الخميس، 26 مارس 2015

عصمة البخاري .. عندما تصدق كذبتك ..



من أشهر ما يثار ويقال في الحديث عن صحيح البخاري رغم غرابته هو أنه يستحيل أن يصنف إنسان كتابا أو يقوم بعمل خال من النقص والخطأ ، ويعتبرون ذلك دليلا قويا دامغا وبابا يدخل منه من شاء لينتقد ما شاء ويترك ما شاء في الكتاب دون أي ضابط .. وكأنني عندما أقول مثلا أن نيوتن بشر لا يمكن ألا يخطئ فهذا يعطيني الحق في رفض قوانينه هكذا دون حجة مقابلة لحجته تكن أقوى منها في العلم الذي يستند كلانا إليه.
اسمحولي بتعليقات خاطفة قبل أن أترككم مع نقل أظنه من أفضل ما قرأت في هذه المسألة..
1- يتكلم المتكلمون دائما وكأن قوة صحيح البخاري جاءت من شخص البخاري، وكأن البخاري بعدما صنف كتابه قال عنه (هذا أصح كتب السنة) فأخذت الأمة قوله هذا مستسلمة لمدة 1200 عام ، وهذا باطل مضحك ، لأنه ما ميز البخاري ومسلم عن غيرهما ، بل ما ميز البخاري عن مسلم إلا الدراسة التي أجراها العلماء على تلك الكتب طوال هذه القرون وفي كل بقاع الأرض المسلمة فحدث هذا التمايز ، وإلا فلماذا لم تأخذ بقية كتب السنة نفس المكانة ، ولماذا يختلف صحيح البخاري عن صحيح ابن حبان مثلا؟ إذن فالتعليق على البخاري ليس تعليقا على شخص ولكن على مئات وآلاف العلماء جاءوا على مر عصور وفي بلدان مختلفة ووافقوا البخاري في تصحيحه ، وبالتالي على من ينقد ويرد أن يعلم أنه ينقد ويرد على كل هؤلاء وليس على البخاري فقط كما يزعم، وفهم ذلك يسقط الكثير من الشبهات التافهة التي تثار وتبدو منطقية وهي متهافتة بخلاف مسألة العصمة، كمسألة أصوله غير العربية مثلا.
2- في المقابل فإنه مما يساعد - في رأيي - على ترويج هذه الشبهة السطحية سطحية بعض الدعاة أيضا عندما يتحدثون بالمدح عن صحيح البخاري، فبعضهم يغفل أمرين هامين ، الأول ذكر هذا الاجماع والتركيز على ذكر عظمة علم البخاري وتمكنه وكأنه المصدر الوحيد لمكانة هذا الكتاب ، الثاني أنهم لا يتكلمون عن النقد الذي تعرض له كتاب الصحيح من بعض علماء كبار كالدارقطني والذي ألّف كتابا كاملا في نقد بعض أحاديث صحيح البخاري ، فإن ذكر هذا النقد يبين أيضا أن هذه المكانة لم تحصل إلا بعد دراسات وأبحاث طوال قرون ، وأن أحدا لم يثبت العصمة للبخاري أو يجعله فوق النقد كي يخرج علينا من يقول أن هذا مخالف للمنطق وللشرع ، وهذان الأمران يسهلان مهمة المهاجم جدا لأن كلامه يبدو أكثر منطقية وواقعية من ذاك الدرويش الذي يغرق في الثناء وينتزع الآهات من الجلوس دون تأصيل علمي يمثل حماية استبقاية من هذا الكلام، ولو أنه دقق وكان أمينا في ثنائه لتحققت غاية هامة أخرى وهي معرفة ماهية هذا النقد وأدواته ، ولكن صمته التام جعل المستمع يميل للآخر في حديثه عن عدم العصمة وهو لا خلاف فيه ولكنه أيضا أخذ يسمع ويمارس النقد دون أي فهم وحجة علمية كان ينبغي أن يحصلها من ذلك الداعية المتسنن لأنه بالطبع لن يجدها عند الطرف الآخر.
والآن أترككم مع النقل الذي أرجو أن يكون مفيدا ..
(ثانياً: الجواب عن قوله: "إنه من البشر، وعمل الإنسان لا يُمكن أن يكون مُتْقَنًا خاليًا من الأخطاء؛ لأنه ليس معصومًا من الأخطاء كالقرآن".
والجواب الأوّل: أن قوله: "إن عمل الإنسان لا يمكن أن يكون متقنًا خالياً من الأخطاء"، لا أدري كيف أفهمه؟ لأن الإنسان قد يتقن عملاً ما إتقاناً لا ترى فيه خطأً، ولا أظن السائل سيفقد كثيراً جدًّا من الأعمال البشرية حوله، ومن الصنائع المتقنة غاية الإتقان، وتؤدّي الغرض منها على صورة بالغة الدقّة. فكيف ينكر أن يكون عملُ البخاري متقناً؟
أظن السائل قد استقرّ في ذهنه أن الإنسان عمومًا غير معصوم، فظنّ أن عدم عصمة الإنسان يستلزم أن يخطئ في كل عمل! وهذا غير صحيح؛ فإن غير المعصوم لا يكون غير معصوم في كل عمل، بمعنى أنه لن يخطئ في كل عمل، بل شأن الإنسان أن يصيب وأن يخطئ. فما الذي يمنع (عقلاً) أن يكون البخاري قد أصاب في صحيحه ولم يخطئ فيه، وإن كان يخطئ في مؤلفاته وأعماله الأخرى؟!!
إذن فمسألة العصمة لا علاقة لها بإتقان البخاري لصحيحه.
الجواب الثاني: ولو افترضنا أنّ العمل البشري كلّه لابدّ أن يكون فيه خطأ، وأنه لا يصحُّ العمل البشريّ مطلقًا= فإن للخطأ وجوهاً عديدةً. فقد يكون كل ما في كتاب البخاري صحيحًا ثابتًا عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لكنّ خطأ البخاري الذي سيلزم عملَه البشري قد يكون في ترتيب كتابه، أو في فهمه –للأحاديث- الذي ذكره في عناوين أبوابه.
فما الذي يُوجب أن يكون خطأ البخاري الذي سلّمنا (تنزُّلاً) بوجوب وقوعه في تصحيحه، دون ترتيبه أو تبويبه؟!! أو لا يكفي أن يقع الخطأ في الترتيب أو التبويب ليثبت وَصْفُ البشريّة على عمل البخاري؟!!
الجواب الثالث: من قال للسائل إن أهل السنّة يعتقدون أن كل أحاديث صحيح البخاري صحيحة؟ فهذا أحد العلماء الكبار في علوم السنة، وهو أبو عَمرو ابن الصلاح (ت 643هـ = 1245م)، يقول في كتابه (علوم الحديث): "إن ما انفرد به البخاري ومسلم مُنْدرجٌ في قبيل ما يُقطع بصحّته، لتلقّي الأمّة كل واحد من كتابيهما بالقبول، على الوجه الذي فصّلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلّم عليها بعضُ أهل النقد الحفّاظ، كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن". علوم الحديث لابن الصلاح (29(.
ومعنى هذا الكلام: أن غالب وعامة ما في صحيح البخاري صحيحٌ مقطوعٌ به، لا من جهة أنه جُهْدُ البخاري وحده، ولكن لأن علماء السنّة على مرّ العصور قد درسوا هذا الكتاب أعمق دراسة، وفحصوا أحاديثه أشد الفحص، فخرجوا بتأييد البخاري في أكثر الكتاب والأعمّ الأغلب منه. ومن دلائل إنصافهم وموضوعيتهم في تلك الدراسة وذلك الفحص الذي سبق ذكره أنهم خالفوا البخاري في بعض الأحاديث، كما فعل الإمام الدارقطني (ت 385هـ =995م)، حيث ألّف كتاباً فيما ينتقده على الصحيحين، وهو كتاب (التتبّع)، وهو كتاب مطبوع مشهور.
لكنيّ أنبِّه السائل إلى أنّ مخالفة بعض كبار النقّاد للبخاري في عدد قليل جدًّا من أحاديث كتابه، لا يبيح لمن لم يتعمّق في علم الحديث تعمُّق أولئك النقِّاد أن ينتقد أحاديث أخرى لم ينتقدوها، ولا يجعل تضعيف أحاديث البخاري حقًّا مُشَاعًا لكل من أحب ذلك، بل لا شك أنه ليس من حقِّ غير العالم بالسنّة أن يُدخل نفسه في مناقشة الحديث الذي وقع فيه الاختلاف بين البخاري والإمام الآخر الذي خالفه؛ لأن هذه المناقشة تستلزم أن يُنصِّب نَفْسَه حَكَمًا بين علماء وأئمة السنّة، ومَنْ هو الذي يَتَصَوّر أن هذه المنزلة مُمكنةٌ لكل أحد؟!
فانتقاد الدارقطني (وهو النَّقَّادُ الكبير) لقليل من أحاديث البخاري لا يجيزُ لمن لم يبلغ نحواً من منزلته في العلم بالسنة أن يفعل فعله؛ وذلك لسببين كبيرين:
الأول: أن كل علم من العلوم له أعماق سحيقةٌ وقمِمٌ رفيعة، لا يغوص ولا يسمو إليها إلا كبار علماء ذلك العلم، فإن خاض فيها غيرهم أتى بالجهالات والعجائب؛ بسبب أنه يتكلم فيما يجهل، والكلام بجهل لا يقبله عاقل لنفسه ولا من غيره.
