الأحد، 5 أغسطس 2012

الجزء الثامن عشر ، أنزلوهم من على المنابر





أحكام سورة النور تعد بمثابة صمام أمان للمجتمع ، درع يحمي الحياة الاجتماعية للمسلمين من كثير من الأخطار ويحلق بها في سماء الرقي والطهر والعفة ، فيها الأمر بغض البصر والحجاب وتيسير الزواج ، فيها حد الزنا ، فيها أحكام الاستئذان ودخول البيوت ، فيها الأمر بالطاعة المطلقة للنبي صلى الله عليه وسلم ، فيها الحديث عن سلوك يراه الناس هينا وهو عند الله عظيم ، سلوك خطير يهدد المجتمع ويعصف به ، تتحدث السورة عن أخطاره وتضع له القواعد والقوانين التي تنتزع سمه وتكفي الناس أذاه ، وجاءت أحكامه مصحوبة بواقعة حقيقية تعطي نموذجا واقعيا يشعرنا بمدى خطورة الأمر وأضراره ، علمتنا سورة النور التعفف والترفع والانتهاء عن قذف المحصنات المؤمنات دون دليل أو حجة ، بل ولا يكفي حتى أن يتوفر الدليل عند شاهد عدل ثقة أو أثنين أو ثلاثة بل أن الشرع قد اشترط أربعة شهداء ، ولم يكتفي الحكم الشرعي برد الشهادة قضائيا وعدم معاقبة المسلمة المقذوفة حال عدم اكتمال الشهداء الأربعة وحسب ، فـ ( العيار اللي ما يصيبش يدوش) لذا سد الإسلام طريق خروج أي طلقة في إتجاه أي مسلم أو مسلمة حتى لو كانت صوت أو "فشنك" ، فأمر بمعاقبة القاذف أو القاذفين ما لم يكملوا الأربعة بالجلد ثمانين جلدة ، وليس هذا فحسب بل عدم قبول شهادتهم أبدا (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)) وهذا هو محور حديثنا اليوم.

على الرغم من أن مسألة الأعراض لازالت تمثل خطا أحمرا عند أغلب المسلمين في زماننا وفي بلادنا إلا أنه وللأسف مع تتابع الأحداث وشدتها خلال الأشهر الماضية ثبت أن الحديث عن صون الأعراض وحفظها من الألسنة هو عند الكثيرين حديث لا يجاوز الحناجر ولا توافق أفعالهم فيه أقوالهم ، فقد فوجئنا بجرأة عجيبة في هذا الأمر واندفاع في إلقاء الاتهامات لا سيما إذا كان المقذوف من تيار منافس ، لا ينتظر القاذف  قضاء ولا نيابة ولا يملك شهودا ولا أدلة ومع ذلك يطلق لسانه بالقذف تصريحا أو تلميحا، فمعيار حرمة القذف وحله مرتبط بالموقف السياسي للمقذوف لا بمدى توافر أدلة إدانته ، لم يقع في هذا المستنقع العوام المندفعون فحسب بل وقع فيه إعلاميون من كل التوجهات يقفون على منابر إعلامية ذات جمهور ضخم يقولون كلمات لا يلقون لها بالا تنتشر كالنار في الهشيم تهتك الأستار وتلصق بالشرفاء العار ، يستدل بتدني التزام الملابس بالقواعد الشرعية ويحتج بما كشفته يدي المعتدي مما لا يصح كشفه ليبرر اتهامه القذر وكأنه لا يدري أنه لو رأى الفاحشة الصريحة بعينيه وعيون أثنين غيره لم يحق للثلاثة الكلام ، ولو تكلموا لوجب عليهم الجلد ولردت شهادتهم أبدا ، ومن الأخيرة ألوم هذه الجماهير الغفيرة التي لا تزال تجلس أمام أمثال هؤلاء تستمع تقييمهم للمواقف وتتبع تحليلهم للأحداث وتصدق كل ما يقولون من أخبار رغم أن أمثال هؤلاء قد سقطوا بالفعل بأفعالهم وأقوالهم المتكررة ولا يقبل منهم خبر ولا رأي ولا شهادة.

وليس الأمر قاصرا على الأعراض وحسب كما يظن البعض ، فالإسلام ينهى عن تصديق أي فاسق دون تبين في أي مسألة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)) {الحجرات} ، وينهى عن الاستشهاد بمن اشتهر عنه الكذب والافتراء ، ولولا هذا المبدأ الذهبي الذي كان أحد أهم المبادئ التي اُستخدمت في تقييم رواة الحديث والحكم على رواياتهم لضاعت سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم ، كيف يصدق المسلم الواعي اليقظ الفاهم لدينه رجالا ونساء اتخذوا الكذب حرفة والـ "فبركة" هواية ، جرب عليهم الكذب مرات ومرات ، وثبت افتراؤهم مرات ومرات ، وافتضحت شائعاتهم مرارا ومع ذلك يعطيهم الأمان وتحقق منابرهم (صحف وقنوات ومواقع ) أكبر نسب توزيع ومشاهدة وزيارة، هؤلاء الذين أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن تصديقهم يعد من علامات الساعة (سيأتي على الناس سنوات خداعات ، يصدق فيها الكاذب ، و يكذب فيها الصادق ، و يؤتمن فيها الخائن ، و يخون الأمين ، و ينطق فيها الرويبضة . قيل : و ما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) صحيح الجامع ، إن هؤلاء الذين لا يكفون عن الخوض في الأعراض دون دليل ، وعن تلطيخ سمعة الناس المالية والخلقية والدينية والسياسية دون حجة أو برهان ، وينشرون أخبارا ليس لها أي أصل ، هؤلاء جميعا يجب أن ينتزعوا من فوق المنابر ويسلبوا حق الشهادة والحكم على الناس وتشكيل وعي الجماهير ، ولكن الذي يجب عليه إنزالهم من فوق المنابر هم الجماهير أنفسهم من الدرجة الأولى لا مجرد قانون هنا أوهناك ، المسلم الواعي الفاهم لدينه يسقط هؤلاء بترك سماعهم والإقلاع عن متابعتهم ،وينزلهم منزلتهم الحقيقية ، منزلتهم الحقيقية بين  الرويبضة والكذابين والقاذفين الذين لا يستحقون أن يسمعوا ولا تقبل لهم شهادة ولا يسمع منهم خبر، فالكذب وتأليف الأخبار ليس حرية تعبير ، وتوزيع التهم دون دليل ليس من حرية الرأي ، وازدراء الأصول وكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليس من حرية الفكر في شيء.

فيما سبق تحدثت عن الجناة الذي يكذبون ويشوهون ويقذفون دون حجة وبرهان ويستحلون ذلك كله بمخالفة المجني عليه لفكرهم ورأيهم ، تحدثت عن المستمع صاحب السذاجة المتعارضة مع الإسلام ومع ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من فهم وفطنة، الساذج الذي يصدق كل ما يقال وينقل كل ما يسمع  حتى لو كان يعلم عن المتحدث اشتهاره بالكذب ، ويعلم أن جل كلامه دون دليل ، واختم بالحديث عن نوع آخر من المستمعين ، ذلك المستمع الذي يعرف أن المتحدث مردود الشهادة متروك الرواية ويعلم أكثر وأكثر أن متن الكلام نفسه باطل ولا دليل عليه بل ويجانب الصواب والمنطق ومع ذلك يختار التصديق متعمدا نظرا لعدواته للمدعى عليه ، يذكرني بمن سمعوا هذا المدعي مسليمة الكذاب وهم يعلمون أنه كذاب من حيث صفاته الشخصية ابتداء ويوقنون أن ما يقوله في هذا الموقف تحديدا كذب ومع ذلك يقولون (كاذب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر) ، فهؤلاء الكذابون لم يصعدوا للمنابر وحدهم ، فالسذاجة وإتباع الهوى هما السلم الذي وصل به هؤلاء الأشرار فوق المنابر ووراء الميكروفونات ، ولا زوال لشرهم ومكرهم إلا بكسر ذلك السلم والالتزام بأوامر ربنا تبارك وتعالى وانزال الناس منازلهم الشرعية ، ومنزلة هؤلاء (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا).


للإطلاع على الأجزاء السابقة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق