الأربعاء، 1 أغسطس 2012

الجزء الرابع عشر ،ترمومتر النعـم



إبحار في محيطات النعم ، وتحليق في سماء الشكر ، أقل ما أصف به مشاعر من يقرأ سورة النحل والتي تسمى  فعليا على حد علمي (سورة النعم) ، في الآية الثانية يأتي ذكر النعمة الكبرى التي لا تقارن بها نعمة أخرى (يُنَزِّلُ الۡمَلَـٰٓئِكَةَ بِالۡرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِ أَنۡ أَنذِرُوا۟ أَنَّهُ لاَ إِلَٰهَ إِلاَّ أَنَا۟ فَاتَّقُونِ) فنعمة الدين وإرسال الرسل والإنقاذ من النار هي النعمة الكبرى والمنة العظيمة (الۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسۡلاَمَ دِينًا) {المائدة} ، ثم يبدأ سرد النعم المختلفة التي يرفل فيها الإنسان دون أن يشعر بها وبقيمتها ، نعم في طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه ، في البرد والحر ، في القتال ، في الحياة الاجتماعية والأحفاد والذرية ، نعم لو أردت تتبعها والتأمل فيها قضيت زمنا طويلا وبذلت جهدا كبيرا ، ثم تخاطبك الآية الثامنة عشر من السورة (وَإِن تَعُدُّوا۟ نِعۡمَةَ اللّهِ لاَ تُحۡصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ، وبعد طول إبحار في بحار النعم تصل إلى الشاطئ الذي هو غاية كل ذلك ، شاطئ الشكر ، فتذكر السورة في خواتيمها نموذجين ، نموذج لرجل آمن وشكر فصار كأمة كاملة ، ونموذج لأمة تركت الشكر والطاعة فذهبت أدراج الرياح ، أما الرجل الأمة فهو إبراهيم عليه السلام والذي قال الله فيه (إِنَّ إِبۡرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمۡ يَكُ مِنَ الۡمُشۡرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنۡعُمِهِ اجۡتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسۡتَقِيمٍ (121)) ، وأما الأمة الجاحدة فإليك أخبارها.

يقول تبارك وتعالى (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرۡيَةً كَانَتۡ آمِنَةً مُّطۡمَئِنَّةً يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الۡجُوعِ وَالۡخَوۡفِ بِمَا كَانُوا۟ يَصۡنَعُونَ (112) وَلَقَدۡ جَآءهُمۡ رَسُولٌ مِّنۡهُمۡ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الۡعَذَابُ وَهُمۡ ظَالِمُونَ (113)) ، إن ترك الشكر وترك الطاعة وكثرة الذنوب والمعاصي تبدل الأمن إلى خوف والشبع إلى جوع والنعم إلى نقم ، وهذا التغير والتبدل إنما هو نعمة جديدة في حد ذاته ، فالله تبارك وتعالى يحذر عباده وينبههم من غفلتهم لئلا يكون لهم حجة يوم القيامة ، فاستمرار النعم كما هي مع وجود المعصية وضعف الشكر تجعل الإنسان الغافل يتمادى ولا ينتبه لسوء ما يفعل ، لذا كانت هذه سنة الله في خلقه ورحمة منه لمن كان له قلب (وَلَقَدۡ أَرۡسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبۡلِكَ فَأَخَذۡنَاهُمۡ بِالۡبَأۡسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَتَضَرَّعُونَ (42)) {الأنعام} ، (وَمَا أَرۡسَلۡنَا فِى قَرۡيَةٍ مِّن نَّبِىٍّ إِلاَّ أَخَذۡنَا أَهۡلَهَا بِالۡبَأۡسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَضَّرَّعُونَ (94)) {الأعراف} ، فإذا ما جاء الابتلاء بعد النعمة ، والشدة بعد الرغد فالناس على حالين:

1-    إما ينتبهون ويستيقظون ويعودون إلى ربهم فتعود النعمة إليهم أكثر مما كانت وأجل فضلا من ربهم وإكراما لهم لطاعتهم (وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ الۡقُرَى آمَنُوا۟ وَاتَّقَوا۟ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرۡضِ وَلَكِن كَذَّبُوا۟ فَأَخَذۡنَاهُم بِمَا كَانُوا۟ يَكۡسِبُونَ (96)) {الأعراف}.
2-    وإما يستمرون في غيهم ومعصيتهم وحينها قد تحدث المفاجأة وهي زيادة النعم مرة أخرى رغم عدم استجابتهم ، وهذا نوع من الاستدراج ومن غضب الله عليهم من حيث لا يشعرون (فَلَمَّا نَسُوا۟ مَا ذُكِّرُوا۟ بِهِ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَابَ كُلِّ شَىۡءٍ حَتَّىٓ إِذَا فَرِحُوا۟ بِمَا أُوتُوا۟ أَخَذۡنَاهُم بَغۡتَةً فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الۡقَوۡمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا۟ وَالۡحَمۡدُ لِلّهِ رَبِّ الۡعَالَمِينَ(45)) {الأنعام} ، (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا۟ فِى الۡبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأۡوَاهُمۡ جَهَنَّمُ وَبِئۡسَ الۡمِهَادُ (197)) {آل عمران}.

ومن هنا ومما ذكرنا في خاطرة (السير على أشواك النعيم) أيضا نستنتج أن المبتلى أيضا أحد رجلين:
1-    إما طائع مؤمن يمتحنه الله تبارك وتعالى في إيمانه وثباته ويرفع درجاته في الجنة وينقيه من خطاياه.
2-    وإما عاص جاحد لنعم الله يبتلى كي يتذكر ويفيق ويتضرع ويعود إلى ربه كما تبين عاليا.

ومن ذلك كله يفهم المسلم الجاد في تقييم نفسه، الباحث بصدق عن رضا ربه أن توافر النعم ليس بالضرورة علامة رضا وليس بالضرورة علامة غضب ، وأن الابتلاء لا يعني بالضرورة أنه على الطريق القويم ولا يعني بالضرورة أنه جاحد عاص ، فالمقياس ليس مطلقا ، بل ينبغي أن يضم المسلم إلى هذا المعيار بندا آخر لا يعلمه أحد غيره إلا الله ، وهو حاله الإيماني مع الله ومدى التزامه بطاعته، يجب بجانب ملاحظة تزايد النعمة أو الابتلاء أن يعرض أعماله وأفكاره وقلبه على الشريعة وأحكامها وينظر أين هو منها:

1-     فإن كان في نعمة وفضل وهو يعلم عن نفسه التقصير والمعصية فليفزع ويقلق وينهض سريعا ليصحح أحواله لأن هذا قد يكون استدراج وباب هلكة.
2-     وإن كان في نعمة مع التزام منه بالطاعة والخير فليحفظ النعمة بالشكر وزيادة الطاعة وعدم استخدام نعمة الله في معصيته.
3-     وإن كان في ابتلاء وهو يعلم من نفسه المعصية فلعله انذار وتنبيه ، وعلامة أن الله يريد به الخير ، فليتخذ البلاء والتضرع جسرا للتوبة والعودة إلى الله واستمطار رحماته ولا يشغله البلاء عن التماس رضا من ابتلاه ليسمع دعائه وتضرعه ويهديه إلى صراط مستقيم.
4-     وإن كان في ابتلاء مع التزام منه بالطاعة والخير والسير في طريق الحق فإنها أشواك النعيم هنيئا له بها وعليه بالصبر والدعاء والتضرع وبـ(حسبنا الله ونعم الوكيل) و (إنا لله إنا إليه راجعون) فتكون عاقبة صبره بإذن الله نصرا في الدنيا ونعيما يوم القيامة.

اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ، اللهم ارزقنا توبة نصوحا ولا تحرمنا فضلك.
للإطلاع على الأجزاء السابقة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق