الاثنين، 3 فبراير 2020

وزاء موسى وجنوده



فجأة وبدون مقدمات، بدأت أتأمل في حال تلك الصبية الصغيرة التي كلفتها أمها أن تبحث عن أخيها الرضيع الذي ضاع في النهر، (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ)، ولكن ما مجال وحدود البحث؟ الدنيا كلها، فلا يعلم أحد أين يمكن أن يكون، لا يعلم أحد هل نجا من النهر أصلا أم لا، تنطلق في الطرقات والأسواق لتتفحص وجوه وأيادي آلاف الناس بلا يأس أو كلل، حتى تسمع وسط هذا الزحام صوتا تعرفه رغم تقارب الأصوات في هذا السن، وتلمح وجها تألفه رغم تقارب الملامح بين الرضع، (فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) إن أضعف الاحتمالات قد وقع، الطفل الضائع في النهر محمولا بين أيدي الناس على البر في زحام الأسواق، نعم إنه هو، ولكن مع من؟ إنه بين أيدي الطغاة الذين لم تلقه أمه في اليم أصلا إلا خوفا من وصولهم إليه! يا ترى كيف كانت صدمتها! كيف كان فزعها! بل وكيف كان عجبها حينها إذ رأتهم لا يبحثون عن سيف يذبحه ولكن عن أم ترضعه!
-
تخيلتها من الفرحة تجري إليه، أو من الصدمة تصرخ، أو إلى أمها تركض، لا أرى أن صبية يمكنها في مثل هذا الموقف أن تفعل شيئا آخر، ولكن الوزير الموفق من قبل الإله العظيم الحكيم تبارك وتعالى يتماسك ويتصرف بصورة لعلها أكثر إعجازا من إعجاز العثور على الرضيع، تتصرف كمدير تسويق ذكي وجد صفقة رابحة، تحبس دقات قلب الأخت المحب المشفق وتتكلم بلغة جامدة تناسب الموقف والعميل (فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)) فيعيده الله تعالى إلى حضن أمه بربأطة جأش أخته وحسن تصرفها (فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)، ولتعيد قصتها تعريف (العزوة) في نفوس ووجدان المؤمنين إلى يوم الدين، فقد أعادت يد أخت واحدة طفلا رضيعا من الضياع إلى أسرته، وضاع طفل واع على أيدي أحد عشر أخا نقلوه من أمان الأسرة إلى ضياع المجهول.
-
لعل فرعون كان يستعرض جنوده الأشداء كأي قائد عسكري كبير، وينظر في مجلسه إلى وزرائه الدواهي الذين يعينونه على إحكام قبضته على الخلق، فيبتسم مطمئنا على استتاب الأمر في يده، بينما يجلس نبي الله موسى في المقابل على عرش من التوفيق وحوله من الوزراء والجنود من لا يستطيع فرعون أن يقاتلهم فضلا عن أن يراهم.
وزير موسى وجنديه، ذلك الإلهام إلى أمه (أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)
وزير موسى وجنديه ثبات الأم حين ضاع (إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
وزير موسى وجنديه ماء النهر الذي لم يغرقه ولم يتركه إلا على باب قصر فرعون (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ)
وزير موسى وجنديه تلك المحبة التي يفشل الجميع في مقاومتها (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي)
وزير موسى وجنديه الجوع ورفض المراضع الذي لولاه ما خرجوا به من القصر أصلا (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ)
وزير موسى وجنديه ما كان من شأن بحث أخته وثباتها وذكائها.
وزير موسى وجنديه الناصح المجهول الساعي من أقصى المدينة (قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)
وزير موسى وجنديه عجز والد الفتاتين عن الخروج للعمل (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)
وزير موسى وجنديه رغبة الفتاتين في ترك العمل (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)
-
كل هؤلاء الجنود والوزراء وغيرهم ممن لم أذكر أو أتذكر سخرهم الله تعالى في حياة موسى عليه السلام قبل أن تأتيه النبوة، قبل أن يطلب وزيرا من أهله (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30))، كل هؤلاء قبل جنوده التسع (العصا واليد والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والدم والضفادع)، كل هؤلاء قبل السحرة وإيمانهم، قبل مؤمن آل فرعون وقوة حجته وشجاعته، قبل شق البحر وإغراق الماء الذي أهلك جيشا ولم يهلك طفلا في تابوت صغير.
أعد النظر إلى قصر فرعون ومجلسه المزدحم بعلية القوم، وإلى جيشه الذي لا ترى آخره من الكثرة والقوة والعتاد، لقد كانوا في لحظة البلاغ يقفون أمام رجلين اثنين متجردين للناظر من كل قوة وجند، مواجهة غير متكافئة محسومة لصالح فرعون، ولكن من يوسع نظره إلى ما وراء المشهد، لربما أشفق على فرعون وجنده من هذه المواجهة، وأشفق عليهم من الورطات التي وضعوا أنفسهم فيها، ولكن قد كانت الفرصة في أيديهم ليدركوا حجمهم، وتجددت مرارا مع كل آية، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)) سورة الأعراف


شهوة الروح




إذا أراد الزوج إبداء المظلومية في خلاف بينه وبين زوجته قال (تفعل معي هذا وأنا لم أقصر معها في شيء) يعني بذلك غالبا عدم التقصير في الإنفاق وشراء الاحتياجات.
وإذا أرادت الزوجة فعل المثل قالت (يفعل هذا معي وأنا لم أقصر معه في شيء) وتعني غالبا العلاقة الزوجية وطبخ وغسل الاحتياجات التي اشتراها الرجل.
وكل هذا متعلق بشهوات الجسد واحتياجاته، ولكن أين شهوة واحتياجات الروح!

وشهوة الروح هي الشعور بالاهتمام، الشعور بأنك مختلف عند شخص معين، يعنيه أن تكون بخير وألا يمسك سوء، يهمه أن تكون سعيدا وألا تكون حزينا ولو كنت بعيدا عنه لن يرى سعادتك أو حزنك، نعم هذه شهوة يحتاجها الإنسان جدا، وأهم مصارفها في الصغر اهتمام الوالدين، وفي الكبر اهتمام الزوج والزوجة وكذلك الأصدقاء والأرحام، ثم في الشيخوخة اهتمام الأبناء ومن تبقى من الأصدقاء والأرحام.

فالسكن والمودة والرحمة الواردة في آية الزواج هي أمور متعلقة بالروح أكثر من تعلقها بالجسد والمادة، والعمل على إشباع هذه المشاعر هي أولى واجبات الطرفين قبل أن ينسب أحدهما لنفسه (عدم التقصير)، وقبل أن يتعجب أيا منهما من نفور الطرف الثاني أو تأثره بمؤثرات خارجية لم يكن يتوقع أن تؤثر فيه بعد كل ما بذله لأجله – في ظنه.

تساءلت يوما بعدما سئلت عن مأساة (الشات) التي يقع فيها الكثير من الرجال في عصرنا، ما الذي يجعل رجل يتعلق بامرأة تراسله (كتابة) فقط، لم يرها، لم يسمع صوتها، لا يدري أصلا إن كانت امرأة أو رجل، وفي أحيان كثيرة يخلو الحوار بينهما من الكلام (القبيح)، فيزيد هذا المتسائل حيرة، فقط (سلامات وطيبون)، وماذا أكلت اليوم؟ إياك أن تدخن فتدمر صحتك! عدني بأن تقلل القهوة حتى لا تضر بضغطك، ولماذا أشعر بأنك مش في (المود).. إلخ، ما المكسب من هذه الحروف والنقاط الصماء!، فلم أجد إجابة سوى شهوة الروح! الشعور بالاهتمام الذي يبدو مجردا، الشعور بأن شخصا ما لا يطلب منه نفقة ولا مسئوليات يهتم بأن يكون سعيدا، بينما يؤدي ما يؤدي في البيت ولا يظهر له هذا الاهتمام.

وبدت نفس المشكلة عند النساء أيضا، لماذا تقع الكثير من النساء في الإعجاب بأولئك الذين يجيبون على الاستشارات سواء مباشرة كالأطباء النفسيين أو على الانترنت، أو حتى في الدردشات العقيمة مع رجال قد لا يتجاوزون أيضا (السلامات والطيبون)، أو تعليقات باردة على المنشورات والصور، وطبعا جروبات الشكاوى والحكايات، إنه ذات الشعور المفقود بالاهتمام، الشعور بوجود من يسأل، من يلاحظ التغير في صيغة العبارات المكتوبة فيستشف السعادة والحزن، بينما من يرى المرأة أمامه ثلاثية الأبعاد ويسمعها على الهواء لم يظهر أي عناية بأي شيء.

بالطبع لا يتوقف الأمر عادة عند شهوة الروح فهي خطوة من خطوات الشيطان أعاذنا الله من شروره وشرور أنفسنا، لكن غياب إعفاف الروح خطير وإن عف الجسد وتوفرت المادة، لأن الأولى تحكم الثاني وتوجهه، وقادرة على تزهيد الجسد فيما يملك مهما كثر أو بث القناعة فيه مهما قلت الموارد المادية، بل وإن قلت الوسامة والجمال.
فالرجال والنساء واقفون طوابير على جروبات الطبخ والمشتروات والرياضة والتخسيس بل وعلى جروبات قذرة تزعم التثقيف الجنسي وحل مشكلاته، وجلهم رغم ذلك جوعى يشكون فاقة وفقرا في أرواحهم على جروبات أخرى لا تزيدهم إلا سخطا أو في حواراتهم الشخصية والافتراضية، أو حتى بينهم وبين أنفسهم.

وهذا الفارق يظهر كذلك بقوة في احتياجات الصغار من آبائهم كما ذكرت، فلا يذكر الشاب والمراهق لوالديه الألعاب والنزهات والملابس والحلوى والتعليم باهظ التكاليف قدر ما يذكر لهم العناق والقبلة والسؤال عن الحال والاهتمام إذا ظهر عليه الضيق أو الاكتئاب ولو لسبب تافه، وأيضا مواقع الاستشارات والـASK مشحونة بكلام الشباب والبنات عن هذا الفقر الشديد، وهو أيضا باب خطر كبير عليهم إذا وجدوا هذا الشعور من مصدر خارجي قد يكون فاسدا، فيطيرون نحوه كالفراشات نحو النيران المشتعلة لا يأخذ بحجزها شيء، ولا يأخذ بحجزهم بعد حفظ الله تعالى إلا قوة اهتمام موازية تحقق لهم اتزانا نفسيا ضد ما يثير شهوات روحهم قبل أجسادهم، وكم من أب وأم يدعون عدم التقصير في حق أبنائهم وبناتهم بنفس المنطق السابق، بينما هم لم يطعموا أرواحهم وقلوبهم شربة ماء واحدة، حتى قالت فتاة يوما أن والدتها لا تعانقها أبدا، ولا تدري ماذا تفعل كي تجعلها تعانقها دون أن تطلب منها لأنها كبرت على الطلب ولن تتحمل أي إحراج، مع إقرارها أن والدتها لا تقصر في خدمتهم المادية، ما الذي يحقق لمثل هذه الفتاة الإتزان إذا فاجأها مصدر - ولو كان فتاة أخرى – يسكب اهتماما في هذا الفراغ مختلطا بمفاسد عدة ما لم يشأ الله حمايتها بلا أسباب أرضية!

الشجون كثيرة، والكلام يبحث عن خاتمة ولا يجد، ولكن أكتفي -عنوة - بهذا القدر آملا أن تصل الرسالة.


حول الانتحار

بسم الله، رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي
أولا: إن الجزم بأن أي منتحر هو بالضرورة مريض نفسي أو فاقد الأهلية والوعي وتبرير موقفه ودفع أي إنكار عام أو خاص بهذه الحجة دون تعرف على كنه الحالة أصبح يشبه تبرير الطلاق بالغضب، وتبرير أكل الحرام أو الربا بالضرورة، ووجه الشبه هو إهمال ضبط المبرر، فصاحب هذه العبارات المعلبة المعبأة حديثا عادة لا يفرق بين الحزن والضيق والشعور باليأس وبين المرض النفسي أصلا، بعيدا عن كون المرض النفسي مبررا مقبولا دائما أم لا وهو ما سأتطرق إليه لاحقا، يقولون أنه بالتأكيد كان يمر بمشاعر صعبة (تبرر) له هذا وترفع القلم عنه!، فذكرني هذا بمن سأل شيخا عن يمين طلاق رماه على زوجته ويريد من الشيخ أن يسقط هذا اليمين فبرره بأنه كان غاضبا، فقال له الشيخ (يا بني لا أحد يطلق زوجته وهو يأكل (يقزقز) لب)، طبيعي يكون غضبان، أين الإضافة؟ لكن هل معنى هذا أن أي غضب سيدخله في دائرة الغائب عن الوعي تماما وتسقط عنه التكليف؟ كم من بيوت يخشى أنها تقوم على الزنا بسبب طلقات لم تحتسب بهذه الدعاوى، وكذلك من يستحل الربا والأموال المحرمة بدعوى الضرورة، وتكون هذه الضرورة في حقيقتها احتياجا توسعيا وليس أساسيا لا تستقيم الحياة بدونه، والنفس المبالغة في التطلع قد يؤرقها الاحتياج التوسعي كما تؤرق الضرورات المضطر الحقيقي.
فكون المنتحر يمر بمشاعر صعبة فهذا أكيد، وإلا لماذا انتحر؟ ومع كون الأصل في المنتحر أنه يعاني متاعب قوية فقد جاء الحكم الشرعي بالتحريم وبالعد من الكبائر وبالتهديد بالخلود في النار، فالدنيا دار ابتلاء أصلا، فليست هذه المشاعر والظروف الصعبة مبررا في ذاتها لتصد به الإنكار، هي تحصيل حاصل لا معنى له ولا أثر.
وتصورك العجيب أن كل من يجد هذه المشاعر بالتأكيد مريض نفسي هو خلل عقلي! كونك لا تتصور أن يصدر هذا الفعل من إنسان طبيعي فهذا ضيق في تصورك أنت، ولم أر طبيبا نفسيا حتى يزعم أن أي قاتل لنفسه هو مريض نفسي يقينا! أبسط شيء هناك من يقتلون أنفسهم لأجل معتقداتهم وهم في كامل الصحة النفسية، وكم من معتقد أن الجحيم أرحم من متاعبه الآنية أيا كان نوعها بسبب خطأ تصوره لحجم متاعبه مقارنة بحساب الآخرة، أو لم يكتمل يقينه في هذا الحساب فرأى أن التراب أفضل من وضعه الحالي، في حالته هذا قرار عقلاني تماما يتحمل مسئوليته كأي اختيار آخر.
إن البعض يظن أن لن يبدو مثقفا منفتحا إلا إذا نفى أي سبب غير طبي لهذا الفعل، بل ولأي فعل، ما أن يسمع كلمة (إيمان) (يأس) (رحمة الله) إلا وانتفض معمما (إن الانتحار لا علاقــــــة له أبدا بالإيمان واليأس والظروف ولكنه المرض النفسي كالسرطان والالتهاب الرئوي الذي يصيب الصالح والطالح)، طبعا بعيدا عن تشبيه السرطان بالمرض النفسي والذي يكشف قدر العجب في الموقف، ولكنك أردت أن تبدو مغايرا للجاهل الذي لا يرى أن الأمراض النفسية لا يمكن أن تكون لها أسباب سوى ضعف الإيمان، فمارست نفس جهله في التعميم العكسي.
معادلة أن المتاعب والضغوط النفسية = مرض نفسي، وأن المرض النفسي = رغبة آلية في الانتحار، يرفضها الواقع قبل العقل، فالأصل في الناس حب الحياة والحرص عليها، فقراء ومعدمو العالم يشهدون، أهل المجاعات والجفاف يشهدون، المعتقلون لعشرات السنوات يشهدون، آلاف وملايين النماذج الذين لاقوا من أهلهم ومن حولهم أهوالا واستمرت حياتهم بل ومنهم من تميز تميزا خاصا يشهدون، أهل الحروب واللاجئون يشهدون، فأكثرهم لم يمرضوا نفسيا، وأكثر من ابتلوا بالمرض النفسي لم ينتحروا، وكثيرا ما يأتي الانتحار خارج هذه الدائرة تماما.
ثانيا: في مقاومة الجهل يشارك صديقنا المثقف عاليا – وأنا معه – في التوعية دوما بشأن المرض النفسي وكونه مرضا مثل أي مرض، وأنه يختلف عن المرض العقلي، وأن الجهلة هم الذين يساوون بين المريض النفسي والمريض العقلي، وأن اعتبار المرض النفسي دربا من الجنون هو ما يحول بين الكثيرين وبين تلقي العلاج، يدي في يده والله في أن نعامل من ابتلي ببعض المتاعب النفسية لأي سبب عضوي أو غير عضوي معاملة عادية لا فيها نفور ولا مبالغة في التعاطف بصورة تجرحه، لكنه في كل أزمة يسحب يده من يدي فجأة ويطالب – عمليا – بمعاملة كل مريض نفسي كمجنون مرفوع عنه القلم! الله يهديك، ماذا تقول وماذا تكتب من كلام جارح!
هل هناك من المتاعب النفسية ما قد يتعقد ويرفع القلم فعلا عن صاحبه؟ ربما، لا أدري ولا أختلف، لا أدري هل يقول الأطباء بهذا ولن أختلف معهم إن قالوا، ولكن ما أثق فيه أن الأمر لن يجاوز (بعض) الحالات لا سيما المتأخرة، فلماذا هذا التعميم الأخرق؟ لقد جعلت المرض النفسي مرادفا للجنون الذي لا يؤاخذ المرء فيه على أفعاله! وأصحابك يقرأون ويسمعون، تظن نفسك تدافع عمن مات وأنت لا تعرفه، وتفتح أبوابا للأحياء، إما باستسهال اللحاق به، أو للشعور بالإهانة من قبلك!
ثالثا: الكثير من المتاعب النفسية التي قد تتحول لمرض مؤقت أو مزمن ينتج من الظروف، سواء طويلة الأمد متراكمة التأثير أو من الصدمات، ومنها ما لا يكون هكذا وله أسباب جينية وعضوية حسب معلوماتي العامة، وهذا ما يمنع في رأيي المساواة المطلقة مع السرطان والنزلة المعوية، وهذا ما يجعل الكلام عن كون البناء النفسي والإيماني وتصحيح الكثير من تصورات الناس الخاطئة عن طبيعة الدنيا وقاية للكثيرين - وليس للكل بالضرورة - من آثار تلك المتاعب والصدمات، فإخراج هذه الجانب من دائرة الوقاية مطلقا أيضا هو تحامق ناتج عن الرغبة في الظهور كنصير العلم ومحارب الرجعية، وإلا إذا مرض طفل أو حتى شاب نفسيا بسبب معاملة والديه فلا تطلب من والديه تغيير معاملتهما له لأن معاملة الوالدين لا تؤثر على السرطان سلبا أو إيجابا، لكل إنسان احتياجاته، ولكل حالة متطلباتها، مغفلون ومخطئون خطأ جسيما من أراهم – وهم أيضا كثير للأسف – يتهمون كل مريض نفسي بأنه ضعيف الإيمان، ولكن لا يكون علاج حماقتهم بالتطرف المضاد أبدا.
أخيرا: الابتزاز في كل شيء أصبح سيد الموقف، نعم يا أخي لا أحد يضمن الثبات على الطاعة، ولا الصبر عن المعصية، ولا يضمن البقاء في صحة نفسية جيدة، ولا يضمن أن يختم له بالخير
 يارب نجنا مالناش غيرك يا كريم
 وكل هذا لا علاقة له بأن يحل المرء ما أحل الله ويحرم ما حرم الله!
تكلمت سابقا عن عبارة (لعله يكون عند الله أحسن منك) في حال إنكار أي منكر عموما، أما في موضوعنا ما أن يقول أحد الانتحار كبيرة وحرام إلا وفتحوا عليه أبواب العلب المغلقة (وما يدريك أنك لا تفعل هذا في المستقبل)، يا أخي هل تترك القاتل يقتل لأنك قد تقتل والعياذ بالله في المستقبل، وكذلك السارق والجاسوس والكذاب و...، أتدري؟ حتى لو أنك واقع في خطأ ما الآن وليس في المستقبل، فعليك أن تنكره وتنهى عنه مع مجاهدة نفسك للإقلاع بالتأكيد! أين التعارض والمشكلة! إن تكلم المتكلم فقد ينقذ روحا قبل أن تهون على صاحبها وتزهق عمدا، أما إذا انصاع لابتزازك وصمت فما المكسب الذي تحارب لأجله كل هذه الحرب عند كل كلمة حق تقال، إنك تبرر لمن مات تبريرا لن ينفعه فهو بين يدي الرحمن يكفيه دعاءك ودعاءنا أجمعين، ولكن تبريرك يقرأه الحي المهتز وهو من سيتأثر به، احسبها صح مرة بالذات المرة دي.
والأعجب أنك تقولها باسم الرحمة وهي أبعد ما تكون عن الرحمة، أتدري لماذا؟ تجدها في المنشور السابق، فقد وجب علي أن أتوقف عند هذا الحد.