ومَثَلُ من يحتجّ بنقد الدارقطني وأمثاله من النقَّاد لبعض أحاديث البخاري ليمارس هو هذا النقد، مع عدم بلوغه قريبًا من منزلتهم في علمهم الذي مارسوه= مَثَلُ من يريد أن يُجْري عمليّةً جراحيّةً خطيرة لأحد الناس؛ بحجّة أن الطبيب العالمي فلان قد أجرى هذه العمليّة! هل يحق لأكبر مهندس أو أجل فيزيائي أن يفعل ذلك؟! بل هل يحق لطبيب غير جرّاح أن يفعل ذلك؟! بل هل يحق لجرّاح لا يصل إلى قريب من مهارة ذلك الطبيب العالمي أن يمارس عمليّةً تفوق مهاراته؟!!! هذه حقيقةُ ما يُريدُهُ أولئك القوم، الذين يُبيحون لأنفسهم الخوض في علوم السنة، بل في أعمق علوم السنة!!!
الثاني: أن إجماع علماء الأمة على تلقِّي الصحيحين بالقبول لا يمكن أن لا يكون له أثر، ولا يصحّ أن يتساوى كتابٌ لقي تلك العناية (كصحيح البخاري وصحيح مسلم) وكتابٌ آخر لم يَلْقَها، ولا يمكن أن يقبل منصفٌ أن يجعل المُتَلَقّى بالقبول من علماء الأمّة كالذي لم يَنَلْ هذه المكانة السامية. ونَقْدُ بعض أحاديث الصحيحين لا يُلْغي تلك الحقوق؛ لأنه ما من كتاب (حاشا كتاب الله) إلا وقد وُجِّه إليه نقد. فماذا يمتاز به الكتاب الذي وُجه إلى قدر يسير منه نقد، مع اتّفاق الأمة على صحّة غير هذا القَدْر اليسير المُنْتَقَد؟ 
الجواب هو ما ذكره ابن الصلاح أن كل ما لم ينتقده الأئمةُ الحفّاظ الذين كانت لديهم أهليّة الخوض في أعمق مسائل علم الحديث، أنه داخلٌ ضمن إجماع الأمة على صحّته، وأن نجاته من نقد الناقدين يدل على قبوله عند هؤلاء الناقدين؛ ولذلك كان كل مالم ينتقده أولئك النقَّاد من أحاديث الصحيحين مفيدًا لليقين بصحّته عند علماء السنة، كما سبق عن ابن الصلاح. فما لم يُنْتَقد من أحاديثهما ليس فقط صحيحًا، ولا خرج عن أن يحق لغير كبار النقَّاد أن ينتقدوه فَحَسْب، بل تجاوز ذلك: إلى أن يكون مقطوعًا بصحّته مجزومًا بثُبوته عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بدليل ذلك التلقّي بالقبول من علماء السنة لهذين الكتابين، بمن فيهم أولئك العلماء الذين انتقدوا، ممّا يدل على أن ذلك التلقّي لم يكن تقليدًا من علماء الأمة للبخاري ومسلم، بل هو موافقةٌ لصحّة النتائج التي توصَّلا إليها بناءً على النظر في الأدلّة والبراهين التي أوصلتهم إلى تلك النتائج، ولذلك خالف أولئك العلماء في قليل من تلك الأحاديث، وبقي الجزء الأكبر من أحاديث الصحيحين عندهم صحيحًا لا يخالفون في ثبوت وصف الصحّة له.
وبهذا يصبح انتقادُ أولئك النقّاد لبعض أحاديث الصحيحين سببًا لمنع من لم يصل إلى درجتهم في العلم أن يلج هذه الساحة؛ وصار دليلاً ضِدّ هؤلاء المتجرئين!!
لكني أعود وأذكر السائل أنه نسب إلى علماء السنة أنهم لم ينتقدوا صحيح البخاري، وكأنّهم اعتقدوا فيه العصمة، مع أنّهم قد مارسوا النقد العلمي لصحيح البخاري، وخالفوه في أحاديث قليلة، ولهم في ذلك مؤلفات شهيرة، وهي مؤلفات طُبع عددٌ منها، ويعرفها عامة المشتغلين بالسنة أدنى اشتغال.
وهذا خطأ ثانٍ وقع فيه السائل، يدل على بعده الكبير عن علوم السنّة، ممّا يدلّه على أنه عليه أن يُنْصِفَ هذا العلمَ من نفسه، فلا يخوض فيما لا يعلم!)
انتهى من مقال الدكتور الشريف حاتم بن عارف العوني.. وفي المقال إفادة أكبر في نقاط أخرى في هذا الشأن
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=82710
ومن المراجع التي أظنها مفيدة أيضا في هذه النقطة ، تعليقات الشيخ مقبل بن هادي الوادعي على كتاب (التتبع والإلزامات) للدارقطني ..
http://www.ajurry.com/vb/showthread.php?t=2282


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق