الجمعة، 27 مارس 2015

عن مسألة.. سحر النبي صلى الله عليه وسلم

عن مسألة
سحر النبي صلى الله عليه وسلم

ومن الأمثلة المشهورة التي يستخدمها هؤلاء ليردوا السنة الصحيحة بالهوى مسألة سحر النبي صلى الله عليه وسلم ، يقولون أن في صحيحي البخاري ومسلم ورد تعرض النبي صلى الله عليه وسلم للسحر من اليهودي لبيد بن الأعصم ، وأن هذا لو أثبتناه يعد طعنا في نبوته فكيف نقبل به؟! فما يدرينا ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسحور وما قاله وهو معاف؟! (كأن النبي صلى الله عليه وسلم مات قبل انكشاف البلاء الذي يفسرونه خطأ أصلا)  ويضع القارئ والمستمع أمام اختيارين لا ثالث لهما ، إما أن تقبل الحديث وتسقط النبوة ، أو تثبت النبوة وتسقط الحديث ، وطبعا القارئ والمستمع البسيط المتعرض لهذا الإرهاب الفكري ماذا سيفعل؟!
هذا الأسلوب يذكرني بأيام الطفولة عندما كان بعض الأطفال الغريبة يسألون بعضهم البعض أسئلة من نوعية (تحب إيه أكتر تموت محروق ولا يأكلك أسد تعمل إيه؟!) .. والسؤال من الذي يجبرني على هذا الاختيار أصلا؟! .. وما يخضعني لهذه العقول الطفولية؟!

من الذي قال أصلا أن التعرض للسحر متعارض بالضرورة مع النبوة أو مؤثر على الرسالة لا سيما أن نوع السحر الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم مذكور بوضوح في الحديث ، ناهيك عن أنه كان أمرا عارضا في خلال ثلاث وعشرين سنة من الدعوة ، يقولون أن الحديث مخالف للقرآن ، وفي الحقيقة أن نفي الحديث هو المخالف للقرآن ، فاقرأ معي.

(عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت  : سحر رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال ( يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل ؟ فقال مطبوب قال من طبه ؟ قال لبيد بن الأعصم قال في أي شيء ؟ ... الحديث)
والرواية الثانية في الصحيح أيضا (عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت  : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا فقال ( يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للآخر ما بال الرجل ؟ .. الحديث)

إن السحر الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم لم يمس الوحي وما كان له أن يمسه ، بل كان أثره في أمر من أمور الدنيا ، أن يخيل إليه أنه فعل شيء وهو لم يفعله والرواية الثانية حددت هذا الشيء وهو إتيان النساء ، وهذا أمر دنيوي محض ، لم يخيل إليه أنه سمع من جبريل وهو لم يسمع منه ، لم يخيل إليه أنه أمر أمرا أو ونهى نهيا شرعيا وهو لم يفعل ، فالسحر أصاب الجانب البشري في النبي صلى الله عليه وسلم مثله مثل سائر الأسقام والآلام والجروح التي كانت تصيب النبي صلى الله عليه وسلم كبشر ، وتفيدنا في أن نتعلم منه كيف نتعامل في هذه المواقف ، وقد تعلمنا من الحديث رفع السحر بالإلحاح في الدعاء كما فعل بأبي هو وأمي ، فليتنا وقفنا أمام الحديث لنتعلم لا لنتوهم.

ومن المعلوم أن من يبتلى بالسحر في شأن ما لا يؤثر ذلك في بقية شئونه فمن أنواع السحر التي ذكرت في القرآن الكريم مثلا السحر الذي يفرق بين المرء وزوجه (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) سورة البقرة ، وهذا مشاهد في زماننا وكل زمان أن المبتلى بهذا السحر يكون معافى في كافة شئونه طبيعيا جدا إلا هذا الشأن ، فلما الخلط وافتراض عموم غير حقيقي.

السؤال الأهم: هل هذا التخييل يعارض النبوة في شيء؟ هل من خصائص النبي ألا يتأثر بتخييل السحرة في شيء لا يمس الوحي؟! هنا نعود للقرآن الكريم ..

لقد سحر سحرة فرعون أعين الناس ، وأوهموهم بسحرهم الذي وصفه القرآن بالعظيم أن الحبال والعصي حيات تسعى
(قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)) سورة الأعراف
 ولم تستثن عين نبي الله موسى من هذا التخييل
(قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)) سورة طه

خيل إلى نبي الله موسى كما خيل إلى غيره بل وأوجس في نفسه خيفة من المشهد الذي رآه وليس في هذا طعن في نبوته ولا في الشريعة التي بلغها للناس كما يزعم الزاعمون ،  وليس من خصائص النبوة ألا يتعرض النبي لمثل هذا النوع من السحر والتخييل بنص القرآن الكريم ، خيل إلى موسى أنه رأى ثعابينا وهو لم يرها ، وخيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يفعل الشيء (إتيان الزوجة) وهو لم يفعله ، ما علاقة الوحي في الأمرين؟  يفترضون الافتراض ويحددون الاختيارات الباطلة ويضعونك أمامها ويجبرك على الاختيار منها والاختيار الحقيقي ليس مكتوبا فيها.

واستكمالا .. هم يردون الحديث بقوله تعالى (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)) سورة المائدة ، ومن المعلوم جزما أن المقصود بالعصمة الحماية من القتل ، أما ما دون ذلك فالنبي يتعرض له كالإيذاء والمرض والجرح في الحرب ، وهذا النوع من السحر مثله مثل المرض العارض، بل من جهلهم بعضهم يرد بنفس الآية حديث الشاة المسمومة ، رغم أن السم لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأن الشاة حدثته بأنها مسمومة ولكنهم يرون أن مجرد وضع السم له يخالف العصمة ، فمن باب أولى أن مجرد رفع السيف عليه في معركة أو إصابته ودفعه ومرضه أمورا تخالف العصمة!! ولكن موازينهم مختلة.

ويقولون أن الحديث يصدق قول المشركين - بزعمهم -  (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)) سورة الإسراء ، وهذا واضح لمن يفهم أن المشركين كانوا يقصدون بذلك السحر الذي يجعلهم عجزة أمام هذا القرآن وبلاغته ، ويفشلون في تحدي الإتيان بسورة من مثله وهم أبلغ الناس وأفصحهم ، فأرادوا أن ينسبوا القرآن لقوة خارجية غير إلهية ليبرروا عنادهم وكفرهم فوصفوه صلى الله عليه وسلم بالساحر تارة والمسحور تارة ، حجة البليد كما يقولون والتي وصلت لأن ينسبوا القرآن الكريم الذي فشلوا في تحدي فصاحته إلى رجل أعجمي  (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)) سورة النحل، فوصف الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالمسحور  يقصدون به الوحي وليس هذا التخييل العارض في أمور الدنيا ،  بعيدا عن أنهم قالوا ذلك في بداية البعثة في مكة والواقعة كانت بعد الهجرة في المدينة محددة ببداية ونهاية ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه ومعجزاته ممتدة من أول لحظات الوحي حتى وفاته صلى الله عليه وسلم، قبل الواقعة وبعدها.

وهكذا يستخدم القرآن في غير موضعه ، وتوضع قواعد لا أصل لها ويحاكمون الحديث على أساسها كما بينت من قبل في مثال الحيض وعدة أم المؤمنين صفية.

ملحوظة: ستجد نقاش كل هذه الأحاديث والشبهات في كتب كتبت في القرن السابع والثامن الهجري ، فكما ذكرت من قبل هم لم يأتوا بجديد ، وأننا أمة لم تدخل الكهف بعد البخاري وتستيقظ الآن ، ولكن من يبحث ويتعلم؟!


ملحوظة أخرى: كثير ممن يثيرون هذه النقاط يشككون في الأمور الغيبية الثابتة في القرآن بما فيها السحر عموما ونصرة الملائكة للمؤمنين وغير ذلك لكنهم لا يكشفون ذلك إلا بعد الاطمئنان أن الطعم الأول قد أبتلع بنجاح.

هناك تعليق واحد: