الأحد، 5 أغسطس 2012

الجزء السابع عشر ، الفرار من الترف


أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
الجزء السابع عشر
الفرار من التــرف
معتز عبد الرحمن
الإنسان بفطرته يحب الترف ، يحب المال الوفير والمسكن الهانئ  والزوجة الحنون والأطفال النابهين ، يحب التجارة الرابحة والمنصب الرفيع والمركَب الفخم ، يسعى لذلك أيما سعي ويتمسك بذلك أيما تمسك ، تقوم لأجل ذلك المشاجرات والنزاعات ويتفرق بسببها أبناء الأب الواحد ، ويتفانى الإنسان ليحافظ على ملكه ونعيمه وترفه ولا يخرج منه أبدا ، ومعرفتي وإدراكي لهذا التمسك هما ما دفعاني للتأمل في آيات من سورة الأنبياء وكم أنها جاءت معبرة وشديدة، يقول الله تعالى (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)) ، ما الذي أخرجك أيها الإنسان من ملكك راكضا؟ وما الذي جعلك تفر من ترفك مهرولا؟ ما الذي أنساك فطرتك وأنساك ما تحب؟ ياله من تعبير يصف حالة الرعب الذي يطيش بالعقول ، والندم الذي يملأ الصدور ، والشعور بالخسران الذي يمزق القلوب ، يبين هول الموقف وشدته وخطورته ، فهذه الأم المرضع التي فطرت على حب رضيعها لا تعرفه ، وهذه الحامل التي تعاني من الوضع ساعات وأحيانا أيام تضعه اليوم من الفزع (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)) {الحج}.

الإسلام دين الفطرة ، لذا فهو يقر محبة الإنسان للنعيم والراحة والترف ولكنه يضع لها ضوابط ، طبعا بعد أن تكون حلالا في ذاتها ومن مصادر رزق حلال ، أخبر الإسلام الإنسان أنه تارك لهذا النعيم قطعا وسيفر منه حتما في يوم من الأيام (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)){الأنبياء} ، ولكن الفرق بين المسلم المؤمن الحقيقي وغيره أن الأول مستعد تماما للخروج منه مختارا بإرادته ، أما غيره فهو إما يخرج منه قهرا بزوال الغنى وحدوث الفقر ، أو منه إلى القبر ، أو منه إلى الهلكة كما ورد عاليا في سورة الأنبياء ، يقول تعالى في سورة التوبة (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)).
 أحب الأهل والمال والتجارة والسكن كما شئت ولكن ليس أكثر من حب الله ورسوله والجهاد في سبيله ، تنعم فيها بجسدك كما تحب ، ولكن ليكن قلبك مستعدا دوما للخروج وللفرار منها في سبيل الله إذا ما جاء وقت التضحية والبذل ، فإذا ما غلب حبها على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله ، لن يمنعك ذلك من الله شيئا وستخرج منها حتما ولكن مذموما مدحورا ، فاختر لك لنفسك طريقة الخروج واختر لنفسك إتجاه الفرار من الترف ، هل تفر منه إلى النعيم المقيم والسعادة التي لا تنقطع؟ أم تفر منه إلى العذاب المقيم والعياذ بالله ؟ هل تفر منه لأنه شقاء إذا ما قورن بما ينتظرك من رحمات الله وفضله ؟ أم تفر منه بعدما أيقنت بهلاكك وزوالك؟ هل تجاهد نفسك وتفر من قيود التعلق بالزوج والولد والأهل كي ترضي ربك؟ أم تفر منهم قسرا وقهرا يوم القيامة (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35)  وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)) {عبس}

إن هذا الدرس الذي نتعلمه من الآيات السابقة هو محور الحياة ومحور الدين والفرق المبين بين المؤمن الصالح وبين الغافل الضائع ، وإن لم تخرج من رمضان بسواه فكفى ، فقد تدربت على ترك المباح من الطعام والشراب والزواج لله أثناء الصيام ، وتدربت على ترك النوم لله في القيام والتهجد ، وتدربت على بذل المال لله في الصدقات وستتدرب على بذله قبل العيد في زكاة الفطر ، و لله درك إذا تدربت في العشر الأواخر على ترك المساكن الطيبة والفراش الوثير ووسائل الترف وخرجت من دارك لوجه الله معتكفا في بيته نائما على الأرض في خباء صغير وسط إخوانك ممن فروا من ترف الدنيا ابتغاء لترف الآخرة ونعيمها ، تدرب واخرج الدنيا من قلبك وإن غرق فيها جسدك وحواسك ، دعها بإرادتك قبل أن تدعها قهرا.
للإطلاع على الأجزاء السابقة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق