمالات قد وقع، الطفل الضائع في النهر محمولا بين أيدي الناس على البر في زحام الأسواق، نعم إنه هو، ولكن مع من؟ إنه بين أيدي الطغاة الذين لم تلقه أمه في اليم أصلا إلا خوفا من وصولهم إليه! يا ترى كيف كانت صدمتها! كيف كان فزعها! بل وكيف كان عجبها حينها إذ رأتهم لا يبحثون عن سيف يذبحه ولكن عن أم ترضعه!
-
تخيلتها من الفرحة تجري إليه، أو من الصدمة تصرخ، أو إلى أمها تركض، لا أرى أن صبية يمكنها في مثل هذا الموقف أن تفعل شيئا آخر، ولكن الوزير الموفق من قبل الإله العظيم الحكيم تبارك وتعالى يتماسك ويتصرف بصورة لعلها أكثر إعجازا من إعجاز العثور على الرضيع، تتصرف كمدير تسويق ذكي وجد صفقة رابحة، تحبس دقات قلب الأخت المحب المشفق وتتكلم بلغة جامدة تناسب الموقف والعميل (فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)) فيعيده الله تعالى إلى حضن أمه بربأطة جأش أخته وحسن تصرفها (فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)، ولتعيد قصتها تعريف (العزوة) في نفوس ووجدان المؤمنين إلى يوم الدين، فقد أعادت يد أخت واحدة طفلا رضيعا من الضياع إلى أسرته، وضاع طفل واع على أيدي أحد عشر أخا نقلوه من أمان الأسرة إلى ضياع المجهول.
-
لعل فرعون كان يستعرض جنوده الأشداء كأي قائد عسكري كبير، وينظر في مجلسه إلى وزرائه الدواهي الذين يعينونه على إحكام قبضته على الخلق، فيبتسم مطمئنا على استتاب الأمر في يده، بينما يجلس نبي الله موسى في المقابل على عرش من التوفيق وحوله من الوزراء والجنود من لا يستطيع فرعون أن يقاتلهم فضلا عن أن يراهم.
وزير موسى وجنديه، ذلك الإلهام إلى أمه (أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)
وزير موسى وجنديه ثبات الأم حين ضاع (إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
وزير موسى وجنديه ماء النهر الذي لم يغرقه ولم يتركه إلا على باب قصر فرعون (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ)
وزير موسى وجنديه تلك المحبة التي يفشل الجميع في مقاومتها (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي)
وزير موسى وجنديه الجوع ورفض المراضع الذي لولاه ما خرجوا به من القصر أصلا (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ)
وزير موسى وجنديه ما كان من شأن بحث أخته وثباتها وذكائها.
وزير موسى وجنديه الناصح المجهول الساعي من أقصى المدينة (قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)
وزير موسى وجنديه عجز والد الفتاتين عن الخروج للعمل (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)
وزير موسى وجنديه رغبة الفتاتين في ترك العمل (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)
-
كل هؤلاء الجنود والوزراء وغيرهم ممن لم أذكر أو أتذكر سخرهم الله تعالى في حياة موسى عليه السلام قبل أن تأتيه النبوة، قبل أن يطلب وزيرا من أهله (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30))، كل هؤلاء قبل جنوده التسع (العصا واليد والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والدم والضفادع)، كل هؤلاء قبل السحرة وإيمانهم، قبل مؤمن آل فرعون وقوة حجته وشجاعته، قبل شق البحر وإغراق الماء الذي أهلك جيشا ولم يهلك طفلا في تابوت صغير.
أعد النظر إلى قصر فرعون ومجلسه المزدحم بعلية القوم، وإلى جيشه الذي لا ترى آخره من الكثرة والقوة والعتاد، لقد كانوا في لحظة البلاغ يقفون أمام رجلين اثنين متجردين للناظر من كل قوة وجند، مواجهة غير متكافئة محسومة لصالح فرعون، ولكن من يوسع نظره إلى ما وراء المشهد، لربما أشفق على فرعون وجنده من هذه المواجهة، وأشفق عليهم من الورطات التي وضعوا أنفسهم فيها، ولكن قد كانت الفرصة في أيديهم ليدركوا حجمهم، وتجددت مرارا مع كل آية، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)) سورة الأعراف


شهوة الروح




إذا أراد الزوج إبداء المظلومية في خلاف بينه وبين زوجته قال (تفعل معي هذا وأنا لم أقصر معها في شيء) يعني بذلك غالبا عدم التقصير في الإنفاق وشراء الاحتياجات.
وإذا أرادت الزوجة فعل المثل قالت (يفعل هذا معي وأنا لم أقصر معه في شيء) وتعني غالبا العلاقة الزوجية وطبخ وغسل الاحتياجات التي اشتراها الرجل.
وكل هذا متعلق بشهوات الجسد واحتياجاته، ولكن أين شهوة واحتياجات الروح!

وشهوة الروح هي الشعور بالاهتمام، الشعور بأنك مختلف عند شخص معين، يعنيه أن تكون بخير وألا يمسك سوء، يهمه أن تكون سعيدا وألا تكون حزينا ولو كنت بعيدا عنه لن يرى سعادتك أو حزنك، نعم هذه شهوة يحتاجها الإنسان جدا، وأهم مصارفها في الصغر اهتمام الوالدين، وفي الكبر اهتمام الزوج والزوجة وكذلك الأصدقاء والأرحام، ثم في الشيخوخة اهتمام الأبناء ومن تبقى من الأصدقاء والأرحام.

فالسكن والمودة والرحمة الواردة في آية الزواج هي أمور متعلقة بالروح أكثر من تعلقها بالجسد والمادة، والعمل على إشباع هذه المشاعر هي أولى واجبات الطرفين قبل أن ينسب أحدهما لنفسه (عدم التقصير)، وقبل أن يتعجب أيا منهما من نفور الطرف الثاني أو تأثره بمؤثرات خارجية لم يكن يتوقع أن تؤثر فيه بعد كل ما بذله لأجله – في ظنه.

تساءلت يوما بعدما سئلت عن مأساة (الشات) التي يقع فيها الكثير من الرجال في عصرنا، ما الذي يجعل رجل يتعلق بامرأة تراسله (كتابة) فقط، لم يرها، لم يسمع صوتها، لا يدري أصلا إن كانت امرأة أو رجل، وفي أحيان كثيرة يخلو الحوار بينهما من الكلام (القبيح)، فيزيد هذا المتسائل حيرة، فقط (سلامات وطيبون)، وماذا أكلت اليوم؟ إياك أن تدخن فتدمر صحتك! عدني بأن تقلل القهوة حتى لا تضر بضغطك، ولماذا أشعر بأنك مش في (المود).. إلخ، ما المكسب من هذه الحروف والنقاط الصماء!، فلم أجد إجابة سوى شهوة الروح! الشعور بالاهتمام الذي يبدو مجردا، الشعور بأن شخصا ما لا يطلب منه نفقة ولا مسئوليات يهتم بأن يكون سعيدا، بينما يؤدي ما يؤدي في البيت ولا يظهر له هذا الاهتمام.

وبدت نفس المشكلة عند النساء أيضا، لماذا تقع الكثير من النساء في الإعجاب بأولئك الذين يجيبون على الاستشارات سواء مباشرة كالأطباء النفسيين أو على الانترنت، أو حتى في الدردشات العقيمة مع رجال قد لا يتجاوزون أيضا (السلامات والطيبون)، أو تعليقات باردة على المنشورات والصور، وطبعا جروبات الشكاوى والحكايات، إنه ذات الشعور المفقود بالاهتمام، الشعور بوجود من يسأل، من يلاحظ التغير في صيغة العبارات المكتوبة فيستشف السعادة والحزن، بينما من يرى المرأة أمامه ثلاثية الأبعاد ويسمعها على الهواء لم يظهر أي عناية بأي شيء.

بالطبع لا يتوقف الأمر عادة عند شهوة الروح فهي خطوة من خطوات الشيطان أعاذنا الله من شروره وشرور أنفسنا، لكن غياب إعفاف الروح خطير وإن عف الجسد وتوفرت المادة، لأن الأولى تحكم الثاني وتوجهه، وقادرة على تزهيد الجسد فيما يملك مهما كثر أو بث القناعة فيه مهما قلت الموارد المادية، بل وإن قلت الوسامة والجمال.
فالرجال والنساء واقفون طوابير على جروبات الطبخ والمشتروات والرياضة والتخسيس بل وعلى جروبات قذرة تزعم التثقيف الجنسي وحل مشكلاته، وجلهم رغم ذلك جوعى يشكون فاقة وفقرا في أرواحهم على جروبات أخرى لا تزيدهم إلا سخطا أو في حواراتهم الشخصية والافتراضية، أو حتى بينهم وبين أنفسهم.

وهذا الفارق يظهر كذلك بقوة في احتياجات الصغار من آبائهم كما ذكرت، فلا يذكر الشاب والمراهق لوالديه الألعاب والنزهات والملابس والحلوى والتعليم باهظ التكاليف قدر ما يذكر لهم العناق والقبلة والسؤال عن الحال والاهتمام إذا ظهر عليه الضيق أو الاكتئاب ولو لسبب تافه، وأيضا مواقع الاستشارات والـASK مشحونة بكلام الشباب والبنات عن هذا الفقر الشديد، وهو أيضا باب خطر كبير عليهم إذا وجدوا هذا الشعور من مصدر خارجي قد يكون فاسدا، فيطيرون نحوه كالفراشات نحو النيران المشتعلة لا يأخذ بحجزها شيء، ولا يأخذ بحجزهم بعد حفظ الله تعالى إلا قوة اهتمام موازية تحقق لهم اتزانا نفسيا ضد ما يثير شهوات روحهم قبل أجسادهم، وكم من أب وأم يدعون عدم التقصير في حق أبنائهم وبناتهم بنفس المنطق السابق، بينما هم لم يطعموا أرواحهم وقلوبهم شربة ماء واحدة، حتى قالت فتاة يوما أن والدتها لا تعانقها أبدا، ولا تدري ماذا تفعل كي تجعلها تعانقها دون أن تطلب منها لأنها كبرت على الطلب ولن تتحمل أي إحراج، مع إقرارها أن والدتها لا تقصر في خدمتهم المادية، ما الذي يحقق لمثل هذه الفتاة الإتزان إذا فاجأها مصدر - ولو كان فتاة أخرى – يسكب اهتماما في هذا الفراغ مختلطا بمفاسد عدة ما لم يشأ الله حمايتها بلا أسباب أرضية!

الشجون كثيرة، والكلام يبحث عن خاتمة ولا يجد، ولكن أكتفي -عنوة - بهذا القدر آملا أن تصل الرسالة.


حول الانتحار

بسم الله، رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي
أولا: إن الجزم بأن أي منتحر هو بالضرورة مريض نفسي أو فاقد الأهلية والوعي وتبرير موقفه ودفع أي إنكار عام أو خاص بهذه الحجة دون تعرف على كنه الحالة أصبح يشبه تبرير الطلاق بالغضب، وتبرير أكل الحرام أو الربا بالضرورة، ووجه الشبه هو إهمال ضبط المبرر، فصاحب هذه العبارات المعلبة المعبأة حديثا عادة لا يفرق بين الحزن والضيق والشعور باليأس وبين المرض النفسي أصلا، بعيدا عن كون المرض النفسي مبررا مقبولا دائما أم لا وهو ما سأتطرق إليه لاحقا، يقولون أنه بالتأكيد كان يمر بمشاعر صعبة (تبرر) له هذا وترفع القلم عنه!، فذكرني هذا بمن سأل شيخا عن يمين طلاق رماه على زوجته ويريد من الشيخ أن يسقط هذا اليمين فبرره بأنه كان غاضبا، فقال له الشيخ (يا بني لا أحد يطلق زوجته وهو يأكل (يقزقز) لب)، طبيعي يكون غضبان، أين الإضافة؟ لكن هل معنى هذا أن أي غضب سيدخله في دائرة الغائب عن الوعي تماما وتسقط عنه التكليف؟ كم من بيوت يخشى أنها تقوم على الزنا بسبب طلقات لم تحتسب بهذه الدعاوى، وكذلك من يستحل الربا والأموال المحرمة بدعوى الضرورة، وتكون هذه الضرورة في حقيقتها احتياجا توسعيا وليس أساسيا لا تستقيم الحياة بدونه، والنفس المبالغة في التطلع قد يؤرقها الاحتياج التوسعي كما تؤرق الضرورات المضطر الحقيقي.
فكون المنتحر يمر بمشاعر صعبة فهذا أكيد، وإلا لماذا انتحر؟ ومع كون الأصل في المنتحر أنه يعاني متاعب قوية فقد جاء الحكم الشرعي بالتحريم وبالعد من الكبائر وبالتهديد بالخلود في النار، فالدنيا دار ابتلاء أصلا، فليست هذه المشاعر والظروف الصعبة مبررا في ذاتها لتصد به الإنكار، هي تحصيل حاصل لا معنى له ولا أثر.
وتصورك العجيب أن كل من يجد هذه المشاعر بالتأكيد مريض نفسي هو خلل عقلي! كونك لا تتصور أن يصدر هذا الفعل من إنسان طبيعي فهذا ضيق في تصورك أنت، ولم أر طبيبا نفسيا حتى يزعم أن أي قاتل لنفسه هو مريض نفسي يقينا! أبسط شيء هناك من يقتلون أنفسهم لأجل معتقداتهم وهم في كامل الصحة النفسية، وكم من معتقد أن الجحيم أرحم من متاعبه الآنية أيا كان نوعها بسبب خطأ تصوره لحجم متاعبه مقارنة بحساب الآخرة، أو لم يكتمل يقينه في هذا الحساب فرأى أن التراب أفضل من وضعه الحالي، في حالته هذا قرار عقلاني تماما يتحمل مسئوليته كأي اختيار آخر.
إن البعض يظن أن لن يبدو مثقفا منفتحا إلا إذا نفى أي سبب غير طبي لهذا الفعل، بل ولأي فعل، ما أن يسمع كلمة (إيمان) (يأس) (رحمة الله) إلا وانتفض معمما (إن الانتحار لا علاقــــــة له أبدا بالإيمان واليأس والظروف ولكنه المرض النفسي كالسرطان والالتهاب الرئوي الذي يصيب الصالح والطالح)، طبعا بعيدا عن تشبيه السرطان بالمرض النفسي والذي يكشف قدر العجب في الموقف، ولكنك أردت أن تبدو مغايرا للجاهل الذي لا يرى أن الأمراض النفسية لا يمكن أن تكون لها أسباب سوى ضعف الإيمان، فمارست نفس جهله في التعميم العكسي.
معادلة أن المتاعب والضغوط النفسية = مرض نفسي، وأن المرض النفسي = رغبة آلية في الانتحار، يرفضها الواقع قبل العقل، فالأصل في الناس حب الحياة والحرص عليها، فقراء ومعدمو العالم يشهدون، أهل المجاعات والجفاف يشهدون، المعتقلون لعشرات السنوات يشهدون، آلاف وملايين النماذج الذين لاقوا من أهلهم ومن حولهم أهوالا واستمرت حياتهم بل ومنهم من تميز تميزا خاصا يشهدون، أهل الحروب واللاجئون يشهدون، فأكثرهم لم يمرضوا نفسيا، وأكثر من ابتلوا بالمرض النفسي لم ينتحروا، وكثيرا ما يأتي الانتحار خارج هذه الدائرة تماما.
ثانيا: في مقاومة الجهل يشارك صديقنا المثقف عاليا – وأنا معه – في التوعية دوما بشأن المرض النفسي وكونه مرضا مثل أي مرض، وأنه يختلف عن المرض العقلي، وأن الجهلة هم الذين يساوون بين المريض النفسي والمريض العقلي، وأن اعتبار المرض النفسي دربا من الجنون هو ما يحول بين الكثيرين وبين تلقي العلاج، يدي في يده والله في أن نعامل من ابتلي ببعض المتاعب النفسية لأي سبب عضوي أو غير عضوي معاملة عادية لا فيها نفور ولا مبالغة في التعاطف بصورة تجرحه، لكنه في كل أزمة يسحب يده من يدي فجأة ويطالب – عمليا – بمعاملة كل مريض نفسي كمجنون مرفوع عنه القلم! الله يهديك، ماذا تقول وماذا تكتب من كلام جارح!
هل هناك من المتاعب النفسية ما قد يتعقد ويرفع القلم فعلا عن صاحبه؟ ربما، لا أدري ولا أختلف، لا أدري هل يقول الأطباء بهذا ولن أختلف معهم إن قالوا، ولكن ما أثق فيه أن الأمر لن يجاوز (بعض) الحالات لا سيما المتأخرة، فلماذا هذا التعميم الأخرق؟ لقد جعلت المرض النفسي مرادفا للجنون الذي لا يؤاخذ المرء فيه على أفعاله! وأصحابك يقرأون ويسمعون، تظن نفسك تدافع عمن مات وأنت لا تعرفه، وتفتح أبوابا للأحياء، إما باستسهال اللحاق به، أو للشعور بالإهانة من قبلك!
ثالثا: الكثير من المتاعب النفسية التي قد تتحول لمرض مؤقت أو مزمن ينتج من الظروف، سواء طويلة الأمد متراكمة التأثير أو من الصدمات، ومنها ما لا يكون هكذا وله أسباب جينية وعضوية حسب معلوماتي العامة، وهذا ما يمنع في رأيي المساواة المطلقة مع السرطان والنزلة المعوية، وهذا ما يجعل الكلام عن كون البناء النفسي والإيماني وتصحيح الكثير من تصورات الناس الخاطئة عن طبيعة الدنيا وقاية للكثيرين - وليس للكل بالضرورة - من آثار تلك المتاعب والصدمات، فإخراج هذه الجانب من دائرة الوقاية مطلقا أيضا هو تحامق ناتج عن الرغبة في الظهور كنصير العلم ومحارب الرجعية، وإلا إذا مرض طفل أو حتى شاب نفسيا بسبب معاملة والديه فلا تطلب من والديه تغيير معاملتهما له لأن معاملة الوالدين لا تؤثر على السرطان سلبا أو إيجابا، لكل إنسان احتياجاته، ولكل حالة متطلباتها، مغفلون ومخطئون خطأ جسيما من أراهم – وهم أيضا كثير للأسف – يتهمون كل مريض نفسي بأنه ضعيف الإيمان، ولكن لا يكون علاج حماقتهم بالتطرف المضاد أبدا.
أخيرا: الابتزاز في كل شيء أصبح سيد الموقف، نعم يا أخي لا أحد يضمن الثبات على الطاعة، ولا الصبر عن المعصية، ولا يضمن البقاء في صحة نفسية جيدة، ولا يضمن أن يختم له بالخير
 يارب نجنا مالناش غيرك يا كريم
 وكل هذا لا علاقة له بأن يحل المرء ما أحل الله ويحرم ما حرم الله!
تكلمت سابقا عن عبارة (لعله يكون عند الله أحسن منك) في حال إنكار أي منكر عموما، أما في موضوعنا ما أن يقول أحد الانتحار كبيرة وحرام إلا وفتحوا عليه أبواب العلب المغلقة (وما يدريك أنك لا تفعل هذا في المستقبل)، يا أخي هل تترك القاتل يقتل لأنك قد تقتل والعياذ بالله في المستقبل، وكذلك السارق والجاسوس والكذاب و...، أتدري؟ حتى لو أنك واقع في خطأ ما الآن وليس في المستقبل، فعليك أن تنكره وتنهى عنه مع مجاهدة نفسك للإقلاع بالتأكيد! أين التعارض والمشكلة! إن تكلم المتكلم فقد ينقذ روحا قبل أن تهون على صاحبها وتزهق عمدا، أما إذا انصاع لابتزازك وصمت فما المكسب الذي تحارب لأجله كل هذه الحرب عند كل كلمة حق تقال، إنك تبرر لمن مات تبريرا لن ينفعه فهو بين يدي الرحمن يكفيه دعاءك ودعاءنا أجمعين، ولكن تبريرك يقرأه الحي المهتز وهو من سيتأثر به، احسبها صح مرة بالذات المرة دي.
والأعجب أنك تقولها باسم الرحمة وهي أبعد ما تكون عن الرحمة، أتدري لماذا؟ تجدها في المنشور السابق، فقد وجب علي أن أتوقف عند هذا الحد.