الأحد، 5 أغسطس 2012

الجزء الثامن عشر ، أنزلوهم من على المنابر





أحكام سورة النور تعد بمثابة صمام أمان للمجتمع ، درع يحمي الحياة الاجتماعية للمسلمين من كثير من الأخطار ويحلق بها في سماء الرقي والطهر والعفة ، فيها الأمر بغض البصر والحجاب وتيسير الزواج ، فيها حد الزنا ، فيها أحكام الاستئذان ودخول البيوت ، فيها الأمر بالطاعة المطلقة للنبي صلى الله عليه وسلم ، فيها الحديث عن سلوك يراه الناس هينا وهو عند الله عظيم ، سلوك خطير يهدد المجتمع ويعصف به ، تتحدث السورة عن أخطاره وتضع له القواعد والقوانين التي تنتزع سمه وتكفي الناس أذاه ، وجاءت أحكامه مصحوبة بواقعة حقيقية تعطي نموذجا واقعيا يشعرنا بمدى خطورة الأمر وأضراره ، علمتنا سورة النور التعفف والترفع والانتهاء عن قذف المحصنات المؤمنات دون دليل أو حجة ، بل ولا يكفي حتى أن يتوفر الدليل عند شاهد عدل ثقة أو أثنين أو ثلاثة بل أن الشرع قد اشترط أربعة شهداء ، ولم يكتفي الحكم الشرعي برد الشهادة قضائيا وعدم معاقبة المسلمة المقذوفة حال عدم اكتمال الشهداء الأربعة وحسب ، فـ ( العيار اللي ما يصيبش يدوش) لذا سد الإسلام طريق خروج أي طلقة في إتجاه أي مسلم أو مسلمة حتى لو كانت صوت أو "فشنك" ، فأمر بمعاقبة القاذف أو القاذفين ما لم يكملوا الأربعة بالجلد ثمانين جلدة ، وليس هذا فحسب بل عدم قبول شهادتهم أبدا (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)) وهذا هو محور حديثنا اليوم.

على الرغم من أن مسألة الأعراض لازالت تمثل خطا أحمرا عند أغلب المسلمين في زماننا وفي بلادنا إلا أنه وللأسف مع تتابع الأحداث وشدتها خلال الأشهر الماضية ثبت أن الحديث عن صون الأعراض وحفظها من الألسنة هو عند الكثيرين حديث لا يجاوز الحناجر ولا توافق أفعالهم فيه أقوالهم ، فقد فوجئنا بجرأة عجيبة في هذا الأمر واندفاع في إلقاء الاتهامات لا سيما إذا كان المقذوف من تيار منافس ، لا ينتظر القاذف  قضاء ولا نيابة ولا يملك شهودا ولا أدلة ومع ذلك يطلق لسانه بالقذف تصريحا أو تلميحا، فمعيار حرمة القذف وحله مرتبط بالموقف السياسي للمقذوف لا بمدى توافر أدلة إدانته ، لم يقع في هذا المستنقع العوام المندفعون فحسب بل وقع فيه إعلاميون من كل التوجهات يقفون على منابر إعلامية ذات جمهور ضخم يقولون كلمات لا يلقون لها بالا تنتشر كالنار في الهشيم تهتك الأستار وتلصق بالشرفاء العار ، يستدل بتدني التزام الملابس بالقواعد الشرعية ويحتج بما كشفته يدي المعتدي مما لا يصح كشفه ليبرر اتهامه القذر وكأنه لا يدري أنه لو رأى الفاحشة الصريحة بعينيه وعيون أثنين غيره لم يحق للثلاثة الكلام ، ولو تكلموا لوجب عليهم الجلد ولردت شهادتهم أبدا ، ومن الأخيرة ألوم هذه الجماهير الغفيرة التي لا تزال تجلس أمام أمثال هؤلاء تستمع تقييمهم للمواقف وتتبع تحليلهم للأحداث وتصدق كل ما يقولون من أخبار رغم أن أمثال هؤلاء قد سقطوا بالفعل بأفعالهم وأقوالهم المتكررة ولا يقبل منهم خبر ولا رأي ولا شهادة.

وليس الأمر قاصرا على الأعراض وحسب كما يظن البعض ، فالإسلام ينهى عن تصديق أي فاسق دون تبين في أي مسألة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)) {الحجرات} ، وينهى عن الاستشهاد بمن اشتهر عنه الكذب والافتراء ، ولولا هذا المبدأ الذهبي الذي كان أحد أهم المبادئ التي اُستخدمت في تقييم رواة الحديث والحكم على رواياتهم لضاعت سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم ، كيف يصدق المسلم الواعي اليقظ الفاهم لدينه رجالا ونساء اتخذوا الكذب حرفة والـ "فبركة" هواية ، جرب عليهم الكذب مرات ومرات ، وثبت افتراؤهم مرات ومرات ، وافتضحت شائعاتهم مرارا ومع ذلك يعطيهم الأمان وتحقق منابرهم (صحف وقنوات ومواقع ) أكبر نسب توزيع ومشاهدة وزيارة، هؤلاء الذين أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن تصديقهم يعد من علامات الساعة (سيأتي على الناس سنوات خداعات ، يصدق فيها الكاذب ، و يكذب فيها الصادق ، و يؤتمن فيها الخائن ، و يخون الأمين ، و ينطق فيها الرويبضة . قيل : و ما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) صحيح الجامع ، إن هؤلاء الذين لا يكفون عن الخوض في الأعراض دون دليل ، وعن تلطيخ سمعة الناس المالية والخلقية والدينية والسياسية دون حجة أو برهان ، وينشرون أخبارا ليس لها أي أصل ، هؤلاء جميعا يجب أن ينتزعوا من فوق المنابر ويسلبوا حق الشهادة والحكم على الناس وتشكيل وعي الجماهير ، ولكن الذي يجب عليه إنزالهم من فوق المنابر هم الجماهير أنفسهم من الدرجة الأولى لا مجرد قانون هنا أوهناك ، المسلم الواعي الفاهم لدينه يسقط هؤلاء بترك سماعهم والإقلاع عن متابعتهم ،وينزلهم منزلتهم الحقيقية ، منزلتهم الحقيقية بين  الرويبضة والكذابين والقاذفين الذين لا يستحقون أن يسمعوا ولا تقبل لهم شهادة ولا يسمع منهم خبر، فالكذب وتأليف الأخبار ليس حرية تعبير ، وتوزيع التهم دون دليل ليس من حرية الرأي ، وازدراء الأصول وكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليس من حرية الفكر في شيء.

فيما سبق تحدثت عن الجناة الذي يكذبون ويشوهون ويقذفون دون حجة وبرهان ويستحلون ذلك كله بمخالفة المجني عليه لفكرهم ورأيهم ، تحدثت عن المستمع صاحب السذاجة المتعارضة مع الإسلام ومع ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من فهم وفطنة، الساذج الذي يصدق كل ما يقال وينقل كل ما يسمع  حتى لو كان يعلم عن المتحدث اشتهاره بالكذب ، ويعلم أن جل كلامه دون دليل ، واختم بالحديث عن نوع آخر من المستمعين ، ذلك المستمع الذي يعرف أن المتحدث مردود الشهادة متروك الرواية ويعلم أكثر وأكثر أن متن الكلام نفسه باطل ولا دليل عليه بل ويجانب الصواب والمنطق ومع ذلك يختار التصديق متعمدا نظرا لعدواته للمدعى عليه ، يذكرني بمن سمعوا هذا المدعي مسليمة الكذاب وهم يعلمون أنه كذاب من حيث صفاته الشخصية ابتداء ويوقنون أن ما يقوله في هذا الموقف تحديدا كذب ومع ذلك يقولون (كاذب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر) ، فهؤلاء الكذابون لم يصعدوا للمنابر وحدهم ، فالسذاجة وإتباع الهوى هما السلم الذي وصل به هؤلاء الأشرار فوق المنابر ووراء الميكروفونات ، ولا زوال لشرهم ومكرهم إلا بكسر ذلك السلم والالتزام بأوامر ربنا تبارك وتعالى وانزال الناس منازلهم الشرعية ، ومنزلة هؤلاء (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا).


للإطلاع على الأجزاء السابقة

الجزء السابع عشر ، الفرار من الترف


أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
الجزء السابع عشر
الفرار من التــرف
معتز عبد الرحمن
الإنسان بفطرته يحب الترف ، يحب المال الوفير والمسكن الهانئ  والزوجة الحنون والأطفال النابهين ، يحب التجارة الرابحة والمنصب الرفيع والمركَب الفخم ، يسعى لذلك أيما سعي ويتمسك بذلك أيما تمسك ، تقوم لأجل ذلك المشاجرات والنزاعات ويتفرق بسببها أبناء الأب الواحد ، ويتفانى الإنسان ليحافظ على ملكه ونعيمه وترفه ولا يخرج منه أبدا ، ومعرفتي وإدراكي لهذا التمسك هما ما دفعاني للتأمل في آيات من سورة الأنبياء وكم أنها جاءت معبرة وشديدة، يقول الله تعالى (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)) ، ما الذي أخرجك أيها الإنسان من ملكك راكضا؟ وما الذي جعلك تفر من ترفك مهرولا؟ ما الذي أنساك فطرتك وأنساك ما تحب؟ ياله من تعبير يصف حالة الرعب الذي يطيش بالعقول ، والندم الذي يملأ الصدور ، والشعور بالخسران الذي يمزق القلوب ، يبين هول الموقف وشدته وخطورته ، فهذه الأم المرضع التي فطرت على حب رضيعها لا تعرفه ، وهذه الحامل التي تعاني من الوضع ساعات وأحيانا أيام تضعه اليوم من الفزع (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)) {الحج}.

الإسلام دين الفطرة ، لذا فهو يقر محبة الإنسان للنعيم والراحة والترف ولكنه يضع لها ضوابط ، طبعا بعد أن تكون حلالا في ذاتها ومن مصادر رزق حلال ، أخبر الإسلام الإنسان أنه تارك لهذا النعيم قطعا وسيفر منه حتما في يوم من الأيام (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)){الأنبياء} ، ولكن الفرق بين المسلم المؤمن الحقيقي وغيره أن الأول مستعد تماما للخروج منه مختارا بإرادته ، أما غيره فهو إما يخرج منه قهرا بزوال الغنى وحدوث الفقر ، أو منه إلى القبر ، أو منه إلى الهلكة كما ورد عاليا في سورة الأنبياء ، يقول تعالى في سورة التوبة (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)).
 أحب الأهل والمال والتجارة والسكن كما شئت ولكن ليس أكثر من حب الله ورسوله والجهاد في سبيله ، تنعم فيها بجسدك كما تحب ، ولكن ليكن قلبك مستعدا دوما للخروج وللفرار منها في سبيل الله إذا ما جاء وقت التضحية والبذل ، فإذا ما غلب حبها على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله ، لن يمنعك ذلك من الله شيئا وستخرج منها حتما ولكن مذموما مدحورا ، فاختر لك لنفسك طريقة الخروج واختر لنفسك إتجاه الفرار من الترف ، هل تفر منه إلى النعيم المقيم والسعادة التي لا تنقطع؟ أم تفر منه إلى العذاب المقيم والعياذ بالله ؟ هل تفر منه لأنه شقاء إذا ما قورن بما ينتظرك من رحمات الله وفضله ؟ أم تفر منه بعدما أيقنت بهلاكك وزوالك؟ هل تجاهد نفسك وتفر من قيود التعلق بالزوج والولد والأهل كي ترضي ربك؟ أم تفر منهم قسرا وقهرا يوم القيامة (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35)  وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)) {عبس}

إن هذا الدرس الذي نتعلمه من الآيات السابقة هو محور الحياة ومحور الدين والفرق المبين بين المؤمن الصالح وبين الغافل الضائع ، وإن لم تخرج من رمضان بسواه فكفى ، فقد تدربت على ترك المباح من الطعام والشراب والزواج لله أثناء الصيام ، وتدربت على ترك النوم لله في القيام والتهجد ، وتدربت على بذل المال لله في الصدقات وستتدرب على بذله قبل العيد في زكاة الفطر ، و لله درك إذا تدربت في العشر الأواخر على ترك المساكن الطيبة والفراش الوثير ووسائل الترف وخرجت من دارك لوجه الله معتكفا في بيته نائما على الأرض في خباء صغير وسط إخوانك ممن فروا من ترف الدنيا ابتغاء لترف الآخرة ونعيمها ، تدرب واخرج الدنيا من قلبك وإن غرق فيها جسدك وحواسك ، دعها بإرادتك قبل أن تدعها قهرا.
للإطلاع على الأجزاء السابقة

الجمعة، 3 أغسطس 2012

السادس عشر، تصحيح مفهوم عند الحاكم والمحكوم



صفة بشرية تتسبب في الكثير من البلايا وتؤدي إلى فشل المجتمعات والأمم ، هي في رأيي مؤشر للتخلف والتراجع وتكفي للحكم المبدئي على أي دولة وتصنيفها حضاريا.

 (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)){الكهف} ، ينظر الكثير من الناس إلى منصب الحاكم على أنه منصب الـ"سوبر مان" ، يعلقون كل مشاكلهم عليه ، ويلتمسون كل مطالبهم منه ، هو صاحب العصا السحرية ووحده يتحمل المسئولية ، الكسل الشعبي صفة متوفرة وللأسف في شعوبنا وسبب في تخلفنا وهي منحدرة عبر التاريخ سبقنا بها قوم عانوا كثيرا من يأجوج ومأجوج وطغيانهم وإفسادهم في الأرض ، وفي ظل اشتداد كربهم وهمهم وغمهم جاءهم ذو القرنين فرأوا فيه المنقذ – وهو كذلك – فعلى الفور طلبوا منه العون والنجدة ، والملفت أنهم كان يعرفون الحل جيدا (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) ولكنهم لم يقوموا بتنفيذه بأنفسهم ، وحتى لما جاءهم ذو القرنين أرادوا أن يدفعوا له مالا ليبني هو السد وحده دون عمل منهم ، وهذا شأن الكثيرين ممن يظنون أن غاية واجبهم تجاه أمتهم وأوطانهم أن يشاهدوا حوارات المرشحين في الفضائيات ثم يذهبون للوقوف عدة ساعات في طوابير الانتخاب ، وبذلك يكونوا قد أدوا الخرج بزعمهم ، وعلى الفائز أن يبني وحده بينهم وبين الهموم سدا ويجعل بينهم وبين المشاكل ردما ، على الفائز أن يوصل الرخاء إلى المنازل ، وأن يوزع التطور والتقدم في الشوارع ، وأن يكون عادلا دون نصيحة من شعبه ، وأن يظل شريفا دون رقابة من قومه ، وأن يكون ابن الخطاب دون أن يجد حوله عثمان وعلي ، وألا يكون فرعونا رغم أن كل من حوله من عينة الملأ وهامان.
فإذا اتصف الشعب بهذه الصفة التواكلية السيئة يكون الحاكم في المقابل أحد ثلاثة رجال:

الأول: رجل وجد ملايين البشر ألقت عليه المسئولية وحده ، ويرون فيه أنه هو الحل والمنقذ وحده ، فيجاريهم على ما يريدون ويحقق من ذلك ما يريد ، يسحر أعينهم بالإنجازات وصفات القوة ولو كانت وهمية في مقابل امتلاك رقابهم وسحق إرادتهم ، (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52)) {الزخرف} ، يسلم الشعب الكسول ضعيف الهمة أمره إليه ، حتى لا يتحمل مجهود المساعدة في الخير وتضحيات المعارضة عند الشر ويقنع نفسه بإنجازات الطعام والشراب ولو جاءت على حساب الكرامة والحرية والشعور بالاحترام فتجده يقبل ببساطة أن يقال له (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ) {غافر-29} وهي إهانة لكل ذي كرامة والهمة العالية، مقبولة إن لم تكن محمودة عند كل ذي همة ساقطة.

الثاني: هو ذلك الحاكم الفاهم العادل ، فاهم يفهم أنه لا يستطيع أن يبني وحده مجدا حقيقيا خالدا دون شعبه ، وعادل لا يبتغي استعباد هؤلاء الكسالى ضعيفي الهمة كما فعل الأول ، فتجده كذي القرنين ، يأخذ بيد رعيته ويصنع منهم أمة مجيدة ، يشركهم في العمل ويبلغهم ويعلمهم - بالفعل لا بالخطب الرنانة - أنه لا غنى له عنهم ، يصرخ فيهم موقظا الهمم (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) ، يصنع شراكة حقيقية بين السلطة وبين الإرادة الشعبية وتأمل في آية البناء (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) ، خطوة عليه وخطوة عليهم ، خطوة عليه وخطوة عليهم حتى تم الإنجاز الكبير (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) ، وبالقلب المؤمن النقي لم ينسب لنفسه المجد فخرا كالفرعون ولم ينافق شعبه (باسمكم وبكم وإليكم) ولم يتغافل عن ذكر ربه ورد الفضل إليه (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).

الثالث: هو ذلك المسكين الذي يريد أن يقف بين بين ، ليس في طغيان فرعون وجبروته وطموحاته الذاتية ، وليس في شجاعة وعمق وفكر ذي القرنين ، يقبل أن يكون وحده هو المسئول فلا يستعين بشعبه كي يحقق رغباتهم التكاسلية آملا في نيل رضاهم ، ولكنه في ذات الوقت ليس قادرا على مواجهة المسئولية وحده ، فتجده متخبطا ، يقول بلسانه أعينوني ، ولا يطبقها على الأرض ، لا يستعين بشعبه من بعد الله في مواجهة التحديات العظام والأمور الجسام ، ويستعين بهم فما لا يفيد وفيما يزيدهم منه نفورا ،  وأمثال هذا لا ذاتا يحقق ولا شعبا يربي ولا مجدا يبني ، لا ينتصر على التحديات ولا يفوز بقلب الكسول ، لا ينال إعجاب أولي العزم ، ولا ينال رضا ساقطي الهمم ، وهذا أسرع سقوطا حتى من الصنف الأول ، وقد لا يجد التاريخ شيئا يذكر ليدونه عنه ، فهو يذكرني بشكل غير مباشر بمن وقفوا على الحياد في قصة أصحاب السبت فلم يستحقوا حتى الذكر ولم نعلم إلى الآن ماذا فُعل بهم.

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما.
للإطلاع على الأجزاء السابقة

السادس عشر، تصحيح مفهوم عند الحاكم والمحكوم


أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ

الجزء السادس عشر

تصحيح مفهوم عند الحاكم والمحكوم
معتز عبد الرحمن

صفة بشرية تتسبب في الكثير من البلايا وتؤدي إلى فشل المجتمعات والأمم ، هي في رأيي مؤشر للتخلف والتراجع وتكفي للحكم المبدئي على أي دولة وتصنيفها حضاريا.

(قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَ
يْنَهُمْ سَدًّا (94)){الكهف} ، ينظر الكثير من الناس إلى منصب الحاكم على أنه منصب الـ"سوبر مان" ، يعلقون كل مشاكلهم عليه ، ويلتمسون كل مطالبهم منه ، هو صاحب العصا السحرية ووحده يتحمل المسئولية ، الكسل الشعبي صفة متوفرة وللأسف في شعوبنا وسبب في تخلفنا وهي منحدرة عبر التاريخ سبقنا بها قوم عانوا كثيرا من يأجوج ومأجوج وطغيانهم وإفسادهم في الأرض ، وفي ظل اشتداد كربهم وهمهم وغمهم جاءهم ذو القرنين فرأوا فيه المنقذ – وهو كذلك – فعلى الفور طلبوا منه العون والنجدة ، والملفت أنهم كان يعرفون الحل جيدا (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) ولكنهم لم يقوموا بتنفيذه بأنفسهم ، وحتى لما جاءهم ذو القرنين أرادوا أن يدفعوا له مالا ليبني هو السد وحده دون عمل منهم ، وهذا شأن الكثيرين ممن يظنون أن غاية واجبهم تجاه أمتهم وأوطانهم أن يشاهدوا حوارات المرشحين في الفضائيات ثم يذهبون للوقوف عدة ساعات في طوابير الانتخاب ، وبذلك يكونوا قد أدوا الخرج بزعمهم ، وعلى الفائز أن يبني وحده بينهم وبين الهموم سدا ويجعل بينهم وبين المشاكل ردما ، على الفائز أن يوصل الرخاء إلى المنازل ، وأن يوزع التطور والتقدم في الشوارع ، وأن يكون عادلا دون نصيحة من شعبه ، وأن يظل شريفا دون رقابة من قومه ، وأن يكون ابن الخطاب دون أن يجد حوله عثمان وعلي ، وألا يكون فرعونا رغم أن كل من حوله من عينة الملأ وهامان.

فإذا اتصف الشعب بهذه الصفة التواكلية السيئة يكون الحاكم في المقابل أحد ثلاثة رجال:

الأول: رجل وجد ملايين البشر ألقت عليه المسئولية وحده ، ويرون فيه أنه هو الحل والمنقذ وحده ، فيجاريهم على ما يريدون ويحقق من ذلك ما يريد ، يسحر أعينهم بالإنجازات وصفات القوة ولو كانت وهمية في مقابل امتلاك رقابهم وسحق إرادتهم ، (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52)) {الزخرف} ، يسلم الشعب الكسول ضعيف الهمة أمره إليه ، حتى لا يتحمل مجهود المساعدة في الخير وتضحيات المعارضة عند الشر ويقنع نفسه بإنجازات الطعام والشراب ولو جاءت على حساب الكرامة والحرية والشعور بالاحترام فتجده يقبل ببساطة أن يقال له (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ) {غافر-29} وهي إهانة لكل ذي كرامة والهمة العالية، مقبولة إن لم تكن محمودة عند كل ذي همة ساقطة.

الثاني: هو ذلك الحاكم الفاهم العادل ، فاهم يفهم أنه لا يستطيع أن يبني وحده مجدا حقيقيا خالدا دون شعبه ، وعادل لا يبتغي استعباد هؤلاء الكسالى ضعيفي الهمة كما فعل الأول ، فتجده كذي القرنين ، يأخذ بيد رعيته ويصنع منهم أمة مجيدة ، يشركهم في العمل ويبلغهم ويعلمهم - بالفعل لا بالخطب الرنانة - أنه لا غنى له عنهم ، يصرخ فيهم موقظا الهمم (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) ، يصنع شراكة حقيقية بين السلطة وبين الإرادة الشعبية وتأمل في آية البناء (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) ، خطوة عليه وخطوة عليهم ، خطوة عليه وخطوة عليهم حتى تم الإنجاز الكبير (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) ، وبالقلب المؤمن النقي لم ينسب لنفسه المجد فخرا كالفرعون ولم ينافق شعبه (باسمكم وبكم وإليكم) ولم يتغافل عن ذكر ربه ورد الفضل إليه (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).

الثالث: هو ذلك المسكين الذي يريد أن يقف بين بين ، ليس في طغيان فرعون وجبروته وطموحاته الذاتية ، وليس في شجاعة وعمق وفكر ذي القرنين ، يقبل أن يكون وحده هو المسئول فلا يستعين بشعبه كي يحقق رغباتهم التكاسلية آملا في نيل رضاهم ، ولكنه في ذات الوقت ليس قادرا على مواجهة المسئولية وحده ، فتجده متخبطا ، يقول بلسانه أعينوني ، ولا يطبقها على الأرض ، لا يستعين بشعبه من بعد الله في مواجهة التحديات العظام والأمور الجسام ، ويستعين بهم فما لا يفيد وفيما يزيدهم منه نفورا ، وأمثال هذا لا ذاتا يحقق ولا شعبا يربي ولا مجدا يبني ، لا ينتصر على التحديات ولا يفوز بقلب الكسول ، لا ينال إعجاب أولي العزم ، ولا ينال رضا ساقطي الهمم ، وهذا أسرع سقوطا حتى من الصنف الأول ، وقد لا يجد التاريخ شيئا يذكر ليدونه عنه ، فهو يذكرني بشكل غير مباشر بمن وقفوا على الحياد في قصة أصحاب السبت فلم يستحقوا حتى الذكر ولم نعلم إلى الآن ماذا فُعل بهم.

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما.
للإطلاع على الأجزاء السابقة

http://just-khawater.blogspot.com/search/label/%D8%A3%D9%81%D9%84%D8%A7%20%D9%8A%D8%AA%D8%AF%D8%A8%D8%B1%D9%88%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86

الأربعاء، 1 أغسطس 2012

الجزء الرابع عشر ،ترمومتر النعـم



إبحار في محيطات النعم ، وتحليق في سماء الشكر ، أقل ما أصف به مشاعر من يقرأ سورة النحل والتي تسمى  فعليا على حد علمي (سورة النعم) ، في الآية الثانية يأتي ذكر النعمة الكبرى التي لا تقارن بها نعمة أخرى (يُنَزِّلُ الۡمَلَـٰٓئِكَةَ بِالۡرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِ أَنۡ أَنذِرُوا۟ أَنَّهُ لاَ إِلَٰهَ إِلاَّ أَنَا۟ فَاتَّقُونِ) فنعمة الدين وإرسال الرسل والإنقاذ من النار هي النعمة الكبرى والمنة العظيمة (الۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسۡلاَمَ دِينًا) {المائدة} ، ثم يبدأ سرد النعم المختلفة التي يرفل فيها الإنسان دون أن يشعر بها وبقيمتها ، نعم في طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه ، في البرد والحر ، في القتال ، في الحياة الاجتماعية والأحفاد والذرية ، نعم لو أردت تتبعها والتأمل فيها قضيت زمنا طويلا وبذلت جهدا كبيرا ، ثم تخاطبك الآية الثامنة عشر من السورة (وَإِن تَعُدُّوا۟ نِعۡمَةَ اللّهِ لاَ تُحۡصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ، وبعد طول إبحار في بحار النعم تصل إلى الشاطئ الذي هو غاية كل ذلك ، شاطئ الشكر ، فتذكر السورة في خواتيمها نموذجين ، نموذج لرجل آمن وشكر فصار كأمة كاملة ، ونموذج لأمة تركت الشكر والطاعة فذهبت أدراج الرياح ، أما الرجل الأمة فهو إبراهيم عليه السلام والذي قال الله فيه (إِنَّ إِبۡرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمۡ يَكُ مِنَ الۡمُشۡرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنۡعُمِهِ اجۡتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسۡتَقِيمٍ (121)) ، وأما الأمة الجاحدة فإليك أخبارها.

يقول تبارك وتعالى (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرۡيَةً كَانَتۡ آمِنَةً مُّطۡمَئِنَّةً يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الۡجُوعِ وَالۡخَوۡفِ بِمَا كَانُوا۟ يَصۡنَعُونَ (112) وَلَقَدۡ جَآءهُمۡ رَسُولٌ مِّنۡهُمۡ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الۡعَذَابُ وَهُمۡ ظَالِمُونَ (113)) ، إن ترك الشكر وترك الطاعة وكثرة الذنوب والمعاصي تبدل الأمن إلى خوف والشبع إلى جوع والنعم إلى نقم ، وهذا التغير والتبدل إنما هو نعمة جديدة في حد ذاته ، فالله تبارك وتعالى يحذر عباده وينبههم من غفلتهم لئلا يكون لهم حجة يوم القيامة ، فاستمرار النعم كما هي مع وجود المعصية وضعف الشكر تجعل الإنسان الغافل يتمادى ولا ينتبه لسوء ما يفعل ، لذا كانت هذه سنة الله في خلقه ورحمة منه لمن كان له قلب (وَلَقَدۡ أَرۡسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبۡلِكَ فَأَخَذۡنَاهُمۡ بِالۡبَأۡسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَتَضَرَّعُونَ (42)) {الأنعام} ، (وَمَا أَرۡسَلۡنَا فِى قَرۡيَةٍ مِّن نَّبِىٍّ إِلاَّ أَخَذۡنَا أَهۡلَهَا بِالۡبَأۡسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَضَّرَّعُونَ (94)) {الأعراف} ، فإذا ما جاء الابتلاء بعد النعمة ، والشدة بعد الرغد فالناس على حالين:

1-    إما ينتبهون ويستيقظون ويعودون إلى ربهم فتعود النعمة إليهم أكثر مما كانت وأجل فضلا من ربهم وإكراما لهم لطاعتهم (وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ الۡقُرَى آمَنُوا۟ وَاتَّقَوا۟ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرۡضِ وَلَكِن كَذَّبُوا۟ فَأَخَذۡنَاهُم بِمَا كَانُوا۟ يَكۡسِبُونَ (96)) {الأعراف}.
2-    وإما يستمرون في غيهم ومعصيتهم وحينها قد تحدث المفاجأة وهي زيادة النعم مرة أخرى رغم عدم استجابتهم ، وهذا نوع من الاستدراج ومن غضب الله عليهم من حيث لا يشعرون (فَلَمَّا نَسُوا۟ مَا ذُكِّرُوا۟ بِهِ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَابَ كُلِّ شَىۡءٍ حَتَّىٓ إِذَا فَرِحُوا۟ بِمَا أُوتُوا۟ أَخَذۡنَاهُم بَغۡتَةً فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الۡقَوۡمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا۟ وَالۡحَمۡدُ لِلّهِ رَبِّ الۡعَالَمِينَ(45)) {الأنعام} ، (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا۟ فِى الۡبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأۡوَاهُمۡ جَهَنَّمُ وَبِئۡسَ الۡمِهَادُ (197)) {آل عمران}.

ومن هنا ومما ذكرنا في خاطرة (السير على أشواك النعيم) أيضا نستنتج أن المبتلى أيضا أحد رجلين:
1-    إما طائع مؤمن يمتحنه الله تبارك وتعالى في إيمانه وثباته ويرفع درجاته في الجنة وينقيه من خطاياه.
2-    وإما عاص جاحد لنعم الله يبتلى كي يتذكر ويفيق ويتضرع ويعود إلى ربه كما تبين عاليا.

ومن ذلك كله يفهم المسلم الجاد في تقييم نفسه، الباحث بصدق عن رضا ربه أن توافر النعم ليس بالضرورة علامة رضا وليس بالضرورة علامة غضب ، وأن الابتلاء لا يعني بالضرورة أنه على الطريق القويم ولا يعني بالضرورة أنه جاحد عاص ، فالمقياس ليس مطلقا ، بل ينبغي أن يضم المسلم إلى هذا المعيار بندا آخر لا يعلمه أحد غيره إلا الله ، وهو حاله الإيماني مع الله ومدى التزامه بطاعته، يجب بجانب ملاحظة تزايد النعمة أو الابتلاء أن يعرض أعماله وأفكاره وقلبه على الشريعة وأحكامها وينظر أين هو منها:

1-     فإن كان في نعمة وفضل وهو يعلم عن نفسه التقصير والمعصية فليفزع ويقلق وينهض سريعا ليصحح أحواله لأن هذا قد يكون استدراج وباب هلكة.
2-     وإن كان في نعمة مع التزام منه بالطاعة والخير فليحفظ النعمة بالشكر وزيادة الطاعة وعدم استخدام نعمة الله في معصيته.
3-     وإن كان في ابتلاء وهو يعلم من نفسه المعصية فلعله انذار وتنبيه ، وعلامة أن الله يريد به الخير ، فليتخذ البلاء والتضرع جسرا للتوبة والعودة إلى الله واستمطار رحماته ولا يشغله البلاء عن التماس رضا من ابتلاه ليسمع دعائه وتضرعه ويهديه إلى صراط مستقيم.
4-     وإن كان في ابتلاء مع التزام منه بالطاعة والخير والسير في طريق الحق فإنها أشواك النعيم هنيئا له بها وعليه بالصبر والدعاء والتضرع وبـ(حسبنا الله ونعم الوكيل) و (إنا لله إنا إليه راجعون) فتكون عاقبة صبره بإذن الله نصرا في الدنيا ونعيما يوم القيامة.

اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ، اللهم ارزقنا توبة نصوحا ولا تحرمنا فضلك.
للإطلاع على الأجزاء السابقة