السبت، 19 أكتوبر 2019

الهاربون من الزواج

في الجامعة لمحت عنوان محاضرة مسجلة بعنوان (رسالة إلى الأعزب) أو نحو هذا، توقعت أن تكون موجهة إلى الأعزب الذي لا يجد تكاليف الزواج لتحثه على الانتفاع بعزوبيته الإجبارية إلى أن يأتي الفرج، ولكن بعد خمس دقائق من بدايتها اكتشفت أنها لترغيب الشباب العازف عن الزواج بإرادته كي يتزوج، وذلك بذكر فضل الزواج في الإسلام و... لم أكمل، أغلقتها بالطبع إلى غير عودة، واستنكرت أن يكون هناك حاجة إليها أصلا، فمعضلة الشباب - في اعتقادي حينها - أنه لا يستطيع الباءة أصلا، فهل يستطيع أحد الزواج ولا يتزوج لدرجة أنه يحتاج إلى محاضرة مخصوصة لتحفيزه! كان هذا عجيبا حينها ولكنه ليس كذلك الآن.
إن عزوف بعض الشباب المقتدر عن الزواج يكاد أن يتحول إلى ظاهرة خلال السنوات الماضية، تلاحظها العين، وتتلقى بشأنها أسئلة واستشارات مباشرة، المال والشقة بل والحاجة الفطرية موجودة وبقوة، ولكن في النفس مخاوف، والخوف سلطان يفقد المال قيمته، ويقاوم الاحتياج النفسي والفطري.

لماذا يخاف بعض الشباب المقتدر من الزواج إلى هذا الحد؟
في ظل ملاحظتي ومناقشاتي يمكن أن نجمل هذا في سببين:
1-      الخوف من المسئولية.
2-      الخوف بسبب كثرة النماذج الفاشلة.
أولا: الخوف من المسئولية
وهو ثلاثة صور
الصورة الأولى: الخوف الطبيعي، الإنسان بفطرته يهاب التكاليف الإضافية التي لم يجرب حملها من قبل، بل دعنا نعدل العبارة ونقول الإنسان (الجيد) بفطرته يهاب التكاليف الإضافية، الذي يخشى المساءلة أمام الله تبارك وتعالى، وكذلك يخشى المسئولية المجتمعية، هذا قدر طبيعي وفطري، وهو ميزة وليس عيبا، بل هو خير ممن لا يستشعر تلك المسئولية ولا يهابها ويدخل إلى الزواج بعشوائية كأنه ذاهب إلى نزهة فيصطدم بمسئولياته وأحماله، وحينها وتحت أثر الصدمة إما أن يحطم بيته كليا أو يستمر ولكن في نزاع مستمر بسبب تهربه واستثقاله لمهامه كزوج وأب، في حين أن من يدرك مسئولياته من البداية ويهابها يكن مستعدا لها بأكثر مما تحتاج، فيؤدي دوره على خير وزيادة، وهذا القدر من الخوف لا يعطل صاحبه عادة عن الزواج، لأن الاحتياج إليه أقوى بكثير من هذه التخوفات الطبيعية.

الصورة الثانية: الخوف الإضافي من المسئولية، ويقع هذا عادة لمن تأخر في الزواج لأي سبب، فحياته لعدة سنوات جمع فيها بين الراحة المادية بعد استقراره في العمل وبين خلو البال من أي مسئولية خاصة مع تراجع وصاية والديه عليه يجعل استثقال الدخول في تجربة الزواج أكبر، فمن تزوج صغيرا نسبيا خرج من مرحلة ضغوط الدراسة وضغوط بداية العمل إلى الزواج مباشرة، بل كان الزواج هو الجنة التي يصبر بها نفسه على الدراسة وصعوبات بداية الحياة العملية والمادية، فمثّل له الزواج النهاية السعيدة لمتاعب كبيرة، ولكن المتأخر قد مر بمرحلة راحة نسبية قبل الزواج، قدر من الحرية والانطلاق والاعتياد على طريقة حياة مختلفة عن حياة الطالب والعامل المكافح المديون وكذلك مختلفة عن حياة المتزوج (أبو العيال)، فيزيد قلقه من الدخول في مسئولية سيخسر معها الكثير من عاداته المكتسبة في السنوات الماضية، وهذا القدر الإضافي من الخوف يتطلب قدرا إضافيا من التأمل والتفكر في المستقبل، وأن للزواج أهمية تفوق أهمية تلك العادات التي قد يخسرها بالزواج، وأن هذا التخوف هو نظر تحت القدمين وإغفال للمستقبل الذي سيحتاج فيه الأسرة والذرية، كما أنه مع وجود الدافع الفطري للزواج يصبح الاستعفاف به وحماية النفس من المعصية المحتملة واجب.

الصورة الثالثة: خوف المسئولية المتعلق بالواقع، سواء كان الواقع زمان أو مكان، مثل الخوف من الضغوط المادية والاقتصادية، أو الخوف من مسئولية التربية الأخلاقية والدينية للأولاد، والنوعان الأصل فيهما ليس مذموما، فأحيانا أجد من يتكلم عن النوع الأول (الخوف المادي) يلزم نفسه بمقدمة دفاعية عن كون كلامه لا يقصد به ضعف الإيمان بالرزق وغير هذا، وحقيقة هو ليس في حاجة إلى هذه المقدمات، فالتفكير في الأمور المادية ليس خطأ في ذاته، بل قد جعل الزواج مرتبطا بالقدرة والاستطاعة كما جاء في الحديث، وإنما تأتي المشكلة عندما تكون قادرا الآن على فتح بيت بشكل جيد، ولكن تفكيرك في سنوات كثيرة لاحقة هو ما يعيقك عن الإقدام على الخطوة، هذا هو الخطأ، وهو من تكليف النفس ما لا تطيق، ولعله فعلا في هذه الحالة مما يخالف الإيمان بالرزق، فأنت لا تعرف المستقبل، أنت مسئول عن الحاضر وتقييم موقفك فيه فقط، لكنك تجد من يكلمك عن تكاليف المدارس والجامعات! وربما عن الشقق التي سيتزوج فيها أولاده الذين لم يبحث عن أمهم حتى الآن، فينبغي تحجيم هذا الخوف ومعرفة حدوده، تقييمك للقدرة المالية على الزواج لا يدخل فيه سنوات حياتك كلها، أنت ابن اليوم، والمستقبل بيد الله تبارك وتعالى، علما أن حتى تقييم موقفك اليوم لا ينبغي المغالاة في تقييم الاحتياجات فيه، ويجب التفرقة بين الأساسيات الحقيقية وبين النثريات التي حولها الناس والدراما إلى واجبات أهم من الطعام والماء وهي ليست كذلك.

أما الخوف من مسئولية التربية الأخلاقية والدينية للأولاد بسبب انتشار الفساد والفاسدين وانحدار حال الأمة وتعرضها للنكال من أعدائها، فإنه وجيه في الظاهر، غير عملي في الحقيقة، فالأمة دائما تمر بأزمات بدأت في جيل الصحابة أنفسهم، ومن يطالع التاريخ تقل صدماته في الحاضر، محن وابتلاءات داخلية وخارجية، منها ما هو متعلق بالأفكار والعقائد ومنها ما هو متعلق بالدماء والاحتلال والمعارك، لا أقول أننا بالضرورة أفضل حالا أو أسوأ حالا من أزمنة سابقة، ولكن الأكيد أننا لسنا في حال فريدة لم تحدث من قبل بأي درجة، ولقد كان المسلمون في وسط كل هذا يتزوجون وينجبون، وقد كانت هذه الذرية في أغلب الأحيان ما تشهد انقلاب الأوضاع وانقشاع الغمة التي ظن جيل الآباء أنها علامة القيامة ونهاية الزمان أو رثاء الإسلام وأهله كما وقع في عهد التتار والصليبيين وغيرهم، فالكافر والمسلم الفاسد غير المهتم يتزوجون وينجبون ويورثون أبناءهم الفساد بأريحية وها هو المسلم الصالح المهتم لا يريد حتى أن يحاول المساهمة في بناء جيل بعكس هذه الصورة، إذا كنت تخاف من مسئوليتك أمام الله تعالى فاعلم أن الله تعالى سائلك عن مجهودك وسعيك لا عن النتيجة، فصلاح ذريتك أو فسادهم والعياذ بالله ليس مجال سؤالك، ولكن مجال سؤالك هل قمت بما عليك أم لا، وكمسألة الرزق تماما، إياك أن تظن أنك تملك التحكم في النتائج أو أنك تعلم الغيب، فالرزق بيد الله وكذلك صلاح الأبناء والزوجات في يد الله، المهم أن تستنفذ وسعك في اختيار الزوج/الزوجة من البداية ثم بالبذل والحرص بعد هذا، وهذا جزء من صعوبة الدنيا واختبارها، وترك الزواج لأجل هذا لن يعفيك من ابتلاءات قد تكون أصعب تخص عفتك والحفاظ على نفسك، والذي يزداد إثمك فيه إن كان بيدك الاستعفاف ثم تركته بإرادتك.

ثانيا: الخوف بسبب النماذج الفاشلة
نعم هي كثيرة جدا جدا، ولكنك تعلم كما أعلم أن أكثر النماذج الفاشلة فشلها كان ظاهر قبل البداية أصلا، ولكن في ظل العادات والتقاليد وطريقة التفكير العجيبة التي يمارسها الكثير من الأهالي والشباب والبنات أبى أكثر هؤلاء إلا أن يشربوا الكأس المر إلى نهايته، أكثر الزيجات التي انتهت مبكرا جدا بسبب عدم التناسب إما ظهر عدم تناسبها في البداية ولكن قالوا سيتغير كل منهما بعد الزواج، أو لم يعطوا أنفسهم الفرصة أصلا كي يتبين مدى التناسب من عدمه وتزوجوا كـ (سلق البيض) فانكسر البيت.
إن حث المستطيع على الزواج لا يعني أن يتزوج أي فتاة ناسبته أم لا، وكذلك الفتاة، فأكثر المطلقات أصبحوا مطلقات فقط لأنهم خافوا من العنوسة إلى حد الذعر، فوافقوا على أي جثة تطرق الباب، كانت تعلم جيدا أن هذا الشاب لا يناسبها، وكان يعلم جيدا أن هذه الفتاة لا تناسبه، وكان أهليهم يعرفون، ولكن قالوا وقال الوسيط الذي (يدبس) رأسين في الحلال أنهما سيتغيران بعد الزواج، والواقع أن الناس لا تتزوج كي تتغير، بل يحتاج هو تحتاج هي من يستوعبها على حالها، وهنا أنا أتكلم عن شاب صالح وفتاة صالحة ولكن ليس بينهما تفاهم وتلاق، فما بالك إذا كان أحدهما فاسدا ظاهر الفساد أصلا، ما الذي يجعلنا نرتبط به على أمل أن ينصلح فجأة دون أسباب أو ضمانات! نعم، الله تعالى قادر على كل شيء، ولكنه هو تبارك وتعالى من أوحى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر الرجل أن يرتبط بذات الدين، وأن يأمر الفتاة أن تقبل فقط صاحب الدين، لا أن يرتبط أي منهما بمن ليس كذلك ويقول الله سيهديه! هذه الاتكالية يبرأ منها الدين، وآثارها السيئة ليست حجة أبدا للنفور مطلقا من الزواج.
هل يمنع التحري والحرص الفشل؟ لا ولكنه يقلله جدا، ويبقى الفشل محتملا، ولكنه حينها سيكون ابتلاء كأي ابتلاء في الدنيا، وتكون برئ من أسبابه محصلا لثوابه، فخوف الفشل لن يمنعنا من دخول الكلية التي نحبها وحصلنا على المجموع المطلوب لها، فإذا التحقنا بها وذاكرنا ومع ذلك فشلنا فهذا الاحتمال الأقل وقوعا، ولو وقع فقد برأت ذمتنا، وفي النهاية هذه دار امتحان لا جني الثمار، دار ممر لا دار مقر.
والله المستعان. 

السبت، 5 أكتوبر 2019

التقويم القمري وفصول المناخ، الثبات والتغير


التقويم القمري وفصول المناخ، الثبات والتغير
إعداد: معتز عبد الرحمن
تمهيد
كعادة ما قد تقرأه للعبد الفقير، ما ستقابله في هذه السطور هو جهد شخصي استهدف البحث فيما وراء منشورات ظهرت خلال الأعوام الثلاثة الماضية وتتوسع في الانتشار تدريجيا لتثير الجدل حول إذا ما كان صيام المسلمين وحجهم وعباداتهم صحيحة أم لا لكونها تسير وفق التقويم القمري المحض والذي تدور شهوره في الفصول المناخية دورة كاملة كل ثلاثة وثلاثين عاما، وأنه ينبغي - بحسب المنشورات - على المسلمين أن يكون صيامهم وحجهم في توقيت ثابت في السنة الشمسية بإضافة شهر للتقويم القمري كل عامين ونصف (شهر الكبس) ليجبر الفرق بين العام القمري والعام الشمسي.
وتقوم تلك الدعوى التي تصدر من منتسبين للإسلام على نقطتين أساسيتين:
الأولى: الاستدلال بأسماء الشهور القمرية.
الثانية: تكذيب المفسرين في تفسيرهم للنسئ بدعوى أن تفسيرهم كان تحايلا لإلغاء هذا الشهر في توقيت متأخر كثيرا عن زمن النبوة.
أما صدورها عن غير مسلمين فليس هو المستهدف كما سيأتي في سياق المقال أو البحث الصغير.

ملخص المناقشة ويأتي بعدها التفصيل بإذن الله
أولا: هل دلالة تسميات الشهور جازمة إلى هذا الحد؟
لا، فهناك ترتيبان للشهور بناء على المعنى المناخي لأسمائها، الأول أن (ربيع أول وربيع ثان) يوافقان الربيع المعروف حاليا، وبهذا الترتيب لن يوافق (جمادى أول وثان) الشتاء أبدا، وهما بمعنى جمود الماء من البرد، وكما أن رمضان (الرمض: الحر الشديد) عندما يوافق سبتمبر فليس هذا ذروة الحر في الجزيرة العربية، والترتيب الثاني يجعل (ربيع أول وثان) في الخريف المعروف حاليا بناء على القول بأن العرب كانوا يطلقون على الخريف ربيعا، وهذا لا يجعل أيضا الجمادين في ذروة الشتاء، ولا يجعل رمضان في الصيف، ولا شوال (بمعنى ارتفاع الحر) بعد نهاية الصيف وإنما قبله، كما أنه بناء على هذا الترتيب، فإن غزوة تبوك المشهورة بكونها وقعت في الحر الشديد والتي كانت في شهر رجب بحسب كتب السيرة ستكون في قلب الشتاء!، والغزوة التي اشتهرت بمعاناة المسلمين فيها من البرد الشديد (غزوة الخندق) ورد وقوعها في شهر شوال، وهو في الترتيبين بعيد عن ذروة الشتاء، وفي التفصيل تجد جدولا موضحا ونقلا للأقوال التاريخية.
علما أن كل التحليلات الخاصة بدراسة دلالة أسماء الشهور تعود لما كان عليه العرب في الجاهلية لا لفعل المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد عمر بن الخطاب أو الأمويين بحسب المزاعم، فأشهر ناشري هذه البلبلة حاليا عندما سئل متى ألغي شهر (الكبس) قال (مش عارف، تلاقيهم الأمويين)، وهذا كلام أبعد ما يكون عن العلم والتأريخ، فحتى المؤرخين إذا تبنوا القول باستخدام (شهر الكبس) لتثبيت الشهور القمرية مع الشهور الميلادية فإنهم ينسبون هذا للجاهلية ويقرون بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو من غير هذا الفعل.

ثانيا: إحداث جدل حول تعريف (النسيء) بصورة لا تؤثر أصلا ولا تؤدي إلى هذه النتائج.
فالنسيء يأتي بمعنى التأخير ومعنى الزيادة، يزعم هؤلاء بأن النسيء بمعنى التأخير فقط، أي تأخير موعد الشهر الحرام عن موعده بأن يجعل مثلا صفر هو الشهر الحرام بدلا من محرم ليستحلوا القتال في محرم، وأن المفسرين – بعد النبي صلى الله عليه وسلم- هما من افتعلوا تفسيره بالزيادة لإلغاء شهر الكبس على خلاف مراد الله تبارك تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، والحقيقة مع كون المعنيين واردين لغويا للكلمة – كما ستجد في التفصيل- إلا أن المفسرين المعروفين أصلا يكثر في تفسيرهم إيرادها بمعنى التأخير فعلا أكثر من معنى الزيادة، فأنت لا تفاجئنا ولا تظهر التفسير الصحيح المنسي الذي أخفاه الناس، ولكن الاعتماد على إحداث الجدل حول كلمة واحدة في آية، وإهمال ما قبلها وما بعدها وإهمال عشرات غيرها من الأدلة والأحكام الشرعية الدالة على خلاف دعواك هو من قبل اتباع المتشابه وترك المحكم، (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37))، الآية التي سبقت آية النسيء ذكرت بوضوح أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فقط، في حين أن الشهر الزائد المزعوم سيجعل كل عامين هناك عام شهوره ثلاثة عشر شهرا! فأين هذا العام في الآية التي نزلت تقر للمسلمين تقويمهم وما يحل فيه القتال وما يحرم! إن لم تذكر مشروعيته هنا فأين؟، كما أن ما جاء في خطبة الوداع من إعلان بين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلغي كلا المعنيين للنسيء (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا، أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ، ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِى بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) متفق عليه.

ثالثا: حجر الأساس (الإسلام يجب ما قبله)
وكان ينبغي ونحن نناقش أي كلام يصدر عن مسلمين أن تكون هذه هي النقطة الأولى والأخيرة، ولكن للحفاظ على تدرج وترتيب بحثي البسيط المعني باستكشاف حقيقة هذا الدعوى اضطررت لختم البحث بها، وقد جاءت نقطة النسيء كتمهيد تلقائي غير مقصود أهداه لنا أصحاب الادعاء، فإن أيا ما كان وضع الجاهلية، وأيا ما كان أسباب تسمياتهم للشهور، فإن الإسلام يجب ما قبله، وما أقره الإسلام أقر، وما نسخه وغيّره انتهى، وإلا فليطوف الطائفون عراة بالكعبة، ملبين بالمكاء والتصدية! استدلالا بحال العرب قبل الإسلام!
فما يجعل أفعال وتسميات العرب قبل الإسلام حجة هو ورود الدليل على إقرار الإسلام لها أو سكوته عنها، والواقع يكشف أنه لا يوجد دليل على إقرار الإسلام لها، وأنه عمليا لم يسكت عنها، بل يخالفها نصا وعملا، فمن النص ما جاء في آيتي التوبة وفي خطبة الوداع، ومن العمل ربط كآفة العبادات باستطلاع الأهلة كما هو معلوم في القرآن والسنة، وفوق كل هذا فالإجماع في الشريعة معتبر، والأمة لا تجتمع على باطل وطول هذه القرون في مسألة متعلقة بأركان الإسلام وأصول العبادات.
وهذه الدعوى عندما تصدر عن غير مسلمين فإنهم يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم والذي في نظرهم - وحاشاه - هو مؤلف القرآن بأنه هو المتسبب في هذا! ولا أدري حقيقة ما مشكلة كافر في كون رجل هو يراه مدعيا للنبوة قد غيّر في تقويم قومه الذي سيتعبدون به أو لم يغير! طالما أنك أنت خارج هذا الأمر كله وتعيش فصولك المناخية مع شهورك الشمسية ولا مشكلة لديك!، لكن في النهاية هو كافر مكذب للنبي صلى الله عليه وسلم وسيسعى لتكذيبه في أي شيء وكل شيء، لكن ماذا يريد (المسلم) من طرح تلك الدعوى التي كما تبين خالية من الدليل المعتبر ومخالفة للأدلة المعتبرة والعمل على نشرها والمبالغة في الدندنة حولها؟!
لا أدري! وإن كنت للأسف أتوقع.

التفصيل

أولا: هل دلالة تسميات الشهور جازمة إلى هذا الحد؟
تعتمد مسألة دعوى ثبات شهور التقويم القمري مع فصول السنة الأربعة بالأساس على تسميات بعض الشهور التي تبدو مرتبطة بحالة المناخ، إذ يتم الربط بين اسم شهري (ربيع أول وربيع ثان) بفصل الربيع، وشهري (جمادى أول وجمادى ثان) بفصل الشتاء (لتجمد الماء فيه)، وشهر رمضان بالصيف لاشتقاق اسمه من الرمض وهو الحر الشديد، وهو الشهر الذي يزعم البعض حاليا أنه يبدأ وينتهي بالضرورة مع شهر سبتمبر.
يعتمد الاستدلال الأول (الترتيب الأول في الجدول أدناه) على موافقة شهري (ربيع أول وربيع ثان) لفصل الربيع الذي يبدأ في مارس وينتهي في يونيو، وهو ترتيب يجعل بداية العام القمري والعام الشمسي متطابقتين (يناير ومحرم)، وهو الترتيب الذي يقول أصحابه أن صيام رمضان يكون في سبتمبر، ولكن بالنظر إلى بقية الشهور فسنجد أن رمضان نفسه لم يوافق شدة الحر! فسبتمبر لا يمثل قلب الصيف في الجزيرة العربية، فهل سيتركون يوليو وأغسطس ويطلقون الرمض على سبتمبر؟، والأوضح من هذا موافقة الجمادين لمايو ويونيو، وهما شهران أبعد ما يكون عن الشتاء الذي تتجمد فيه المياه!
وبالنظر في موسوعة (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) للدكتور جواد علي، والذي تبنى في كلامه نفس النظرية وهي ثبات الشهور القمرية مع الفصول المناخية قبل الإسلام، ورفض تفسيرات العلماء الذين رأوا أن تسميات الشهور جاءت بحسب ظروف بداية التسمية، بمعنى أن القدماء عندما أرادوا إطلاق اسم على الشهر القمري التاسع وافق حينها مناخا حرا فأطلقوا عليه (رمضان) ولا يعني ذلك ارتباطه بالحر كل عام، وكذلك في شأن الشهور الأخرى التي تبدو أسماءها مرتبطة بالمناخ، رفض الدكتور جواد هذه التفسيرات الظنية ورأى أن التسميات دلالتها يقينية بشكل أكبر، وأنه لا معنى مثلا  لتسمية شهر باسم جمادى إن لم يكن من أشهر الشتاء (دائما) ورمضان لا معنى لاسمه إن لم يوافق الحر الشديد (دائما) وهكذا، كما تجد تفصيلا في الصفحات (5038-5044) من الموسوعة، ولكن في الترتيب الذي ذكره الدكتور جواد قال أن العرب كانوا يطلقون على الخريف المعروف الآن (ربيعا) (وشهري الربيع للزهر والأنوار وتواتر الأندية والأمطار، وهو نسبة إلى طبع الفصل الذي نسميه نحن الخريف، وكانوا يسمونه ربيعاً، وشهري جمادى لجمود الماء فيهما ...) وبالتالي إذا أسقطنا هذا الترتيب (الثاني) على فصول السنة فربما يصفو الأمر للربيعين كليا، ويصفو جزئيا للجمادين، ولكن يبقى رمضان أبعد ما يكون عن قلب الصيف، وشوال الذي نقل الدكتور في معنى اسمه (وشوّال لارتفاع الحرّ وادباره) لم يأت في دبر حر بل قبل بدايته!

 كما أنه بناء على هذا الترتيب، فإن غزوة تبوك المشهورة بكونها وقعت في الحر الشديد والتي كانت في شهر رجب بحسب كتب السيرة ستكون في قلب الشتاء!، والغزوة التي اشتهرت بمعاناة المسلمين فيها من البرد الشديد (غزوة الخندق) ورد وقوعها في شهر شوال، وهو في الترتيبين بعيد عن ذروة الشتاء، وهذه مجرد إشارات على هامش أصول الموضوع.

ففي الترتيبين لن تجد تلك اليقينية والأريحية التي يستدل بها المستدلون بأسماء الشهور على كون صيام المسلمين وحجهم هذه الأيام غير صحيح! بل وربما وجدت أن تفسير بعض العلماء لهذه التسميات بأنها جاءت حسب ظروف بداية التسمية هو الأقرب للإقناع لأن الاستقرار على أسماء الشهور كلها لا يكون بالضرورة في لحظة تاريخية محددة، بل بالاطلاع على الموسوعة سنجد أن أسماء الشهور كانت تختلف في أنحاء الجزيرة العربية أصلا. 

ومن الجدير بالذكر أن الدكتور جواد علي في موسوعته الضخمة ومع تبنيه لكون التقويم العربي كان ثابتا مع الفصول المناخية وبالتالي مع التقويم الشمسي قبل الإسلام قرر بأريحية أن هذا التثبيت ألغاه التشريع الإسلامي وأن العلماء لا يحتاجون لتفسير المسميات بأنها مرتبطة ببداية التسمية كما سبق ذكره (ولم يعرفوا أن ذلك بسبب اتباع الإسلام التقويم القمري، مما دعا إلى تحرك الشهور وتنقلها في الفصول، لكون الشهور القمرية غير ثابتة على نمط الشهور الشمسية)  ولم ينقد هذا أو يرى فيه مشكلة، ولم يزعم – وهو مؤرخ متخصص – أن هذا التثبيت استمر بعد الإسلام أو أنه كان ينبغي أن يستمر.



ثانيا: إحداث جدل حول تعريف (النسيء) بصورة لا تؤثر أصلا ولا تؤدي إلى هذه النتائج.

الارتكاز الثاني الذي تقوم عليه دعوى وجود خطأ حالي في التقويم الهجري يفسد علينا كل شئون عبادتنا هو أن العرب كان يحتسبون شهرا زائدا كل ثلاثين شهر كي يوافقوا التقويم الشمسي وتبقى في النهاية الشهور القمرية ثابتة مع الفصول المناخية والشهور الشمسية كما تقدم، وأن المسلمين ألغوا هذا الشهر اعتمادا على آية سورة التوبة (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)).
وهذه الدعوى عندما تصدر عن غير مسلمين فإنهم يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم والذي في نظرهم - وحاشاه - هو مؤلف القرآن بأنه هو المتسبب في هذا! ولا أدري حقيقة ما مشكلة كافر في كون رجل هو يراه مدعيا للنبوة قد غيّر في تقويم قومه الذي سيتعبدون به أو لم يغير! طالما أنك أنت خارج هذا الأمر كله وتعيش فصولك المناخية مع شهورك الشمسية ولا مشكلة لديك!، لكن في النهاية هو كافر مكذب للنبي صلى الله عليه وسلم وسيسعى لتكذيبه في أي شيء وكل شيء، لكن عندما تصدر هذه الدعوة من منتسبين للإسلام فإنهم بالتأكيد لن يحملوا النبي صلى الله عليه وسلم مسئولية ما يرون أنه خطأ جسيم، فينسبون الخطأ للمفسرين الذي فسروا الآية بهذا المعنى، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم وربما بعده الخلفاء الراشدون قد أبقوا على هذا التقويم المعدل بالشهر الزائد حتى أتى من غيّر هذا فجأة وحرّف تفسير الآية فجأة.

وفي نظر دعوى المنتسبين للإسلام، أفكر بصوت عال:
أولا: في ظل ما قرأت للمدعين أنفسهم لم أجد تعريفا واضحا لمن بدأ هذا التغيير والتفسير، أو استدلالا واضحا على استمرارية العمل بالشهر الزائد لما بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المفترض أن هذه مسألة جوهرية لا تقل أهمية مثلا عن مسألة تحديد بداية لعداد السنوات في التقويم القمري والذي وقع في عهد عمر بن الخطاب، فأين الدليل وأين تاريخ بداية هذا التغيير الخاطئ طالما أنكم لا تنسبونه للنبي صلى الله عليه وسلم!
ثانيا: يركز أصحاب هذه الدعوى على تفسير كلمة النسيء، ويتهمون المفسرين بأنهم فسروها – كذبا – بالشهر الزائد الذي يضاف لضبط التقويم القمري مع التقويم الشمسي في حين – والكلام لا يزال لهم – أن حقيقة النسيء هو تأخير الأشهر الحرم عن موضعها كي يستحلوا القتال فيها، فمثلا يجعلون الشهر المحرم هو صفر بدلا من محرم كي يقاتلوا في محرم بلا غضاضة، وهكذا.

والواقع أن أكثر المفسرين يذكرون التفسير الثاني أصلا، وهو التلاعب بالأشهر الحرم، ولا تكاد تجد تفسير إلغاء الشهر الزائد في أكثر التفاسير المشهور إلا عرضا، ويمكن الرجوع لتفسير الطبري والقرطبي وابن كثير والبغوي وغيرهم، أما الأهم من ذلك فهو أن الآية التي سبقت آية النسيء ذكرت بوضوح أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فقط، في حين أن الشهر الزائد المزعوم سيجعل كل عامين هناك عام شهوره ثلاثة عشر شهرا! فأين هذا العام في الآية التي نزلت تقر للمسلمين تقويمهم وما يحل فيه القتال وما يحرم! إن لم تذكر مشروعيته هنا فأين؟ فتركيز الجدل حول كلمة في آية وترك آيات وأدلة جلية – كما سيأتي لاحقا- هو عين ترك المحكم واتباع المتشابه ابتغاء الفتنة والتأويل الخاطئ!

وبالرجوع لموسوعة الدكتور جواد علي، وهي أكبر وأشهر مصدر وجدته في تاريخ العرب قبل الإسلام ويشار إليها دائما في المراجع، نجد أنه ذكر المعنيين المحتملين للنسئ، (وذُكر أن نسيء العرب كان على ضربين: أحدهما تأخير شهر المحرم إلى صفر لحاجتهم إلى شن الغارات وطلب الثارات، والأخر تأخير الحج عن وقته تحرّياً منهم للسنة الشمسية، فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يوماً، حتى يدور الدور فيه الى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته، وهذا الرأي يلخص ما أورده أهل الأخبار في النسيء، ويتلخص في شيئين: النسيء تأخير الشهور، و ذلك بإحلال شهر في مكان شهر آخر، للاستفادة من ذلك في التحليل والتحريم، والنسيء بمعنى الكبس، وهو إضافة الفرق الذي يقع بين السنة الشمسية والسنة القمرية إلى الشهور القمرية لتلافي النقص الكائن بين السنتين، ولتكون الشهور القمرية بذلك ثابتة لا تتغير، تكون في مواسمها المعينة، فلا يقع حادث في شهر من شهورها في الشتاء، ثم يتحول بمرور السنين، فيقع بعد أمد في الصيف أو في الربيع، كما يقع ذلك في الشهور القمرية الصرفة المستعملة في الإسلام).
وقال (وقد استمرت طريقة النسيء هذه إلى أيام الإسلام، فحج أبو بكر في السنة التاسعة من الهجرة، فوافق حجه ذي القعدة، ثم حج رسول الله في العام القابل الموافق السنة العاشرة للهجرة، المصادفة لسنة "631" للميلاد، فوافق عود الحج في ذي الحجة ثم نزل الحكم بإبطال النسيء في الآيات (أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله، يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم. ذلك الدين القيم، فلا تظلموا فيهن أنفسكم. وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة، واعلموا أن الله مع المتقين، إنما النسيء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطؤوا عدة ما حرم، فيحلوَا ما حرم الله. زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين)، وخطب الرسول في جموع الحجاج خطبته الشهيرة التي بينَ فيها مناسك الحج وسننه وأموراً أخرى أوضحها لهم، فكان مما قاله لهم: "أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر، وإن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السماوات والأرض، وان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً". فألغى الإسلام منذ ذلك الحين النسيء، وثبت شهور السنة وجعل التقويم القمري هو التقويم الرسمي للمسلمين).

وأيضا (وروي كلام الرسول عنه على هذه الصورة: "أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً، ليواطأوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله، ويحرموا ما أحل الله. وإن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السماوات والأرض. وان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم. ثلاثة متوالية، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"، فألغى الإسلام منذ ذلك الحين النسيء، وجعل التقويم القمري الخالص هو التقويم الرسمي للمسلمين.
ويظهر من القرآن الكريم إن سبب تحريم النسيء في الإسلام هو تلاعب القلامسة بالشهور، بتحريمهم شهراً حلالاّ في عام، ثم تحليلهم له في العام القابل. فأزال الإسلام ذلك التلاعب بتحريم النسيء، واتخاذ السنة سنة قمرية ذات اثني عشر شهراً لا غير، كما صيرها الجاهليون ثلاثة عشر أو أربعة عشر شهراً. ولما كان الزرع يعتمد على المواسم الطبيعية، وعلى الأشهر الشمسية، لذلك صار اعتماد المزارعين في الزرع وفي الحصاد على الشهور الشمسية، أي على السنة الشمسية، اما الأمور الدينية، مثل الحج والصيام، فالاعتماد بالطيع على الشهور القمرية.

واتخاذ التقويم القمري تقويماً رسمياً للإسلام، هو من السمات التي امتاز بها الإسلام عن الجاهلية، واعتبر من النقاط الفاصلة الني فصلت بين الجاهلية والإسلام. وهكذا زال الكبس كما زال النسيء عن السنة القمرية وعن الشهور لتحويلها إلى سنة شمسية على نحو ما رأيناه من فعل الجاهليين).
فهنا نجد المؤرخ قد أوضح بجلاء أنه أيا كان معنى تفسير النسيء، سواء المعنى الأول أو الثاني أو كليهما فإنه قد أبطل في عام حجة الوداع بالآيتين وبالحديث النبوي الصحيح الشهير، وأنه سواء كان تحريف التقويم القمري في الجاهلية يتم بإضافة شهر كل عامين ونصف، أو فقط بزحزحة تحريم الشهور كل عام وتغيير وقت الحج كما جاء في التفاسير، فإنه في هذا العام – حجة الوداع – قد وافقت استدارة الزمان التقويم الأصلي الصحيح (اثنا عشر شهرا يوم خلق الله السماوات والأرض)، وجاء الحج في موعده الصحيح، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته أسماء الشهور الحرم بوضوح حتى لا تستبدل بعد هذا، وقد تحرى النبي صلى الله عليه وسلم الدقة في تحديدها في قوله صلى الله عليه وسلم (ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) لأن مضر لم تكن تغيره عن موعده بخلاف بعض القبائل الأخرى، فماذا يريد المنتسب للإسلام المقر للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة بعد هذا! وكيف يرى أن الإسلام الصحيح هو ترك تشريعه والعودة للعمل باختراعات أهل الجاهلية وأن اتباع طريقة الجاهلية هي التي تحقق لنا العبادة الصحيحة!

والواقع العملي – والذي أشار إليه الدكتور جواد سابقا – لم يحدث فيه اضطراب بسبب دوران الشهور القمرية في الفصول المناخية إذ أن العمل بكلا التقويمين كل في موضعه بديهي، فأجرى الزراع مواسمهم الزراعية على التقويم الشمسي، واعتمدوا في عباداتهم ومعاملاتهم على التقويم القمري، بل ذكر الدكتور جواد أيضا أن هذا كان فعل العرب قبل الإسلام أصلا والذين يستدل بهم المستدلون الآن تاركين القرآن الكريم والهدي النبوي (استعمل العرب الجنوبيون التقويم الشمسي في الزراعة، واستعملوا التقويم القمري للأغراض التي ذكرتها، والتقويم النجمي، أي التقويم، الذي يقوم على رصد النجوم لأغراض دينية وللوقوف على الأنواء الجوية لما لها من صلة بالزراعة وبالحياة العامة.
ويتبين من النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية*، ومن النصوص النبطية*، ومن نص النمارة*، إن أصحابها كانوا يتعاملون وفقاً للتقويم الشمسي في الأمور التي لها اتصال مباشر بالطبيعة، ووفقاً للتقويم القمري في الآمور الأخرى، لسهولة ضبط الأهلة، وتحقيق العقود بموجبها، واذا كان الحال على هذا المنوال عند هؤلاء وعند العرب الجنوبيين، فبإمكاننا القول إن بقية الجاهليين، ممن لم يتركوا لنا نصوصاً، كانوا يتبعون التقويمين كذلك، جرياً على سنهَ الناس في ذلك العهد، ومنهم الأعاجم، من اتباعهم التقويمين المذكورين في تنفيذ العقود والالتزامات وفي ضبط الأزمنة)
* أسماء قبائل وأعراق عربية.

ثالثا: حجر الأساس (الإسلام يجب ما قبله)
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)) سورة المائدة
ومهيمنا عليه
فالإسلام حاكم ومهيمن على ما قبله من الشرائع والأحكام وإن جاءت في شريعة أنبياء سابقين، فالإسلام ينسخ منها ويقر، فكيف بأفعال واجتهادات بشرية غير نابعة من الوحي أصلا.
وكان ينبغي ونحن نناقش أي كلام يصدر عن مسلمين أن تكون هذه هي النقطة الأولى والأخيرة، ولكن للحفاظ على تدرج وترتيب بحثي البسيط المعني باستكشاف حقيقة هذا الدعوى اضطررت لختم البحث بها، وقد جاءت نقطة النسيء كتمهيد تلقائي غير مقصود أهداه لنا أصحاب الادعاء، فإن أيا ما كان وضع الجاهلية، وأيا ما كان أسباب تسمياتهم للشهور، فإن الإسلام يجب ما قبله، وما أقره الإسلام أقر، وما نسخه وغيّره انتهى، وإلا فليطوف الطائفون عراة بالكعبة، ملبين بالمكاء والتصدية! استدلالا بحال العرب قبل الإسلام!
فما يجعل أفعال وتسميات العرب قبل الإسلام حجة هو ورود الدليل على إقرار الإسلام لها أو سكوته عنها، والواقع يكشف أنه لا يوجد دليل على إقرار الإسلام لها، وأنه عمليا لم يسكت عنها، بل يخالفها نصا وعملا، فمن النص ما جاء في آيتي التوبة وفي خطبة الوداع، ومن العمل ربط كآفة العبادات باستطلاع الأهلة
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)) سورة البقرة
فلو أن الحج سيكون دوما في العاشر من ديسمبر، أو العاشر من يونيو، أو أي شهر ثابت فما معنى استطلاع الهلال!، فإن الأول من هذا الشهر سيوافق كل حالات القمر.
وكذلك في شهر رمضان وعيد الفطر، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلالَ وَلا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ رواه البخاري (1906)، ومسلم (1080).
وفوق كل هذا فالإجماع في الشريعة معتبر، والأمة لا تجتمع على باطل وطول هذه القرون في مسألة متعلقة بأركان الإسلام وأصول العبادات.
وأحكام الهلال واستطلاعه وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده بهذا أكثر من أن تحصى أو تهدم لأن العرب لأسباب غير موثقة أو مؤكدة سموا هذا الشهر بمعنى بارد وسموا ذاك الشهر بمعنى حار!
ماذا يريد (المسلم) من طرح تلك الدعوى التي كما تبين خالية من الدليل المعتبر ومخالفة للأدلة المعتبرة والعمل على نشرها والمبالغة في الدندنة حولها؟!
لا أدري! وإن كنت للأسف أتوقع.

مراجع للاستزادة
-          موسوعة (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) للدكتور جواد علي
-          تفسير سورة التوبة في تفاسير الطبري والقرطبي وابن كثير والبغوي

-          موقع الباحثون المسلمون