الأحد، 4 أغسطس 2013

الخروج الآمن من مية البطيخ



الخروج الآمن من مية البطيخ
معتز عبد الرحمن

لقد تعبدنا ربنا بقول كلمة الحق في وجه السلطان الجائر ، بل بقولها في كل موضع ، وإن من المواضع التي انتشرت في زماننا ويصعب فيها قول الحق هي التي تكون الكلمة فيها موجهة إلى شعب جائر أو جزء منه ، والجور هنا بمعنى صعوبة قبولهم لها وسلخهم لكل من يقول ما يخالف قولهم ولو بحرف، لا يكفي أن تتفق معهم في الموقف العملي ثم تختلف في بعض المسميات والإشارات، بل ينبغي أن تتفق معهم في الموقف والمسميات والأقوال والهمسات والشهيق والزفير بل والأحلام والرؤى وإلا فأنت كذا وكذا ، وكم من حق ومفاهيم تذبح عند هذه العتبات ، وكم من باطل يرتدي ثياب الحق، وحق يتهم بالباطل تحت شعار الوحدة في الأزمات ، وهذا ما دفعني لكتابة هذه التوضيحات على مضض ، ولكن التبيين والتوضيح ليس خيارا أو رفاهية وإنما واجب شرعي تأخيره أو إهماله عواقبه لا تحتمل إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة ، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع.

نحن شعب يعشق الخلط ، وتعسير اليسير وتعقيد السهل ، يرى الخيط الأبيض والخيط الأسود منفصلين فيعمل على جمعهما في ضفيرة واحدة ، فإذا قبلتها حبا في الأبيض قيل أنت تريد السواد ، وإذا رفضتها بغضا في الأسود قالوا تبا لك كم تكره الخير والبياض! وهذا ما يحدث حاليا - كالعادة - في الشريعة وعلاقتها بالمعركة الدائرة على أرض الوطن ، ليست المشكلة كما ذكرت عاليا أن تتخذ موقفا عمليا نهائيا بالوقوف في جهة ولكن المشكلة أن تتبع ذلك بخلط الأمور وتزييف الحقائق ، ببساطة إخوتي نحن أمة مأمورة دوما بالتعامل مع الظاهر وإحالة السرائر إلى من يعلم السر وأخفى ، أمة من قواعدها أيضا أن النية الصالحة لا تصلح العمل الفاسد ، فإذا فسد العمل ظاهرا فلا مجال للحديث عن النية وحسنها ، بالضبط كما أنه إذا صلح العمل الظاهر ليس من حق أحد أن يشكك في نواياك وإخلاصك.

وقع انقلاب الثالث من يوليو 2013 على نفوس الأحرار كحد السيف ، وانفجرت الأوضاع وتحرك معارضو الانقلاب في كل مكان ليعرقلوه ، وتحولت تظاهرات الإخوان المحدودة لحد كبير والتي بدأت قبل 30 يونيو إلى مليونيات حقيقية تجمع كل من رفض الانقلاب وإن كره مرسي وجماعته ، والتقدير السياسي "الدستوري" والتقدير الثوري للخطوة ليس هذا مجالهما ولكني هنا أكتفي بالتعليق على تعلق الأمر بمسألة الشريعة وقضيتها ، وهنا أقول هذه الإشارات:

1- لا يوجد لدي مجال للشك أن فئة كبيرة من مؤيدي وداعمي الانقلاب لا سيما من الرموز والمشاهير هم في الحقيقة يعادون الشريعة لا مرسي والإخوان ، وليست قضيتهم أبدا الكهرباء والبنزين ، ولا الأخونة وحسن الإدارة ، ولا بالقطع الديموقراطية التي يأكلونها كلما لفظتهم ، ولكنهم من فرط تطرفهم يرفضون مجرد وجود المسمى في اسم أو سمت من يحكم وإن لم يعمل به ، أو مجرد وجود مواد دستورية كارتونية لم ير لها أثر على الأرض ولا يتوقع أن يرى لها أثر في المستقبل ، ولكن الأمور عندهم واضحة ولا مجال للتنازلات ، وقد أكدت في بداية الفقرة أنها فئة كبيرة وليس الجميع ، وإن كان نسبة كبيرة أيضا من البقية إن كانوا لا يعادون الشريعة ولكنهم على الأقل لا يعبأون بقضيتها ولو عاطفيا.

