الاثنين، 8 يونيو 2020

ميزان النعم


الوقفة الثانية: ميزان النعم
وهو من الموازين التي يكثر استخدامها أيضا من قبل الكثيرين لتقييم الحق والباطل والصواب والخطأ لذا فدعونا نتتبع هذا الميزان في كتاب الله عز وجل لنفهم مدى دلالاته وما هي ضوابط استخدامه في ضبط مواقفنا وتوجهاتنا.
هل الرخاء يعبر دائما عن رضا الله عز وجل عن المنعمين؟

ذكر القرآن الكريم أصنافا من المنعمين المغضوب عليهم منها على سبيل المثال لا الحصر..
(لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)) سورة آل عمران
(كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)) سورة التوبة ، وفي حديث نبي الله صالح لقومه ثمود (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ (149)) سورة الشعراء ، (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)) سورة سبأ.

إذن فمعنى ذلك أن الرخاء يعبر دائما عن غضب الله على المنعمين كما تبين في الآيات السابقة وغيرها كثير، هل هذا صحيح؟ تأمل في قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96)) سورة الأعراف ، وفي قوله تعالى (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112)) سورة النحل ، وقوله تعالى (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)) سورة سبأ!

إذن فهل معنى ذلك أن النعمة والرخاء لا يمكن أن يستخدمان بأي صورة من الصور لقياس مكان المرء والأمة من الشرع ، لا يمكن أن يدلا على شيء أبدا؟

(وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44)) سورة الأنعام ، (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (95)) سورة الأعراف.

من مجمل الآيات الكريمات يتبين لنا أن ميزان النعم من الموازين التي ممكن اعتبارها في تقييم حال الفرد وحال الأمة ولكنه ليس ميزانا مستقلا قائما بذاته ، من الآيات يمكن أن يكون الصالح منعما أو مبتلى ، وممكن أن يكون الطالح منعما أو مبتلى ، ولكن دلالة النعمة مع وجود الصلاح والالتزام بدين الله دلالة طيبة جيدة ودعوة للشكر والاستمرار في الطاعة والقرب من الله ، أما وجود الابتلاء مع الالتزام فهو أيضا امتحان وتمحيص ورفع درجات (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ (214)) سورة البقرة ، أما المحنة والكرب مع وجود المعصية والبعد فهي نداء وتذكير وإفاقة لذلك الغافل العاصي عساه يرجع إلى ربه ويعود، أما قمة الخطر في أن تأتي النعمة مع المعصية فهي استدراج وباب هلاك كما تبين (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44)) سورة الأنعام.

إذن فليست النعمة في ذاتها دلالة رضا أو غضب وليس الابتلاء في ذاته دلالة رضا أو غضب فلينبغي أن ينظر معه في حال المرء وحال الأمة ومدى قربها وبعدها من دين الله ، لذلك فإن الذين يفخرون بابتلاءاتهم وتضحياتهم وكربهم ويتخذونها دلالة في ذاتها على صلاح مواقفهم ومناهجهم حجتهم داحضة وعليهم أن يثبتوا صحة مواقفهم ومناهجهم بالقرآن والسنة أولا قبل أن يقال أن هذا البلاء بلاء خير ، والعكس صحيح ، فإن العمل على تحقيق النعمة والرفاهية دون الالتزام بمنهج الله باب هلكة لا باب خير ، والمتحدثون عن أن الرفاهية أولا ثم الإسلام إذا حققوا شيئا من ذلك فعليهم أن يخافوا ويرتعدوا إذ وفقهم الله للنعيم دون الالتزام الكامل بالإسلام ، أما إذا وجدوا أنفسهم فاشلين في تحقيق ذلك فليشكروا الله وليعودوا إليه بدلا من أن يستزيدوا من التنازلات والبعد عن الحق الثابت قرآنا وسنة، إن قمة الفتنة أن تروج للناس فكرة الالتزام بالدين بأن تقص عليهم قصص شعوب حققت الرفاهية دون دين أو بكثير من التنازلات فيه! أنت تقول لهم صراحة أن الإسلام ليس الحل كما تزعم لا سيما بعدما روجت للإسلام كمشروع دنيوي تنموي كما بينت في الفصل الأول، قمة الفتنة أن تدعو الناس للرفاهية المطلقة ثم تنتظر أن تأتيهم بعد ذلك وتحدثهم عن تطبيق الإسلام ذي الفاتورة الغالية بعدما ذاقوا الراحة والنعيم ، أنت لا تدعوهم بتلك الرفاهية السطحية إلى الدين بل أنت تصعب عليهم الامتحان ، بل وتصعب على نفسك أنت أيضا ، فقد تكون أول الراكنين إلى الدنيا اللاهين فيها، ناهيك عن أن تحقيق ذلك التقدم والرفاهية أمر نسبي وأمر لا نهاية له ، فالفرق بينك وبين العلماني الفاصل تمام للدين عن الحياة أنه من الآن يفصل بينهما للأبد ، أما أنت فتفصل بينهما إلى أمد لن يلبث إلا ويتحول عمليا إلى الأبد.

من كتاب وقت مستقطع الفصل العاشر