الجمعة، 27 مارس 2015

عن مسألة.. سحر النبي صلى الله عليه وسلم

عن مسألة
سحر النبي صلى الله عليه وسلم

ومن الأمثلة المشهورة التي يستخدمها هؤلاء ليردوا السنة الصحيحة بالهوى مسألة سحر النبي صلى الله عليه وسلم ، يقولون أن في صحيحي البخاري ومسلم ورد تعرض النبي صلى الله عليه وسلم للسحر من اليهودي لبيد بن الأعصم ، وأن هذا لو أثبتناه يعد طعنا في نبوته فكيف نقبل به؟! فما يدرينا ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسحور وما قاله وهو معاف؟! (كأن النبي صلى الله عليه وسلم مات قبل انكشاف البلاء الذي يفسرونه خطأ أصلا)  ويضع القارئ والمستمع أمام اختيارين لا ثالث لهما ، إما أن تقبل الحديث وتسقط النبوة ، أو تثبت النبوة وتسقط الحديث ، وطبعا القارئ والمستمع البسيط المتعرض لهذا الإرهاب الفكري ماذا سيفعل؟!
هذا الأسلوب يذكرني بأيام الطفولة عندما كان بعض الأطفال الغريبة يسألون بعضهم البعض أسئلة من نوعية (تحب إيه أكتر تموت محروق ولا يأكلك أسد تعمل إيه؟!) .. والسؤال من الذي يجبرني على هذا الاختيار أصلا؟! .. وما يخضعني لهذه العقول الطفولية؟!

من الذي قال أصلا أن التعرض للسحر متعارض بالضرورة مع النبوة أو مؤثر على الرسالة لا سيما أن نوع السحر الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم مذكور بوضوح في الحديث ، ناهيك عن أنه كان أمرا عارضا في خلال ثلاث وعشرين سنة من الدعوة ، يقولون أن الحديث مخالف للقرآن ، وفي الحقيقة أن نفي الحديث هو المخالف للقرآن ، فاقرأ معي.

(عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت  : سحر رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال ( يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل ؟ فقال مطبوب قال من طبه ؟ قال لبيد بن الأعصم قال في أي شيء ؟ ... الحديث)
والرواية الثانية في الصحيح أيضا (عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت  : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا فقال ( يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للآخر ما بال الرجل ؟ .. الحديث)

إن السحر الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم لم يمس الوحي وما كان له أن يمسه ، بل كان أثره في أمر من أمور الدنيا ، أن يخيل إليه أنه فعل شيء وهو لم يفعله والرواية الثانية حددت هذا الشيء وهو إتيان النساء ، وهذا أمر دنيوي محض ، لم يخيل إليه أنه سمع من جبريل وهو لم يسمع منه ، لم يخيل إليه أنه أمر أمرا أو ونهى نهيا شرعيا وهو لم يفعل ، فالسحر أصاب الجانب البشري في النبي صلى الله عليه وسلم مثله مثل سائر الأسقام والآلام والجروح التي كانت تصيب النبي صلى الله عليه وسلم كبشر ، وتفيدنا في أن نتعلم منه كيف نتعامل في هذه المواقف ، وقد تعلمنا من الحديث رفع السحر بالإلحاح في الدعاء كما فعل بأبي هو وأمي ، فليتنا وقفنا أمام الحديث لنتعلم لا لنتوهم.

ومن المعلوم أن من يبتلى بالسحر في شأن ما لا يؤثر ذلك في بقية شئونه فمن أنواع السحر التي ذكرت في القرآن الكريم مثلا السحر الذي يفرق بين المرء وزوجه (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) سورة البقرة ، وهذا مشاهد في زماننا وكل زمان أن المبتلى بهذا السحر يكون معافى في كافة شئونه طبيعيا جدا إلا هذا الشأن ، فلما الخلط وافتراض عموم غير حقيقي.

السؤال الأهم: هل هذا التخييل يعارض النبوة في شيء؟ هل من خصائص النبي ألا يتأثر بتخييل السحرة في شيء لا يمس الوحي؟! هنا نعود للقرآن الكريم ..

لقد سحر سحرة فرعون أعين الناس ، وأوهموهم بسحرهم الذي وصفه القرآن بالعظيم أن الحبال والعصي حيات تسعى
(قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)) سورة الأعراف
 ولم تستثن عين نبي الله موسى من هذا التخييل
(قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)) سورة طه

خيل إلى نبي الله موسى كما خيل إلى غيره بل وأوجس في نفسه خيفة من المشهد الذي رآه وليس في هذا طعن في نبوته ولا في الشريعة التي بلغها للناس كما يزعم الزاعمون ،  وليس من خصائص النبوة ألا يتعرض النبي لمثل هذا النوع من السحر والتخييل بنص القرآن الكريم ، خيل إلى موسى أنه رأى ثعابينا وهو لم يرها ، وخيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يفعل الشيء (إتيان الزوجة) وهو لم يفعله ، ما علاقة الوحي في الأمرين؟  يفترضون الافتراض ويحددون الاختيارات الباطلة ويضعونك أمامها ويجبرك على الاختيار منها والاختيار الحقيقي ليس مكتوبا فيها.

واستكمالا .. هم يردون الحديث بقوله تعالى (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)) سورة المائدة ، ومن المعلوم جزما أن المقصود بالعصمة الحماية من القتل ، أما ما دون ذلك فالنبي يتعرض له كالإيذاء والمرض والجرح في الحرب ، وهذا النوع من السحر مثله مثل المرض العارض، بل من جهلهم بعضهم يرد بنفس الآية حديث الشاة المسمومة ، رغم أن السم لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأن الشاة حدثته بأنها مسمومة ولكنهم يرون أن مجرد وضع السم له يخالف العصمة ، فمن باب أولى أن مجرد رفع السيف عليه في معركة أو إصابته ودفعه ومرضه أمورا تخالف العصمة!! ولكن موازينهم مختلة.

ويقولون أن الحديث يصدق قول المشركين - بزعمهم -  (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)) سورة الإسراء ، وهذا واضح لمن يفهم أن المشركين كانوا يقصدون بذلك السحر الذي يجعلهم عجزة أمام هذا القرآن وبلاغته ، ويفشلون في تحدي الإتيان بسورة من مثله وهم أبلغ الناس وأفصحهم ، فأرادوا أن ينسبوا القرآن لقوة خارجية غير إلهية ليبرروا عنادهم وكفرهم فوصفوه صلى الله عليه وسلم بالساحر تارة والمسحور تارة ، حجة البليد كما يقولون والتي وصلت لأن ينسبوا القرآن الكريم الذي فشلوا في تحدي فصاحته إلى رجل أعجمي  (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)) سورة النحل، فوصف الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالمسحور  يقصدون به الوحي وليس هذا التخييل العارض في أمور الدنيا ،  بعيدا عن أنهم قالوا ذلك في بداية البعثة في مكة والواقعة كانت بعد الهجرة في المدينة محددة ببداية ونهاية ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه ومعجزاته ممتدة من أول لحظات الوحي حتى وفاته صلى الله عليه وسلم، قبل الواقعة وبعدها.

وهكذا يستخدم القرآن في غير موضعه ، وتوضع قواعد لا أصل لها ويحاكمون الحديث على أساسها كما بينت من قبل في مثال الحيض وعدة أم المؤمنين صفية.

ملحوظة: ستجد نقاش كل هذه الأحاديث والشبهات في كتب كتبت في القرن السابع والثامن الهجري ، فكما ذكرت من قبل هم لم يأتوا بجديد ، وأننا أمة لم تدخل الكهف بعد البخاري وتستيقظ الآن ، ولكن من يبحث ويتعلم؟!


ملحوظة أخرى: كثير ممن يثيرون هذه النقاط يشككون في الأمور الغيبية الثابتة في القرآن بما فيها السحر عموما ونصرة الملائكة للمؤمنين وغير ذلك لكنهم لا يكشفون ذلك إلا بعد الاطمئنان أن الطعم الأول قد أبتلع بنجاح.

الخميس، 26 مارس 2015

يعني إيه كلمة (نبي)؟

#إعادة_ضبط_المنطق (2)
يعني إيه كلمة (نبي)؟
.
ما الذي يجعلك تستنكر فتح مهندس لعيادة طبية؟ وما الذي يجعلك تشرب الدواء الذي وصفه الطبيب بالمقدار الذي حدده ولا تقبل شرب نفس الدواء بنفس المقدار إن  صدر الوصف من مدرس؟ تتناوله متجاهلا كون طعمه مر أم حلو وكون أعراضه الجانبية المسجلة مقبولة أم لا ؟ بل وتتناوله وإن تجاوزت الجرعة التي حددها الطبيب الجرعة المكتوبة في نشرة الدواء نفسه؟  الفارق هو إدراكك لمهمة وصلاحيات ومعرفة كل منهم، فإن قلت لأحدهم لقد ذهب صديقنا فلان إلى الطبيب وكتب له الدواء فقال لك (كيف يكتب الطبيب أدوية أيها المخبول ، إما أن صديقك كاذب أو أنك أنت الكاذب أو أن أحدكما نسي ) وكذلك إن قلت عن مهندس أنه صمم مبنى فقال صاحبك (عقلي لا يقبل أن يرسم المهندس لوحة أو أن يصمم مبنى !) أو أن مدرسا شرح لابنك الدرس فقال(فطرتي لا تستوعب أن يشرح المدرس الدرس! ابنك يدعي!!)  فالخلل قطعا في عقله وتصوراته وتعريفاته ، ويجب أن يراجع هو لا أن يراجع الطبيب والمهندس والمدرس .. أو من نقل الخبر عنهم.
.
وفي الحقيقة كثير من الأطروحات التي تقال كشبهات حول السنة سببها عدم استيعاب صاحب الشبهة أو المتأثر بها بتعريف "النبي" وصلاحياته وما يمنحه الله تبارك وتعالى له.
أولا: المعجزات
من الأحاديث التي قد يردها البعض عقلا الأحاديث التي تحتوي ذكر معجزات للنبي محمد صلى الله عليه وسلم - كحنين الجذع إليه صلى الله عليه وسلم وسماع الصحابة لصوته وبركة الطعام ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأمثلة ، بدعوى أن هذه خوارق غير منطقية! وبالتالي يصبح الحديث في رأيه مكذوبا ولابد ، وبالتالي سائر الكتاب مشكوكا في أمره ، وبعدها تصبح السنة كلها لا حجية لها ، كيف يكتب الطبيب روشتة ؟!! حاجة عجيبة والله!!
والحقيقة وإن كانت هذه نقطة لا تستحق التعقيب ولكننا في زمن للأسف كل شيء أصبح يحتاج إلى تعقيب، إن معجزات الأنبياء -والتي هي بطبيعة الحال كلها خوارق للعادة- ثابتة بالقرآن الكريم قبل السنة ، وأنت لا ترد الحديث من جهة سنده كي تقول القرآن متواتر والحديث المذكور آحاد مثلا ، أنت ترده من جهة منطقية متنه ، فإن كان العقل لا يقبل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء معجزات وخوارق فهذا يوجب عليك بنفس العقل أن ترد وترفض الأمثلة المذكورة في القرآن الكريم لأن قوة السند هنا ليس لها دور في تقييمك ، أما إن كان عقلك يقبل أن للأنبياء معجزات وخوارق فذكر معجزة في الحديث لا تقوم كحجة لرده وتكذيبه بأي حال من الأحوال كما تفعل وتستدل، لأنها مقبولة جدا عقلا إذا صدرت من نبي، فالعقل الذي يقبل إحياء الموتى وشفاء الأبرص والأكمه وإحياء ميت بضرب بأجزاء من البقرة وشق البحر بعصا وتحول العصا إلى ثعبان وخروج الناقة والطوفان وتسخير الجن والطير والحيوانات وغير ذلك يقبل ولابد حنين الجذع وبركة الطعام ونبع الماء وغير ذلك.
.
ثانيا: التشريع
إن الله قد أرسل الأنبياء أجمعين بعقيدة واحدة ، وهي التوحيد ، راجع في ذلك قصص الأنبياء في القرآن الكريم عموما وفي سورتي الأعراف وهود خصوصا والتي تكرر في قصص الأنبياء فيهما (يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ، أما التشريع والذي يمكن أن نسميه أحكام الفقه فاختلفت فيه شرائع الأنبياء (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)) سورة المائدة.
.
وجاء على لسان نبي الله عيسى (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)) سورة آل عمران ، وما حرم على بني إسرائيل من الطعام مختلف عما حرم علينا ، وحرم عليهم الصيد يوم السبت ولم يحرم علينا في أي يوم بل لم يحرم صيد البحر حتى في الإحرام ولكن حرم صيد البر فيه، وقتل النفس الذي في شريعتنا محرما بل وفي شريعة بني إسرائيل أيضا محرما ، كان واجبا وفرضا على بني إسرائيل في موقف محدد - بعد عبادة العجل - كي يتوب الله عليهم (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)) سورة البقرة ، ولو أمرنا الله به لوجب علينا التنفيذ كما جاء في قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)) سورة النساء ، وإلى غير ذلك من الأمثلة التي نفهم منها أن الميزان الذي يوزن به الحلال والحرام لكل أمة نزل إليها مع نبيها المكلف بالبلاغ.
.
بل إن النبي الواحد يوحى إليه الحكم ثم يوحى إليه غيره في نفس المسألة اختبارا للمؤمنين هل يتبعون الأمرين أم لا ، ومن أشهر أمثلة ذلك في الإسلام تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام ، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)) سورة البقرة، وتأمل في (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) ، فالنبي هو الإنسان الوحيد الذي يجب اتباعه في الأمر وعكسه لأن الحكمة من ذلك اختبار مدى تصديق قلب المؤمن بنبوة النبي وبلاغه عن ربه (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)) سورة النساء، وهذه خصيصة للأنبياء فقط لأنهم لا ينطقون عن الهوى ، ولا يأمرون إلا بأمر الله ولا ينهون إلا بنهي الله تبارك وتعالى ، ولما وقع أهل الكتاب فيها مع رهبانهم وأحبارهم - وهم بشر عاديون لا يوحى إليهم - وصف القرآن الكريم هذا الفعل بالعبادة (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) سورة التوبة.
.
والنسخ ثابت قرآنا وسنة (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)) سورة البقرة ، (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)) سورة النحل ، وفي ذلك - كأمثلة -  تدريج تحريم الخمر ، ومرور فرض الصوم وصفته بأكثر من مرحلة وغير ذلك من أحكام تغيرت أكثر من مرة بوحي من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
.
بل إن النبي هو الذي يحدد كمبلغ عن الله تبارك وتعالى الاستثناءات من القواعد وتقييد المطلق ، وفي ذلك استثناء النبي محمد صلى الله عليه وسلم من التزام الأربعة زوجات كحد أقصى (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)) سورة الأحزاب ، ثم نهيه عن الاستزادة بعد ذلك بل وعن الاستبدال - والاستبدال مباح لعامة الأمة أن يطلق الرجل إحدى نسائه ويتزوج غيرها -  (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)) سورة الأحزاب.
.
إذن فإنكار حديث فقط بدعوى أن فيه تشريع غير مقبول عقلا للقاريء يجعلنا نتساءل من الذي يضع المسطرة التي نقيس بها التشريعات التي يقولها النبي صلى الله عليه وسلم؟! من الذي يحاكم من؟! إن المؤمن إذا آمن بالله ورسوله وتيقن في أن النبي مبلغ عن ربه تبارك وتعالى صادقا مصدوقا لا ينطق عن الهوى جلس أمامه ليتعلم وليعرف ما أحل الله له وما حرم عليه ، والأهم أن يعرف من النبي صلى الله عليه وسلم المطلق والمقيد والقاعدة والاستثناء ، كما عرف بنو إسرائيل من نبيهم موسى عليه السلام أن القتل حرام كقاعدة (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)) سورة البقرة ، ثم جاء الوحي باستثناء للقاعدة  (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)) سورة البقرة ، فتكون المهمة الرئيسية هي ثبوت نقل قول النبي صلى الله عليه وسلم وصحته - وهو ما سيكون له نقاشا تفصيليا في الحلقات المقبلة إن قدر الله لنا الاستمرار - فإذا وصل الوحي إلينا جلسنا نتعلم مستعينين بالله ثم بفهم الصحابة الذي شهدوا نزول هذا الوحي وكافة مراحله ما الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد ، نتعلم القاعدة والاستثناء ومواطن هذا الاستثناء واستعماله ، لأن هذه صلاحيات منحها الله تبارك تعالى لأنبيائه وجعل لهم طاعة متضمنة لطاعته تبارك وتعالى بالضرورة (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)) سورة النساء ، أما أن يكذب الحديث لأنه يبدو للقارئ - الجاهل مثلي عادة - مختلف عن الأحكام العامة التي يعرفها ويحفظها - إن كانت صحيحة أصلا - فهذا جهل بمفهوم النبوة وبمفهوم الوحي الواضح في القرآن الكريم وفي قصص الأنبياء صلوات ربي عليهم وسلامه (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)) سورة يوسف.


إمام أهل الفيزياء


***
كنا كثيرا ما نقول في الكلية (تخيل كم كنا سنرتاح إذا أكل نيوتن التفاحة بدلا من أن يفكر في أسباب  سقوطها) هذا بعيدا عن كون هذه القصة صحيحة أم لا ، ولكن سبب "القلشة" السخيفة هو أن قوانين وجهود نيوتن قد بنيت عليها علوم كثيرة لاحقة كنا نعاني في دراستها في الكلية ، بل اسمه يطلق على أحد أشهر وحدات القوة ، نفس التعليق قد يقال على أرشميدس صاحب قانون الطفو الذي تصمم به السفن والمنشآت البحرية إلى الآن، ليته اغتسل واقفا ، وقد كان لي تعليق أسخف لم يستعمله غيري حول (برنولي) ، فبعد سنتين من دراسة ميكانيكا الموائع والهيدروليكا لم أجد خطوة أو معادلة تقريبا إلا ويبدأ اثباتها من معادلة (برنولي) ، فكنت أقول إنه لو ثبت خطأ هذه المعادلة الآن فسينهار مبنى قسم الهيدروليكا نفسه لا العلم فقط.
***
هكذا هي العلوم ، بحار لا شاطيء لها ، وعلماء لا يحصى عددهم ، ولكن يكتب لبعضهم القبول والتميز وخلود أسمائهم بوصولهم لنتائج وتقديمهم لخدمات علمية لم يوفق غيرهم إليها ، ولكنهم لا يصلون إلى هذه المكانة إلا بعد رسوخ هذا التميز بخضوعه لدراسات أقرانهم وخلفهم وثبوت صحته ، فمما لا شك فيه أن نيوتن ليس وحيدا في مجاله ولا أرشميدس ولا برنولي ، حتى في هذا العصر الأبحاث لا تنتهي و عدد الأبحاث التي تقدم في مؤتمر واحد يتخطى المئات ولكن استمرارية المنتج العملي وعلو ذكره يعتمد على مدى دقة البحث والتي تتبين من خضوعها للدراسة المتخصصة ثم مدى نفع هذا المنتج للبشرية في مجاله والمجالات الأخرى التي تحتاجه.
ولا تظن أن هذا مرتبط فقط بعلوم الطبيعة التي تصف فيها المعادلة حقيقة كونية يمكن اثباتها بإجراء آلاف التجارب العملية فتعطي نفس النتيجة ، فليس جل هذه النظريات والمعادلات كذلك بالضرورة ، ولكن حتى إذا نظرنا إلى علوم اللغة (العربية أو غيرها من اللغات) وعلوم البلاغة مثلا وهي علوم غير تجريبية رأينا أيضا نفس الأمر ، فعلى مدى العصور وضعت للغات قواعد وتميز فيها أقوام وكتب ومصنفات ، صارت مرجعا به نحكم على اتقان كتّاب ومتحدثي اليوم للغة ، ولا يمكن لأحد ولا يسمح لأحد أن يأتي اليوم ليلغي قاعدة لغوية أو يضع قاعدة لغوية هكذا بلا سند ولا دليل علمي مبني على أصول هذا العلم المترسخة على مدى قرون ، وفي مجال كهذا أيضا ينبني التميز على نفس القاعدة ، فالمصنفون كثر والكتب لا تحصى وإنما تميز هذا الكاتب وهذا العالم وذاك الكتاب يإقرار أهل المجال له ودراستهم لتفاصيله وعرضها على أصول العلم ، وعلم اللغة كمثال هو علم موروث منقول بأسانيد لن ترقى بأي حال إلى قوة ودقة أسانيد السنة ولم تخضع لنفس التدقيق والاهتمام ، وكذلك العلوم الأخرى كالتاريخ والفلسفة والمنطق ، فكل هذه النظريات والأحداث والعلوم بين أيدينا ، يعرف المتخصصون غثها من سمينها ويعرفون كيف يميزونها ، والأهم أنه لا يسمح لغير المتخصصين ولا يقبل منهم الحديث فيها جزافا ، بل لا يقبل من المتخصص أن يأخذ منها ويرد برأيه وهواه دون حجة ودليل من بطن العلم الذي يتحدث فيه.
***
هذه حقائق مشاهدة ومقدمة أردت أن أرسيها لترى كم التناقض الذي يحدث في هذه الحقائق إذا ما تتطرق الحديث إلى علوم الشرع ، يتجاهل المغرضون والسطحيون كل هذه الأسس التي يطبقونها في أي علم آخر ، فيسمح للجاهل بالكلام ولا يطالب بحجة علمية على ما يقول ، بل هكذا بهواه وحسب ، ويسمح لمن له تخصص أن يتكلم دون عودة أيضا لهذا التخصص الذي يدرسه ، ويسمح العوام لأنفسهم أن يقبلوا ويردوا هكذا (خبط لزق) في نفس الوقت الذي لن يقبل أحدهم بطعن في نيوتن إلا إذا أقره أهل الفيزياء ، ويتورع أن يفتي في إعراب كلمة لجهله باللغة ، أو أن ينفي حدث تاريخي أجمع علماء التاريخ على حدوثه ، أو أن يقول مثلا علم الفلسفة ليس علما أصلا ، فإذا ما طولب بالمثل في علم الشرع اتكأ على أريكته وتحدث شيطانه (أنا عقلي يوزن بلد) ، أو أن هذا ليس بعلم أصلا وأسلوبه ليس علميا!! ( عن عن عن ) وخلاص!! وكما أن جهاز الكفتة مثلا قد أثار ضحك أهل التخصص بمجرد السماع به فإن قول مثل هذا الجاهل (والجهل ليس سبة إلا عندما يجهل صاحبه أنه جاهل فيصير جهله مركبا) في علوم الشرع تضحك أهل التخصص بل تضحك من له أدنى ثقافة عامة ومعرفة سطحية بهذه العلوم، فهو لا يدري أصلا كمثال أن هذه العنعنة قد تقبل وقد ترد ولا يدري ماذا وضع العلماء على مدى أربعة عشر قرنا من قواعد وأصول بديعة لتمييز هذه العنعنة ، يتكأ ويقول كمثال آخر هؤلاء يهتمون بالسند فقط ولا ينظرون في المتن!! وهو لا يدري أيضا مدى دقة هذا الاهتمام بالسند وتأثيره في صحة المتن ناهيك عن كونه لا يدري أن شرطين من شروط صحة الحديث الخمسة متعلقة بالمتن مع السند وليس السند فقط.
***
ولكن من أجل المخدوعين المساكين غير المغرضين ولا أصحاب الهوى ، ومن أجل أنفسنا وأولادنا صرت أؤمن أنه لا ينبغي الرد فقط على مثل هذا الهراء بقول (لست من أهل العلم كي تتكلم أو تقيم ، ولست أنا كذلك) ، فهذه وإن كانت عبارة صحيحة أصبحت غير كافية لا سيما في ظل قلة أهل العلم وسكوت بعض هذه القلة وانشغالها بقضايا غير واقعية بالمرة، فسأحاول ويدي في أيديكم أن نحصّل معا شيئا وحدا أدنى من هذه المعرفة في هذه النقطة لعلها تكون بذرة خير لي ولكم..
**
تابعوني.. انصحوني

     

عصمة البخاري .. عندما تصدق كذبتك ..



من أشهر ما يثار ويقال في الحديث عن صحيح البخاري رغم غرابته هو أنه يستحيل أن يصنف إنسان كتابا أو يقوم بعمل خال من النقص والخطأ ، ويعتبرون ذلك دليلا قويا دامغا وبابا يدخل منه من شاء لينتقد ما شاء ويترك ما شاء في الكتاب دون أي ضابط .. وكأنني عندما أقول مثلا أن نيوتن بشر لا يمكن ألا يخطئ فهذا يعطيني الحق في رفض قوانينه هكذا دون حجة مقابلة لحجته تكن أقوى منها في العلم الذي يستند كلانا إليه.
اسمحولي بتعليقات خاطفة قبل أن أترككم مع نقل أظنه من أفضل ما قرأت في هذه المسألة..
1- يتكلم المتكلمون دائما وكأن قوة صحيح البخاري جاءت من شخص البخاري، وكأن البخاري بعدما صنف كتابه قال عنه (هذا أصح كتب السنة) فأخذت الأمة قوله هذا مستسلمة لمدة 1200 عام ، وهذا باطل مضحك ، لأنه ما ميز البخاري ومسلم عن غيرهما ، بل ما ميز البخاري عن مسلم إلا الدراسة التي أجراها العلماء على تلك الكتب طوال هذه القرون وفي كل بقاع الأرض المسلمة فحدث هذا التمايز ، وإلا فلماذا لم تأخذ بقية كتب السنة نفس المكانة ، ولماذا يختلف صحيح البخاري عن صحيح ابن حبان مثلا؟ إذن فالتعليق على البخاري ليس تعليقا على شخص ولكن على مئات وآلاف العلماء جاءوا على مر عصور وفي بلدان مختلفة ووافقوا البخاري في تصحيحه ، وبالتالي على من ينقد ويرد أن يعلم أنه ينقد ويرد على كل هؤلاء وليس على البخاري فقط كما يزعم، وفهم ذلك يسقط الكثير من الشبهات التافهة التي تثار وتبدو منطقية وهي متهافتة بخلاف مسألة العصمة، كمسألة أصوله غير العربية مثلا.
2- في المقابل فإنه مما يساعد - في رأيي - على ترويج هذه الشبهة السطحية سطحية بعض الدعاة أيضا عندما يتحدثون بالمدح عن صحيح البخاري، فبعضهم يغفل أمرين هامين ، الأول ذكر هذا الاجماع والتركيز على ذكر عظمة علم البخاري وتمكنه وكأنه المصدر الوحيد لمكانة هذا الكتاب ، الثاني أنهم لا يتكلمون عن النقد الذي تعرض له كتاب الصحيح من بعض علماء كبار كالدارقطني والذي ألّف كتابا كاملا في نقد بعض أحاديث صحيح البخاري ، فإن ذكر هذا النقد يبين أيضا أن هذه المكانة لم تحصل إلا بعد دراسات وأبحاث طوال قرون ، وأن أحدا لم يثبت العصمة للبخاري أو يجعله فوق النقد كي يخرج علينا من يقول أن هذا مخالف للمنطق وللشرع ، وهذان الأمران يسهلان مهمة المهاجم جدا لأن كلامه يبدو أكثر منطقية وواقعية من ذاك الدرويش الذي يغرق في الثناء وينتزع الآهات من الجلوس دون تأصيل علمي يمثل حماية استبقاية من هذا الكلام، ولو أنه دقق وكان أمينا في ثنائه لتحققت غاية هامة أخرى وهي معرفة ماهية هذا النقد وأدواته ، ولكن صمته التام جعل المستمع يميل للآخر في حديثه عن عدم العصمة وهو لا خلاف فيه ولكنه أيضا أخذ يسمع ويمارس النقد دون أي فهم وحجة علمية كان ينبغي أن يحصلها من ذلك الداعية المتسنن لأنه بالطبع لن يجدها عند الطرف الآخر.
والآن أترككم مع النقل الذي أرجو أن يكون مفيدا ..
(ثانياً: الجواب عن قوله: "إنه من البشر، وعمل الإنسان لا يُمكن أن يكون مُتْقَنًا خاليًا من الأخطاء؛ لأنه ليس معصومًا من الأخطاء كالقرآن".
والجواب الأوّل: أن قوله: "إن عمل الإنسان لا يمكن أن يكون متقنًا خالياً من الأخطاء"، لا أدري كيف أفهمه؟ لأن الإنسان قد يتقن عملاً ما إتقاناً لا ترى فيه خطأً، ولا أظن السائل سيفقد كثيراً جدًّا من الأعمال البشرية حوله، ومن الصنائع المتقنة غاية الإتقان، وتؤدّي الغرض منها على صورة بالغة الدقّة. فكيف ينكر أن يكون عملُ البخاري متقناً؟
أظن السائل قد استقرّ في ذهنه أن الإنسان عمومًا غير معصوم، فظنّ أن عدم عصمة الإنسان يستلزم أن يخطئ في كل عمل! وهذا غير صحيح؛ فإن غير المعصوم لا يكون غير معصوم في كل عمل، بمعنى أنه لن يخطئ في كل عمل، بل شأن الإنسان أن يصيب وأن يخطئ. فما الذي يمنع (عقلاً) أن يكون البخاري قد أصاب في صحيحه ولم يخطئ فيه، وإن كان يخطئ في مؤلفاته وأعماله الأخرى؟!!
إذن فمسألة العصمة لا علاقة لها بإتقان البخاري لصحيحه.
الجواب الثاني: ولو افترضنا أنّ العمل البشري كلّه لابدّ أن يكون فيه خطأ، وأنه لا يصحُّ العمل البشريّ مطلقًا= فإن للخطأ وجوهاً عديدةً. فقد يكون كل ما في كتاب البخاري صحيحًا ثابتًا عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لكنّ خطأ البخاري الذي سيلزم عملَه البشري قد يكون في ترتيب كتابه، أو في فهمه –للأحاديث- الذي ذكره في عناوين أبوابه.
فما الذي يُوجب أن يكون خطأ البخاري الذي سلّمنا (تنزُّلاً) بوجوب وقوعه في تصحيحه، دون ترتيبه أو تبويبه؟!! أو لا يكفي أن يقع الخطأ في الترتيب أو التبويب ليثبت وَصْفُ البشريّة على عمل البخاري؟!!
الجواب الثالث: من قال للسائل إن أهل السنّة يعتقدون أن كل أحاديث صحيح البخاري صحيحة؟ فهذا أحد العلماء الكبار في علوم السنة، وهو أبو عَمرو ابن الصلاح (ت 643هـ = 1245م)، يقول في كتابه (علوم الحديث): "إن ما انفرد به البخاري ومسلم مُنْدرجٌ في قبيل ما يُقطع بصحّته، لتلقّي الأمّة كل واحد من كتابيهما بالقبول، على الوجه الذي فصّلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلّم عليها بعضُ أهل النقد الحفّاظ، كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن". علوم الحديث لابن الصلاح (29(.
ومعنى هذا الكلام: أن غالب وعامة ما في صحيح البخاري صحيحٌ مقطوعٌ به، لا من جهة أنه جُهْدُ البخاري وحده، ولكن لأن علماء السنّة على مرّ العصور قد درسوا هذا الكتاب أعمق دراسة، وفحصوا أحاديثه أشد الفحص، فخرجوا بتأييد البخاري في أكثر الكتاب والأعمّ الأغلب منه. ومن دلائل إنصافهم وموضوعيتهم في تلك الدراسة وذلك الفحص الذي سبق ذكره أنهم خالفوا البخاري في بعض الأحاديث، كما فعل الإمام الدارقطني (ت 385هـ =995م)، حيث ألّف كتاباً فيما ينتقده على الصحيحين، وهو كتاب (التتبّع)، وهو كتاب مطبوع مشهور.
لكنيّ أنبِّه السائل إلى أنّ مخالفة بعض كبار النقّاد للبخاري في عدد قليل جدًّا من أحاديث كتابه، لا يبيح لمن لم يتعمّق في علم الحديث تعمُّق أولئك النقِّاد أن ينتقد أحاديث أخرى لم ينتقدوها، ولا يجعل تضعيف أحاديث البخاري حقًّا مُشَاعًا لكل من أحب ذلك، بل لا شك أنه ليس من حقِّ غير العالم بالسنّة أن يُدخل نفسه في مناقشة الحديث الذي وقع فيه الاختلاف بين البخاري والإمام الآخر الذي خالفه؛ لأن هذه المناقشة تستلزم أن يُنصِّب نَفْسَه حَكَمًا بين علماء وأئمة السنّة، ومَنْ هو الذي يَتَصَوّر أن هذه المنزلة مُمكنةٌ لكل أحد؟!
فانتقاد الدارقطني (وهو النَّقَّادُ الكبير) لقليل من أحاديث البخاري لا يجيزُ لمن لم يبلغ نحواً من منزلته في العلم بالسنة أن يفعل فعله؛ وذلك لسببين كبيرين:
الأول: أن كل علم من العلوم له أعماق سحيقةٌ وقمِمٌ رفيعة، لا يغوص ولا يسمو إليها إلا كبار علماء ذلك العلم، فإن خاض فيها غيرهم أتى بالجهالات والعجائب؛ بسبب أنه يتكلم فيما يجهل، والكلام بجهل لا يقبله عاقل لنفسه ولا من غيره.
ومَثَلُ من يحتجّ بنقد الدارقطني وأمثاله من النقَّاد لبعض أحاديث البخاري ليمارس هو هذا النقد، مع عدم بلوغه قريبًا من منزلتهم في علمهم الذي مارسوه= مَثَلُ من يريد أن يُجْري عمليّةً جراحيّةً خطيرة لأحد الناس؛ بحجّة أن الطبيب العالمي فلان قد أجرى هذه العمليّة! هل يحق لأكبر مهندس أو أجل فيزيائي أن يفعل ذلك؟! بل هل يحق لطبيب غير جرّاح أن يفعل ذلك؟! بل هل يحق لجرّاح لا يصل إلى قريب من مهارة ذلك الطبيب العالمي أن يمارس عمليّةً تفوق مهاراته؟!!! هذه حقيقةُ ما يُريدُهُ أولئك القوم، الذين يُبيحون لأنفسهم الخوض في علوم السنة، بل في أعمق علوم السنة!!!
الثاني: أن إجماع علماء الأمة على تلقِّي الصحيحين بالقبول لا يمكن أن لا يكون له أثر، ولا يصحّ أن يتساوى كتابٌ لقي تلك العناية (كصحيح البخاري وصحيح مسلم) وكتابٌ آخر لم يَلْقَها، ولا يمكن أن يقبل منصفٌ أن يجعل المُتَلَقّى بالقبول من علماء الأمّة كالذي لم يَنَلْ هذه المكانة السامية. ونَقْدُ بعض أحاديث الصحيحين لا يُلْغي تلك الحقوق؛ لأنه ما من كتاب (حاشا كتاب الله) إلا وقد وُجِّه إليه نقد. فماذا يمتاز به الكتاب الذي وُجه إلى قدر يسير منه نقد، مع اتّفاق الأمة على صحّة غير هذا القَدْر اليسير المُنْتَقَد؟ 
الجواب هو ما ذكره ابن الصلاح أن كل ما لم ينتقده الأئمةُ الحفّاظ الذين كانت لديهم أهليّة الخوض في أعمق مسائل علم الحديث، أنه داخلٌ ضمن إجماع الأمة على صحّته، وأن نجاته من نقد الناقدين يدل على قبوله عند هؤلاء الناقدين؛ ولذلك كان كل مالم ينتقده أولئك النقَّاد من أحاديث الصحيحين مفيدًا لليقين بصحّته عند علماء السنة، كما سبق عن ابن الصلاح. فما لم يُنْتَقد من أحاديثهما ليس فقط صحيحًا، ولا خرج عن أن يحق لغير كبار النقَّاد أن ينتقدوه فَحَسْب، بل تجاوز ذلك: إلى أن يكون مقطوعًا بصحّته مجزومًا بثُبوته عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بدليل ذلك التلقّي بالقبول من علماء السنة لهذين الكتابين، بمن فيهم أولئك العلماء الذين انتقدوا، ممّا يدل على أن ذلك التلقّي لم يكن تقليدًا من علماء الأمة للبخاري ومسلم، بل هو موافقةٌ لصحّة النتائج التي توصَّلا إليها بناءً على النظر في الأدلّة والبراهين التي أوصلتهم إلى تلك النتائج، ولذلك خالف أولئك العلماء في قليل من تلك الأحاديث، وبقي الجزء الأكبر من أحاديث الصحيحين عندهم صحيحًا لا يخالفون في ثبوت وصف الصحّة له.
وبهذا يصبح انتقادُ أولئك النقّاد لبعض أحاديث الصحيحين سببًا لمنع من لم يصل إلى درجتهم في العلم أن يلج هذه الساحة؛ وصار دليلاً ضِدّ هؤلاء المتجرئين!!
لكني أعود وأذكر السائل أنه نسب إلى علماء السنة أنهم لم ينتقدوا صحيح البخاري، وكأنّهم اعتقدوا فيه العصمة، مع أنّهم قد مارسوا النقد العلمي لصحيح البخاري، وخالفوه في أحاديث قليلة، ولهم في ذلك مؤلفات شهيرة، وهي مؤلفات طُبع عددٌ منها، ويعرفها عامة المشتغلين بالسنة أدنى اشتغال.
وهذا خطأ ثانٍ وقع فيه السائل، يدل على بعده الكبير عن علوم السنّة، ممّا يدلّه على أنه عليه أن يُنْصِفَ هذا العلمَ من نفسه، فلا يخوض فيما لا يعلم!)
انتهى من مقال الدكتور الشريف حاتم بن عارف العوني.. وفي المقال إفادة أكبر في نقاط أخرى في هذا الشأن
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=82710
ومن المراجع التي أظنها مفيدة أيضا في هذه النقطة ، تعليقات الشيخ مقبل بن هادي الوادعي على كتاب (التتبع والإلزامات) للدارقطني ..
http://www.ajurry.com/vb/showthread.php?t=2282


عقلانية الجنون .. مقال الدويك مثال محلول

عقلانية الجنون
مقال الدويك .. مثال محلول
كثيرا ما أكرر أن التقييم الحقيقي لما نقرأ أو نسمع أو نعيش لا يعتمد على النتيجة ولكن يعتمد على المقدمات والمنهج الذي نصل به إلى النتيجة ، لذلك فإن تشابه موقفي النهائي مع البعض أحيانا أو حتى كثيرا لا يدفعني للرضا عن منهجهم بالضرورة ولا بالتوحد معهم ، وكذلك اختلاف موقفي النهائي أحيانا مع البعض الآخر لا يدفعني لرفض منهجهم بالضرورة ولا مفارقتهم ، فإن صحة منهج الاستدلال الذي يعتنقه المرء لا يعني سلامة النتيجة التي يصل إليها دائما والعكس صحيح ، لذا فأنا دوما أقرأ المقدمات باهتمام ، ولا أتوقف بنفس درجة الاهتمام عند النتائج..
ليست المرة الأولى التي أقرأ فيها للدويك كشخص ، وحتى عندما قرأت له للمرة الأولى منذ فترة طويلة لم تكن المرة الأولى التي ألتقي فيها بهذه الطريقة التي أصبحت منتشرة والتي تحترف الظهور في سياق مبهر وإن كان المحتوى فارغا ، سأتوقف قليلا مع مقاله عن حادثة شارلي ابيدو ، مع المنهج المبني عليه الكلام أكثر من الكلام نفسه.
تبدأ المقالة بعبارة كفيلة بلفت أنظار .. أصحاب النظر .. يقول (الإجابة موجودة في القرآن، المصدر الأول للتشريع الملزم لنا جميعا والثابت عن الرسول وعن رب العباد بدلا من الروايات التاريخية الضعيفة والموضوعة والمكذوبة والتي يحلو للبعض أن يتمسك بها. حتى لو كفر بكلام الله.. ) انتهى .. والحقيقة أن المصدر الثاني أيضا - وهو السنة - ملزم لنا جميعا وثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووحي من رب العباد إليه ، وهذه عبارة خطيرة جدا منهجيا ، وتدل على مكانة السنة كمصدر للتشريع عنده حتى وإن كان يستخدم السنة في كتاباته ، فهو يستخدمها عندما تحلو له وتوافق هواه ، فالحكم عادة على الصحة والضعف لا يعتمد سوى على رأيه الذي يصبح بالضرورة مصدرا آخر للتشريع فهو الضابط الرئيسي إن لم يكن الوحيد في فهم القرآن وفي تصحيح وتضعيف السنة، وعندما يقر بحديث يخالف ما يريد أن يصل إليه سترون في نفس المقال كيف يأوله بأي ثمن ولو ارتكب في سبيل ذلك أخطاء فادحة.
ثم استدل المقال بقوله تعالى (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)) سورة النساء ، قائلا (اترك المكان وغادرهم. لم يقل اشتبك معهم كلاميا. أو دافع عن مقدساتك. أو اذهب واحضر سلاحك واقعد لهم حتى تردعهم. فقط قم واعلن احتجاجك بصمت. ) انتهى.. ، إنه ينفي بالآية ليس فقط رد الفعل المسلح الذي من أجله كتب المقال ، ولكن ينفي حتى مجرد إنكار المنكر باللسان ويدعي أن الآية تنهى عن مجرد الجدال معهم ، وهذا تجاهل لعشرات الآيات في ذات القرآن (الملزم لنا جميعا والثابت عن رسول الله) حسب تعبيره السابق.
(وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) ) سورة العنكبوت ، تأمر الآية  بجدال أهل الكتاب بالتي هي أحسن ، إلا الذين ظلموا منهم وتجاوزوا الحد ، فهم أهل حرب وسيف، لا جدال حسن.
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)) سورة النحل ، وفي الآيتين أيضا أمر بجدال ودعوة الكفار والعصاة ، وتشريع لرد العقوبة بمثلها ، ورد الاعتداء بمثله ، مع تشريع الصبر تفضلا لا وجوبا.
لقد جاء وصف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ملازما دوما لوصف المؤمنين في مواضع يصعب حصرها ، وجاء تركهما والاكتفاء بالاحتجاج السلبي الذي يتحدث عنه الكاتب في صفات الهالكين (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)) سورة المائدة ، (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)) سورة هود ، وجاء ذكر الصامتين في واقعة أصحاب السبت في سياق الذم ولم يذكروا في الناجين (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)) سورة الأعراف ، وآيات جهاد الكفار والمنافقين كلها وغزوات وفتوحات النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين من بعده تدحض هذا الإدعاء كلية، (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)) سورة التوبة
إذن ما المقصود بالآية المنتزعة من سياقها على طريقة (فويل للمصلين) التي لا يتقنون غيرها ..
إن الآيات السابقة لهذه الآية إن جاءت في وصف المنافقين وتحذير المسلمين من صفاتهم
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)) ، إن من صفات المنافقين أنهم يتخذون الكافرين أولياء ، يتقربون إليهم ويجالسونهم ويتوددون إليهم مبتغين عندهم العزة ، واعتقادا منهم أن هذا يؤمنهم إذا دارت الدائرة على المسلمين (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)) سورة المائدة ، فتذكرهم الآية بالنهي الأول ، إن مجرد مجالسة هؤلاء الكافرين وهم يقولون كفرهم ويخوضون في آيات الله ويستهزئون بها تجعل الجالس الراضي مثلهم ، فهؤلاء المنافقون والوا الكفار واستمروا في التودد لهم والتقرب إليهم بعد النهي ، و هذا النهي الأول الذي تذكر به آية النساء هو ما جاء في سورة الأنعام (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)) ، فقد نهى الله تبارك وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه عن مجالسة أهل الباطل وهم يخوضون في آيات الله مع عدم القدرة على تغيير هذا المنكر ورده ، فلما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة خالف البعض هذا النهي فجاءت آية النساء تذكر به وتضع عقوبة أشد ردعا وهي (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)، ولاحظ أن سورة الأنعام مكية، نزلت في مكة التي كان تواجد فيها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما والأصنام منصوبة حول الكعبة ولم يمنع ذلك من أنه كان الآمر بتحطيمها لما تسنى له ذلك يوم الفتح.
ماذا نستفيد من ذلك كله؟
إن القول بأن آية النساء تنهى عن النهي عن المنكر وتغييره هو ما بين التوهم والتدليس ، بالضبط كما يتوهم البعض ذلك في آية المائدة (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105))  وهي التي قال الصديق أبو بكر عنها (أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) ليزيل هذا الوهم إن حدث ، فالأحكام لا تؤخذ من آية واحدة ، فضلا أن تكون آية منزوعة من سياقها ، وفهم الحكم يستدعي النظر في كل آيات كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن عدم الإنكار والاكتفاء بالانسحاب وعدم المجالسة ليس هو الأصل ، وإنما قد يكون له أسباب مختلفة ، منها ، العجز عن هذا الدفع ، وهو الواضح في حديث النبي صلى الله عليه وسلم المشهور - لغة لا اصطلاحا - (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ) رواه مسلم ، فتغيير المنكر بالقلب يستلزم الزوال عنه ، والمطلع على شرح العلماء لهذه الآيات وغيرها يجد أنهم استثنوا من هذا النهي والوصف من يجلس ليناظر ويناقش ، فهو يسمع بالضرورة هذا الكفر والاستهزاء ولكنه ينكر ويرد ويناقش ولربما يهدي به الله رجالا ونساء ، فهذا المناظر المجادل لا يدخل في نهي آية سورة النساء ، فالإسلام يشرع للمسلم كل الأحكام التي يحتاجها في الأحوال المختلفة من تمكين واستضعاف ، فهو دين كل وقت وحال ومكان ، كما أن مجالس الكفر لا تأخذ هذه الصورة بالضرورة ، فمثلا ، الإسلام كفل لغير المسلمين حق عبادة ما يشاءون في دور عبادتهم ، فبهذه الآية لا يذهب المسلم مثلا لهم بإرادته ليستمع إلى آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ، في حين أنه له أن يتكلم معهم ويجلس معهم إذا لم يكن في حديثهم ما يسيء للإسلام ولرسوله ، ولا أدري ما رأي الكاتب ومن على منهجه في حضور القداس مثلا والجلوس في مواطن تكذيب آيات الله ورسوله ، هل يستخدمون هذه الآية ويحتجون بالصمت ويقومون عنهم؟ أتمنى.
ماذا كان يفعل الصحابة فعليا عند سماعهم لكلمة كفر من المنافقين مثلا؟
كانوا يبلغون النبي صلى الله عليه وسلم على الفور، ولا يكتفون بالقيام ، وكان المنافقون يسارعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفي هروبا من العقوبة ، وهذا من أسباب نزول قوله تعالى (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)) سورة التوبة ، كقول عبد الله بن أبي (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ) (سمن كلبك يأكلك) وغيرها ، ولم يكن يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من قتلهم إلا ما سنفصله في نقطة لاحقة في نفس المقال ..
أما النقطة الثانية والثالثة والرابعة من استخدام آيات الصفح فقط والاستدلال بها وحدها فما ذكرته عاليا فيه كفاية ، وقد ذكرت في مقال سابق لعلي أضع رابطه في نهاية كلماتي هذه أن رد البغي من صفات المؤمنين كما جاء في قوله تعالى ﴿ فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)  وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39)  وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41)  إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) ﴾ ولكنه الاجتزاء .. كالعادة..
النقطة الخامسة .. يقول الكاتب (((5- المنافقون استهزأوا بالرسول، وأثبت القرآن ذلك، لكنه لم يثبت في كل كتب التاريخ أن النبي قتل واحد منهم..  (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ)
واضح من كلام الآية أنهم استهزأوا بالله والرسول. لكن الآية لم ترتب أي جزاء دنيوي على ذلك. ولم تأمر النبي بعقابهم. رغم أنهم يمثلون ازعاج واضطراب داخلي لأن النبي كان يشغل منصب سياسي الى جوار منصبه الديني. وهو ما يعطيه سلطات أوسع في عقاب هؤلاء لاستقرار الحياة. لكن الثابت أن حرية النقد في مدينة الرسول ارتفعت حتى نالته هو. ))) انتهى

تبدأ النقطة باجتزاء محترف إذا لم يكمل الدويك الآية التالية (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)) سورة التوبة
لا تعتذروا قد كفرتم .. لم يذكر الكاتب هذه التكملة ، لأنه لو ذكرها ما حق له أن يقول تلك العبارة الفجة الرهيبة (لكن الثابت أن حرية النقد في مدينة الرسول ارتفعت حتى نالته هو) ، إنه يصف الاستهزاء بالله ورسوله ب(حرية النقد) ، وبنص القرآن في نفس الآية وفي نفس المناسبة فعلهم هذا كفر توعد الله من وقع فيه بالعذاب إلا من تاب منهم وقبل الله توبته ، يذكرني ذلك بمن يصف أبا لهب وأبا جهل بزعماء المعارضة!! وأيضا قوله أن شغل النبي صلى الله عليه وسلم لمنصب سياسي بجوار منصبه الديني هو الذي يعطيه صلاحيات أكبر!!!! وفي الحقيقة عند كل ذي لب أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم هي التي تعطيه تلك الخصوصية والصلاحية ومن المعلوم أن للنبي صلى الله عليه وسلم في العموم خصوصيات ليست لأحد بعده ، أما الدويك فيعطي للحاكم السياسي صلاحيات أوسع من صلاحيات النبي ، فإذا صار النبي حاكما توسعت صلاحياته وليس العكس!! عجب!! ، أما عن عدم قتل النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين الذين ظهر نفاقهم فكما قال الدويك أنه عندما سئل عن ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) ، إذن ما المانع هنا من قتلهم؟! أنه لا يجوز قتلهم؟! لا ، حرية الكفر (التي يسميها حرية النقد)؟ لا ، بل حتى العفو المجرد؟! لا ، بل رأى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك مصلحة راجحة وهي عدم نفور الناس من الإسلام لأن هؤلاء المنافقين يظهرون الإسلام ويصلون ويقرأون القرآن ويخرجون في الجهاد مع النبي ، فخبر قتلهم عندما يصل العرب في كل مكان سيصلهم فقط (أن محمدا يقتل أصحابه) لأنهم لم يروا كفرهم ، وهذه خطورة المنافق ، ففي رد النبي صلى الله عليه وسلم على طلب الصحابة قتل المنافقين حجة على الكاتب لا له ، وإلا فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل مسيئين آخرين كما سيتبين من التعليق على بقية المقال .. وإلا لو كان الأمر كذلك فإن عفوه عن حاطب بن أبي بلتعة ورفضه لطلب عمر بن الخطاب بقتله لما سرّب خبر جيش فتح مكة والذي كان مقيدا بكون حاطب من أهل بدر يدفعنا للقول بأن كل من سرّب سرا عسكريا يعفى عنه ولا يقتل ولا يحاسب ، ولكن الدويك يرى في نفس المقال أن تسريب سر عسكري يستوجب القتل كما في كل الثقافات الراقية على حد تعبيره، فلو كان المانع من قتل المنافق ، أو من سرب سرا عسكريا هو عدم شرعية ذلك لما كانت رد النبي صلى الله عليه وسلم في الحالتين متعلق بعلة محددة استثنائية.
أما النقطة السادسة  فيستمر الدويك في التدليس ، فعن قول اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم (السام عليكم) أي الموت ، يذكر الدويك نصف الأمر وهو نهي النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها عندما ردت (وعليكم السام واللعنة) فقال صلى الله عليه وسلم ( مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله )، يقول الدويك (تخيل الرفق مع يهود متطاولين لا يحترمون مقام النبوة ولا مقام الرئاسة والسياسة. عائشة لم تحمل رمحا، بل قالت كلمات.. والنبي رفض الرد الوقاحة بمثلها. ورفض الدفاع عن نفسه في حضوره داخل مدينته. واكتفى بالصمت) انتهى .. ألا كذبت!! فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالصمت ففي نفس الحديث في نفس السطر في صحيح البخاري بعدما نهى النبي صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة قالت فقلت يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( قد قلت وعليكم ).. أي رد النبي صلى الله عليه وسلم على (السام عليكم) ب(وعليكم) فبذلك ردها عليهم النبي ورد إساءتهم كما هي ولكن دون تفحش في القول وزيادة فيه..
وفي النقطة السابعة يتحدث عن عدم إعدام اليهودية التي وضعت له السم فمات صاحبه بشر بن البراء ونجاه الله تعالى كمعجزة له ، وهذا غير حقيقي ، فاليهودية أعدمت ، ففي سنن أبي دواد (فأهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية سمتها فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأكل القوم فقال ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة فمات بشر بن البراء ابن معرور الأنصاري فأرسل إلى اليهودية ما حملك على الذي صنعت قالت إن كنت نبيا لم يضرك الذي صنعت وإن كنت ملكا أرحت الناس منك فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت) قال الألباني حسن صحيح ، وإن كان كما يقول بعض العلماء أن قتلها كان ببشر بن البراء قصاصا وأن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن حقه هو فأيضا هذا حق للنبي صلى الله عليه وسلم لا يتعارض مع وجود العكس كما سيتبين والاكتفاء به اجتزاء.
فاصل..
نشر الدويك يوما صورة لمكتبه مزدحما بالكتب قائلا ما معناه (شكل المكتب أثناء كتابة مقال . وفي الآخر يقولك الدويك مدلس) .. أقول حتى في نفي التدليس يدلس .. فما علاقة كثرة الكتب على المكتب بنفي التدليس .. فكثرة الكتب لا تنفي الاجتزاء منها عند النقل ..
عدنا..
ثم يتوقف الدويك ليذكر منصفا ، أن هناك حالات ثبت فيها أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بقتل أشخاص بعينهم. ثم يعلق في إجمال معيب لا يليق بباحث (- ثلاثة أرباع تلك الروايات مكذوبة وضعيفة، وقال بعض علماء الحديث أنه لم يثبت فيها شيء) انتهى ، كم هو العدد؟ وكم هو الثلاثة أرباع؟ ، إن (تلت ارباع) هذه كلمة تقال كناية عن الكثرة في المصاطب وليست ونحن نتحدث في دين الله ، ثم تعقيب (قال بعض علماء الحديث).. من هم وما الراجح!! أن ربعها صحيح أم أن كلها غير صحيح!! .. أي كلام..
ثم يتحدث عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت بهجاء الكفار ، (ويعقب بيواجه الكلمة بالكلمة .. والشعر بالشعر)  انتهى، وهو ينسى أنه في بداية مقاله قال أن حتى الرد بالشعر أو بالكلمة غير وارد .. احتج بالصمت .. ألم يقل هذا؟!  كما أنه ينسى أن هذا الهجاء - لو صح استدلاله بحديث عائشة في الرد على اليهود - يعارض الأمر بعدم الرد عليهم والرفق!! ..
ثم يقول أن هذه كانت أوامر تهديدية ، فعلا!! يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل وهو لا يعنيه!! ماذا لو نفذ صحابي الأمر حينها والنبي لا يعنيه!! كيف يعقل هذا!! وما موقف القاتل والمقتول؟! أما عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض من صدر بحقهم هذه الأوامر فكان بعد توبتهم ، ومنهم من تأخر النبي صلى الله عليه وسلم في قبول توبته عسى أن يقتله أحد الصحابة قبل العفو عنه ، بل إن هذا العفو عن بعض من أهدر النبي دماءهم في فتح مكة الذي يقول عنه الدويك (- المشهد الأخير والأساسي في الإسلام هو فتح النبي لمكة التي شتمته وآذته وطردته، ودخل مطأطئ رأسه على فرسه حتى لا يظنوا فيه فخرا وتعاليا. وقالوا له اليوم يوم الملحمة، فقال كلا. اليوم يوم المرحمة)!! انتهى ..  يقول ذلك ولا يذكر أن في يوم المرحمة هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل معينين ثم عفا عن بعضهم لما تابوا ، يذكر هذه هناك بصيغة تمريض وعموم ، وهذه هنا بصيغة جزم رغم أن الحدث واحد ، ولكن النصف الأول لا يوافق هواه فيبعده ، والثاني يريده فيثبته ،، أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم فقتل منهم من قتل ، وتاب منهم من تاب ، وكان ممن تابوا عبد الله بن سعد بن أبي السرح وفي قصته (وأما ابن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله فقالوا ما ندري يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك قال إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) رواه أبو داود وصححه الألباني.
ويقر الدويك بقصة مقتل كعب بن الأشرف الشاعر اليهودي الذي كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بشعره وكان يشجع المشركين على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، لا أدري ما مصدر إضافة الدويك (أنه سرب أسرارا عسكرية للمدينة) لا أعلم هل لهذه الإضافة الدقيقة مصدر أم أنه مجرد تمهيد ليحوله من محارب بالكلمة إلى محارب بالسيف ليسهل عليه أن يتنازل أخيرا ويتفضل بقبول قرار النبي صلى الله عليه وسلم بقتله .. ولكن حتى مع هذا التمهيد وقع الدويك في جريمة كبرى تعقيبا على هذا الاغتيال إذ قال ..
(الاغتيالات السياسية.. 

سنتحدث بشجاعة ونقول، أن أي دولة حاكمة قد تضطر إلى ممارسة العنف. بل ان فرق القوة بين الدولة والناس هو الذي يخلق مفهوم الدولة. وهو ليس تبريرا للعنف لكني أتحدث عن أمر واقع. حلوه ومره. مميزاته وعيوبه. أمريكا اضطرت لاغتيال بن لادن في منزله دون محاكمة. ومصر اغتالت الملك فاروق في منفاه. واسرائيل اغتالت علماء الهندسة النووية المصريين والعراقيين. كل الدول تتورط في ذلك. 

معظمه بشع وإجرامي وقليله يقع تحت وطأة الضرورة. 

والنبي محمد عندما أسس لدولة قام بتصرفات بشرية ودنيوية وسياسية. ولو قام ببعض التصرفات السياسية والعسكرية لحماية دولته فهو أمر مقبول في إطاره، // لكنه ليس تشريعا دينيا منقولا عنه// . وهو نفسه من فتح الباب لذلك وقال (وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر ) _ سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني. لكن الفارق أن النبي كان يتحرك في إطار دولة، هادئة ومتزنة وواضحة للجميع ولها سياسات، وليس مجموعة إرهابية عشوائية تختفي عن الأنظار وتمارس الإجرام. ) انتهى
أنا لا أدري كيف يقرأ مسلم عاقل هذا الكلام ولا يرى فيه طعنا في النبي صلى الله عليه وسلم ، إن الكاتب يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يقوم بتصرفات لحماية دولته تصل إلى حد القتل دون وحي من الله ، فالنبي قاتل لا بأمر من الله وإباحة ولكن كملك متوج يحمي دولته ، يلتمس له الدويك مشكورا العذر في هذا الاحتياج فهو مضطر كاضطرار أمريكا مع ابن لادن ومصر مع فاروق - ولا أعلم ما مدى صحة هذا - وإسرائيل مع علماء الهندسة النووية المصريين!! ، رجل ملك سياسي يثبت أركان دولته لا علاقة للدين بهذا ، يخلط بين قرارات النبي صلى الله عليه وسلم التخطيطية التي كان يشاور فيها أصحابه كوضع الجيش في المعركة وما إلى ذلك وبين قرارات كهذه لا يمكن أن تكون بلا وحي ، يفصل الوحي عن كافة أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في الشأن العسكري والسياسي ، والعجيب أنه عندما استدل أيضا بأفعال قام بها النبي صلى الله عليه وسلم في الشأن العسكري والسياسي وكان فيها عفو وسعة من التي توافق هواه قال أن هذا هو الإسلام!! ولماذا لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل كل هذا أيضا بقرارات بشرية محضة وأن هذا ليس هو الإسلام!! وإذا كان الأمر كما يقول هنا وكما قال سابقا في مسألة قتل المنافقين أن هذا من صلاحيات محمد الحاكم لا محمد النبي لماذا يضع هذا الكلام تحت عنوان يتحدث عن موقف الإسلام وتشريعه!!
ربما تتعجب بعد قراءتك لثلاثة آلاف كلمة هي قوام هذا المقال عندما أقول لك أنني لا أجزم بتأييد أو معارضة حادثة فرنسا ، لا أنني لا أؤمن أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم يقتل ، ولكن لأنني لم وأظنني لن أتابع ماهية الإساءة أصلا وما فعلوه بالضبط ، ولأن الفتوى بالفعل في التوقيت والمكان لها حيثيات كثيرة لست أهلا لها،  فإن ردي على من يدعي معارضتها لا يعني تأييدها ولكني كما بينت في بداية كلامي أن الطامة الكبرى تأتي في منهجية الاستدلال وأسلوبه والذي إن تركناه لعدم اكتراثنا بالنتيجة التي يصل إليها ، بل إن تركناه أحيانا لتوافقنا مع النتيجة التي يصل إليها ، فإنه سيؤدي لكوارث أخرى أكبر بكثير .. إن الإساءة للإسلام تكون بنسبة ما ليس فيه إليه وإن بدا ذلك المنسوب محبوبا للآخرين ، والإساءة أيضا تكون بنفي أمور شرعها الله لأنها لا توافق هوانا أو هوى غيرنا..
كلامي هنا ستجده مناسبا في التعليق على كتابات وأقوال كثيرة تنسب لمن يدعون العقلانية ، وما مقال محمد الدويك إلا مثال محلول ، بالضبط كما فعلت حين التعليق على مسألة عذاب القبر
https://www.facebook.com/notes/%D9%85%D8%B9%D8%AA%D8%B2-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D9%85%D9%86/%D9%85%D8%A7-%D9%88%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D8%B9%D8%B0%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A8%D8%B1-%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%B4-%D9%85%D9%86%D9%87%D8%AC%D9%8A/1457625554495728
وهنا المقال الذي أشرت إليه عن (دروشة التسامح وعبادة رد البغي)
https://www.facebook.com/moataz.aelrahman85/posts/1535437253381224