2- وجود فريق معادي للشريعة وأحكامها في صفوف خصوم الإخوان لا يعني بالضرورة أبدا أن الإخوان ملتزمون بها ويمثلونها ، ولكن كما ذكرت تطرفهم يدفعهم لمعاداة مجرد الظاهر والمسمى وإن لم يلتزم به الإخوان عمليا على الأرض ولم يظهروا حتى نية واضحة للالتزام به إلا في مؤتمرات الجعجعة الانتخابية، وهنا مكمن الموضوع ، الإخوان لم ير منهم خلال عامين ونصف - ولن أتحدث عما قبلها - أي التزام يذكر بهذه الشريعة ، لا في قراراتهم السياسية ولا الثورية ولا في الغرف المغلقة ولا في الولاء والبراء ولا في البرلمان المختص بالتشريع بل صرح كبارهم فيه بوضوح أن الحكم للشعب وللشعب فقط ، وإن تعلق القانون والقرار بحكم شرعي صريح فأيضا الكلمة الأولى والنهائية للشعب لا للشرع وعلمائه ، ولم ينكر عليهم أحد من جماعتهم بل أخذت القرارات بإجماع كتلتهم في الشورى ، وكذلك الدستور الذي تولى الإخوان كبره لم ير منهم حرصا إطلاقا على الشريعة فيه ، وحتى المادة الجديدة التي لا تغني شيئا كانت المعركة فيها لحزب النور منفصلا بينما وقف الإخوان يشاهدونه وهو يتصارع مع القوى الليبرالية في اللجنة ، وبعضهم كان يبرر ذلك بأن العبرة في التنفيذ والسلطة التنفيذية لا التشريع ، فأما في السلطة التنفيذية فلم نر سوى البحث عن القروض الربوية وتجديد رخص الكباريهات واحترام الراقصات ، والتطبيع مع قتلة السوريين ، بل إن الرئيس محمد مرسي صرح مرتين بأن الشريعة هي تلك المبادئ العامة "الكيوت" التي لم تغادر دستور مصر منذ دستور 71 ، الأولى إذ كان رئيسا لحزب الحرية والعدالة فسألوه عن الشريعة فقال نصا أنها موجودةalready في الدستور وأنه ليس هو من سيطبقها ، وعندما سئل عن الحدود قال (لا لا هذه ليست الشريعة هذه أحكام فقه)! وبالمناسبة عندما كتب علاء الأسواني مقالا يقول فيه نفس الكلام تم انتقاده والرد عليه ، وعندما قالها مرسي لم ينتفض أحد يذكر ، والثانية عند قصر الاتحادية بعد الإعلان الدستوري الذي أصدره إذ هتف المتظاهرون (الشعب يريد تطبيق شرع الله) فأجابهم أن نعم الشرع هو العدالة والمساواة و كذا وكذا من المبادئ التي لا يختلف عليها أحد والتي كانت موجودة في المادة الكارتونية منذ القدم بل والتي قال بها أيضا علاء الأسواني في مقاله وغيره من العلمانيين والليبراليين واليساريين.

إذن من المهم جدا أن تنفصل الخيوط ، نعم إن هناك حربا على الشريعة في مصر من علمانيين معلومي العداء والمكر أخذوا الهجوم على الإخوان سبيلا إليها ، ولكن ينبغي ألا يدفعنا هذا لأن نخلع على القوم ما ليس فيهم ونلبسهم رداء لطالما رفضوه إلا في الأزمات ، والأهم من ذلك ألا يدفعنا هذا لترك قواعدنا الشرعية المذكورة عاليا من الحكم بالأفعال والظاهر لنغوص في مياه الدروشة والبطيخ بالحديث عن الرؤى والأحلام تارة ، أو بعبارات من نوعية (ماذا بينك وبين ربك يا رجل كي تخرج هذه الجموع لأجلك ويدعو لك الناس في الحرم و و و) ، إن ما بين الرجل وربه لا يعنينا في شيء ولسنا مكلفين بتتبعه ، وليس دليلا على أنه على الحق أو أنه رجل الشرع الذي على الجميع نصرته نصرة مطلقة غير مشروطة ، ناهيك أن هذه الجموع أغلبها لم يخرج لأجله أصلا ، وأنت نفسك من تقول ذلك عندما تسوق للقضية عند غير الإسلاميين وعند الغرب أن القضية ليست مرسي ولكن الحرية والديموقراطية وخلافه ، والعجيب أنني أرى هذه الدروشة من أناس سلفيين وهم أدرى الناس بهذه القواعد وأكثر تمسكا بها ، فمالكم كيف تحكمون؟ إن الإخوان لم يكونوا ولا يريدون أن يكونوا حامل لواء الشريعة الصافية وتطبيق أحكامها الواضحة وإن غضبت الدنيا كلها ، وفرق بين اللواء وبين اللافتات، وحتى هذه اللحظة وبعدما تبين لهم أنك مهما استرضيت الناس بمخالفة الشريعة فلن يجديك نفعا انظر وتابع حتى مجرد التصريحات فلن تجد أحد من قياداتهم تتحدث عنها إلا من هم في الأصل دعاة ومن هم في الأصل يتحدثون عنها كثيرا ولا ينكرون على أنفسهم مخالفتها كصفوت حجازي والدكتور صلاح سلطان وغيرهم ، أما الحديث الرسمي وأغلب الحديث غير الرسمي فأنتم تعلمونه جيدا ، فلا ينبغي على مسلم أن يقبل أن تنسب أفعال الإخوان الآن وأقوالهم وأسلوب إدارتهم للمعركة إلى الشريعة وأن ينسب حكمهم الماضي والمحتمل إلى الشريعة وأحكامها فنستمر في ظلم الشريعة معنا كما عودناها.

3- تأتي النقطة الهامة ، هل معارضة الانقلاب والمشاركة في التظاهر ، أو حتى المطالبة بعودة مرسي صراحة ممكن أن تعد نصرة للدين والشريعة؟
في رأيي أن ذلك ممكنا بالطبع ولكن من وجوه أخرى ليس لها علاقة بالرؤى والأحلام وما بين مرسي وربه تبارك وتعالى ، فمثلا:

أ. إن نجاح الانقلاب سينتج عنه تضييقا كبيرا جدا - بوادره ظاهرة بوضوح- على كل من يطرح طرحا إسلاميا صحيحا لا يفصل الدين عن الحياة ، مما يعني أن حالة الجفاء التي بين الكثير من المصريين وبين دينهم ستزداد بدلا من أن تتناقص وسيتم استغلال أن آخر فصيل حكم كان منتسبا بالمسمى للتيار الإسلامي في إماتة قضية الاحتكام إلى الشريعة عقودا قادمة ، نعم لقد كنا مقصرين في الدعوة ونعم لقد ساهمنا في هذا التشويه الذي لا يعذر ضحاياه ولكن في جميع الأحوال فرق كبير بين أن يكون المجال موجود وأنت مقصر وبين أن يغلق المجال أساسا ، وفي جميع الأحوال أيضا من باب التذكرة علينا التوبة والاستغفار من كل تقصير بدر منا هذه الفترة عسى الله أن يتوب علينا ويصلح أحوالنا ، علينا التوبة بدلا من الاستكبار وتكرار الأخطاء.

ب. إن إفشال الانقلاب وإفشال عودة نظام مبارك المتخفي سيحقن الكثير من الدماء البريئة وليس العكس كما يظن البعض ، وليست دماء الإسلاميين فقط أيضا كما يظن البعض ، بل دماء الثوريين ابتداء والذين يقف الكثير منهم للأسف موقف الشامت المتشفي وهو لا يدري أن مصيره هو نفس مصير من شمت فيهم ، ثم دماء المصريين عامة الذين سيعودون يموتون في السجون والأقسام والعبارات والقطارات وبالمبيدات والسرطانات وغير ذلك مما عانوه طوال عقود في كرامتهم وقوتهم ودمائهم.

ج. إذا كان الإخوان لم يطبقوا ولا يطبقون شرعا ، ولكن على الأقل فحالة الحرية والانفتاح التي نتجت عن ثورة يناير كانت تعطي أملا في التغيير ولو على يد غير الإخوان ، وأن الوعي وما ينتج عنه من تيسير تطبيق الشرع ممكن ومتاح ، أما في ظل نظام مبارك الجديد الذي سيخنق البقايا القليلة من ثورة يناير فلا أمل ولا غيره وسيظل الوضع كما هو عليه إلى أجل غير مسمى، وأظن أن هذه كانت نوايا الكثير من الإسلاميين الذين نزلوا في ثورة يناير الشعبية والتي لم تكن ترفع شعار الشريعة.

د. هي نوايا محمد محمود أيضا ، نصرة المظلوم ومؤازرته ، ومما لا شك فيه أن معارضي الانقلاب الآن يتعرضون لظلم ليس له مثيل ، فقد سفكت دماؤهم ورميت أعراضهم ونسجت حولهم الأكاذيب التي لا يصدقها عاقل ولكنها في مصر تجد ملايين المصدقين ، وإن مساندتهم ولو من باب الانصاف ودفع الظلم عنهم وإبطال الصورة الكاذبة التي تنسج حولهم كي يستباح المزيد من دمائهم نوع من العبادة والخير ، فإن دماءهم لم تعد تستباح في الميادين التي يدفنون فيها ضحاياهم في كرة أرضية تحت الأرض وحسب ، بل في شوارعهم ومحلاتهم قتلا وحرقا لمجرد أن تعفي لحيتك أو يظهر من سمتك واسم محلك أي نزعة إسلامية، وهذا ظلم وبغي عظيم يهدد استقرار البلاد كلها.

وقد يكون هناك من النوايا الأخرى ما لم يفتح الله به علي ، ولكن الأكيد عندي أنه ليس من بينها أن العودة المجردة لمحمد مرسي نصرة للشريعة في حد ذاتها، هذا إن تحدثنا عن نوايا إسلامية ، أما من يتحدث عن نوايا ديموقراطية فحدث ولا حرج ، فما حدث هو اعتداء سافر على الديموقراطية وآلياتها بل وفلسفتها ومن أراد أن يناضل ويتخذ نوايا من هذا المنطلق فلن يعجز أبدا..

أخيرا كل ما كتبته وأسهبت فيه إنما هو حرص على أن تظل دوما الأمور في نصابها الصحيح ، ليست القضية أن نتخذ موقفا موحدا وحسب ، بل إنه في نفس الموقف ينبغي أن تنضبط النوايا والمسميات وألا نعيش خرافات وخزعبلات ، ونخلط كلمة من الشرق على كلمة من الغرب ونقول كلاما أقرب للبلاهة منه للمنطق والواقع يثير السخرية منا ويضيع قضيتنا أكثر وأكثر ،وكي لا نكون كمن يقول عنهم المثل المصري (عايشين في مية البطيخ)..