الاثنين، 9 يونيو 2014

عندما ينتصر العصاة



عندما ينتصر العصاة

نحن نجيد صناعة المشكلات الفكرية وحياكة الخلاف وبناء قواعد صواريخ التراشقات من لا شيء ولأجل لا شيء.

هذه حقيقة واقعة ، نجيد خلط الأوراق وإخفاء نصف السؤال ومحو نصف الإجابة لتظل دائما هناك جدليات من لا شيء تستنزف القوى وتنهك لوحات المفاتيح وعيون القراء لنظل دائما حائرين بين البوست والبوست الآخر .. رغم أن كل منهما في الحقيقة مجرد جزء من صورة الـ (ميكانو) المبعثرة.

هل ينتصر العصاة؟ هل ينتصر المقصرون في طاعة ربهم؟ هل يستلزم النصر في المعارك الخارجية كتحرير فلسطين وغيرها أن نكون ملائكيين؟ وهل يستلزم نجاح الثورة وحصول العدل والمجد أن يكون الشعب كالأنبياء والمرسلين؟ هل وقت الأزمات (حروبا وثورات) هو وقت مناسب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هل يفت هذا في عضد الحراك؟ هل يؤجل؟ هل يؤخر النصر أو يعجل؟ أسئلة بديهية جدا أصبحت في زماننا للأسف مثارا للجدل الذي لا ينتهي.

نقطة ومن أول السطر .. إننا نعاني من طرفي نقيض .. إننا نعاني من المتطرفين فعلا..
المتطرف الأول هو ذلك الذي يصوّر العمل للأمة وكأنه نتيجة وجزاء لا عمل ، يصور الجهاد ويصور العمل من أجل التغيير بل وأحيانا يصوّر الدعوة إلى الله وكأنها الفردوس الأعلى لا يحق لأحد أن يدخل فيه إلا بعدما يكون صالحا جدا نقيا للغاية ملائكيا ، بل إن حتى دخول الفردوس الأعلى لا يتطلب منك أن تكون ملاكا ، تقصف فلسطين فتغضب فيقول لك عندما تقوم الليل أولا تحدث عن فلسطين ، تحتل العراق يقول لك وهل ستدافع عنهم بمعاصيك هذه؟! اجلس وتب ثم تحدث عن العراق ، ينتشر الظلم في بلاد المسلمين يقول لك وهل سترفع الظلم وأنت مقصر هكذا ، اذهب إلى البيت واقرأ عشرة أجزاء كي تنكشف الغمة فليس مثلك صالحا لفعل أي شيء ، تأتيك فرصة لتبلغ حرفا كما حثك رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطبك أن ربي نفسك أولا ثم أبحث عن غيرك.

إنه يدفعك لتأجيل كل عمل مفيد مؤثر في الواقع إلى حين تستكمل فيه كافة الطاعات (نوافل لا فروض) وتقلع فيه عن كافة المعاصي (صغيرها قبل كبيرها) وقطعا هذا حين لن يأتي قط ، ومعيار مطاط للغاية لا يمكن القياس عليه ، والدليل أنه هو نفسه رغم سبقه لك في هذا الطريق إلى الآن لم يفعل شيئا ،، لماذا؟ ،، لأنه لن يرى نفسه أبدا صالحا ونقيا ، ومن يستطيع أن يجزم لنفسه بهذا؟ ومن يستطيع أن يكون بلا ذنب أو معصية ، إن العمل للأمة وخدمة واقعها لا يختلف كثيرا عن سائر تلك العبادات التي يحثك عليها ، هو يحثك على الصلاة والزكاة والصيام وتلاوة القرآن والقيام وغيرها ، ولم يقل لك لا تقوم الليل حتى تصلح نفسك ولا تقرأ القرآن حتى تتوب توبة نقية لا ذنب بعدها! إذ أن السبيل لإصلاح النفس والتوبة وتكفير السيئات هو هذه العبادات أصلا ، والعمل للأمة بشتى صوره هو من هذه العبادات قطعا ، بل إن ذورة سنام الإسلام جعل جزاؤه تكفير السيئات ، بل يطلب الناس الشهادة في سبيل الله لتغفر خطاياهم ، فلو كان النقاء وانعدام التقصير والذنوب شرط للعمل فما معنى هذا الجزاء!! (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)) سورة الصف.

وفي ظل نمو انتشار هذا التطرف في الشهور الأخيرة مستغلين حالة الحزن والإحباط الموجودة عند الناس ، يظهر التطرف المقابل ليقاوم ويعالج الخطأ الفادح بخطأ أفدح منه ، ألا تعبأوا بالخطايا والذنوب فالله ينصر العصاة مطلقا ، تجده يفرد الصفحات في التخفيف من وطأة الذنوب والمعاصي وأثرها في عرقلة الأمة وأبنائها ويستدل استدلالات باطلة بذاك العاصي الذي انتصر وذاك المبتدع الذي حقق كذا وكذا ويطالب بالتوقف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبتخفيف تذكير الناس بذنوبهم وحثهم على التوبة منها ثم يأتي في سطر خفي لا تراه الأعين المتحمسة ويقول أنا لا أهون من شأن المعاصي ولكن .. وبعد لكن يستكمل الخلط والتطرف.
أولا: إن تعلق النصر والفرج بالطاعة والتوبة ، وتعلق الهم والغم بالمعصية والتقصير ثابتان في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولا يستطع أن ينكرهما أحد ، ومواطنهما في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى ، وأشهر مثال لذلك غزوة أحد، التي مني فيها المسلمون بهزيمة قاسية بمعصية أمر واحد! أمر واحد تأمل! ولم يؤجل رب العالمين تعريفهم بسبب الهزيمة وعتابهم إلى أن يأتي نصر آخر، فالنصر الآخر لن يأتي ما لم يتعلموا من خطئهم ويصلحوه ، تنزل آيات آل عمران واضحة بلا مواربة يقرأها ويسمعها القاصي والداني ، المسلم والمنافق والكافر ، تعدد للمسلمين أخطاءهم التي وقعوا فيها وتعالجها ، فأين التأجيل؟ وأين (مش وقته)؟ وأين شماتة الأعداء التي يرهبون بها فكريا كل من يحاول أن يصلح ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟! إن خيرية الأمة أصلا تعلقت بهذا النصح والتذكير فكيف تريد أن تخلع الخيرية طلبا للنصر؟! لا يحتاج النصر أن تكون ملاكا لكنه أيضا لا يريدك عربيدا تفعل ما تشاء تلتزم بما تشاء وتترك ما تشاء وإذا ما ذكرك أحد اتهمته أنه يعطلك ويخذلك ويقف بذلك في صف عدوك! أقولها وأكررها كثيرا إن من بيننا أناسا لو نزلت عليهم سورة آل عمران أو آيات حنين لقالوا (مش وقته).

ثانيا: هل النصر غاية؟ أم الجنة هي الغاية؟ أم رضا الله هو الغاية؟ أتنتصر دنيويا وأنت على بدعة أو معصية أفضل أم تموت منهزما مستضعفا وأنت على الصراط المستقيم؟ نعم انتصر المعتصم المبتدع وفتح عمورية ، أتحب أن تكون لك عمورية وتكون على مذهبه وتلقى به الله؟ ، نعم انتصر العثمانيون وفيهم القبوريون ، أتحب أن تحقق نصرهم وتكون على عقيدتهم وتلقى بها الله؟ ، انتصر اليهود في 1948 و1967 ، وانتصر الحلفاء على المحور ، أين وجه الاستدلال الشرعي؟؟!! لست أدري.. نجح نظام مبارك في العودة وانتصر على الثورة أهم على الحق؟! قمع عبد الناصر الإخوان والإسلاميين ولم يحكم بالشرع وحكم زمانا ومات على فراشه وشيعه ملايين ويبكيه ملايين إلى الآن ، ما المطلوب؟! إن العمل على دفع الظلم والعمل على الالتزام بالشرع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادات متوازية لا متقاطعة لا تحتاج أن توقف واحدة لتستكمل الأخرى! فلما هذا الخلط ولما الدخول أصلا في أزمة أولوليات مفتعلة تطيش معها العقول وتضل بها الأفهام؟!

ثالثا: إن كان المناضل غير مطالب أن يكون معصوما وهذا ما أخالف فيه الصنف الأول وأتفق فيه مع الصنف الثاني إجمالا فأنه أيضا ينبغي أن ندرك أن الذنوب لا تستوي! وليست كلها من اللمم ، فأبسط مثال الإيمان بعلو حكم الأغلبية على حكم الشرع والجهر بذلك والدعوة إليه إلى الآن ليس ذنبا عاديا ، إن إيقاف هذا عن القول والعمل حتى يتعلم  دينه وعقيدته أولى من أن يستمر عشوائيا فيموت على باطل ويضل غيره ويكون سببا في نزول البلاء وزيادة المحنة لا رفعها ، إن فساد الولاء والبراء والكذب وشرعنة المخالفات الشرعية وتقديمها باسم الدين وغير ذلك ليست ذنوبا بسيطة وعادية كالتي لن يسلم منها أي مسلم مهما صلح! ولكن لأنك جعلت النصر غاية لا وسيلة وأهملت اعتبار أثر المعتقد والعمل في الآخرة رحت تأتي بفساد عقيدة المعتصم وغيره كدليل تدفع به العصاة للاستمرار على ما هم فيه وتلجم به أصوات المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر! فليأت النصر وليكن لك مصير المعتصم والعثمانيين وغيرهم في الآخرة ، هل تضمنه؟ هل تعلم أين هم الآن؟ يا حسرة على نصر في الدنيا يجر صاحبه في جهنم يوم القيامة! يا حسرة على العباد يطلبون رضا الله بمعصيته ويتخذون مخالفته جسرا لبناء خلافة من المفترض أن تكون على منهاج النبوة ، هيهات!