الثلاثاء، 31 يوليو 2012

الجزء الثالث عشر، عندما يصبح التفاؤل جريمة


أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
الجزء الثالث عشر
عندما يصبح التفاؤل جريمة
معتز عبد الرحمن
لسورة يوسف مكانة خاصة عند الكثير من المسلمين ، لا يتوقفون عن تلاوتها ولا يملون من سماع دروسها وتفسيرها،  ووجدان كل منا مشحون بخواطر ومعاني هذه السورة الكريمة إلى الدرجة التي تستشعر أنك لا تجد جديدا تضيفه ولا تجد منسيا تذكر به ، إلا إني لم أستطع تجاوز هذه السورة دون الوقوف مع هذه الآية الكريمة ، التي لا طالما وضعت في غير موضعها واستخدمت في غير محلها فتؤدي إلى خلاف مقصودها ولا تحقق أهدافها الحقيقية ، يبذل النبي الكريم المجاهد الصابر المناضل صلى الله عليه وسلم كل ما يستطيع لتبليغ الدين ونصرته ، أؤذي في نفسه وجسده ، أتهم بالسحر والجنون ، قتل من أتباعه من قتل وسحل منهم من سحل ، ومع ذلك يتأخر النصر ويشتد البلاء وتتزلزل العزائم فيأتي القرآن الكريم مذكرا ومنبها (حَتَّىٓ إِذَا اسۡتَيۡأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا۟ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُوا۟ جَآءهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ الۡقَوۡمِ الۡمُجۡرِمِينَ (110)) ، فأحلك ساعات الليل هي التي تسبق النصر ، وأشد لحظات المحنة هي التي تسبق المنحة طالما تمسك المؤمن بدينه وبالعمل والبذل لأجله آخذا بالأسباب متوكلا على ربه.

فمن يريد أن ينال بشرى الرسل فعليه بإتباعهم والتزام منهجهم ،والمتأمل في قصص الأنبياء الكرام يعلم أنهم ما جلسوا لحظة ولا تباطئوا ولا تركوا الأخذ بالأسباب متفائلين منتظرين أن تمطر عليهم السماء نصرا وتمكينا ، ولو تأملنا فقط في سورة يوسف نفسها لرأينا هذا النبي الكريم الموقن بربه يعقوب عليه السلام يشكوا بثه وحزنه إلى الله وينهى أبناءه عن اليأس والإحباط ولكن بعد الأمر بالعمل والسعي (يَـٰبَنِىَّ اذۡهَبُوا۟ فَتَحَسَّسُوا۟ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيۡأَسُوا۟ مِن رَّوۡحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيۡأَسُ مِن رَّوۡحِ اللّهِ إِلاَّ الۡقَوۡمُ الۡكَافِرُونَ (87)) وفي السورة التالية من نفس الجزء سورة الرعد (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِ يَحۡفَظُونَهُ مِنۡ أَمۡرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا۟ مَا بِأَنۡفُسِهِمۡ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوۡمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)) ، وينتهي الجزء الثالث عشر بذكر قصة نبي الله إبراهيم وتركه لزوجه وولده في واد غير ذي زرع ولا ماء ، وتتقبل الزوجة المؤمنة الأمر بيقين وتفاؤل وصدق (لن يضيعنا) ولكن لم ينهها تفاؤلها عن البذل والسعي بين الصفا والمروة أشواطا تنهك اليوم الشاب الفتي الماشي على الرخام في نسيم المكيفات.

استخدمها من استخدمها في حرب العراق بعدما أقنع نفسه ومن يسمعه بأنه استفرغ الوسع وبذل المتاح وقال انتظروا الفرج والنصر من الله (حَتَّىٓ إِذَا اسۡتَيۡأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا۟ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُوا۟ جَآءهُمۡ نَصۡرُنَا) فقعد القوم هانئين منتظرين النصر الموعود فسقطت بغداد وذبح المسلمون هنالك ، قالها في حرب غزة أيضا فقتل من قتل من المسلمين ولولا فضل الله ثم صمود العاملين المجاهدين على الأرض لضاعت غزة ونحن ننتظر النصر الموعود ، ولما قامت الثورة وثبت أننا لم نكن مستفرغين الوسع وأننا في أيدينا الكثير من الأسباب التي لم تستخدم والتضحيات التي لم تبذل ياليته تعلم وتراجع ولكنه ابتداء خالف تعاليم الإسلام ومفاهيمه ووثق في الثعبان وتجاهل التاريخ سواء الحديث منه مما عاصره الأجداد ودونوه أو القصص والسنن التي جاءت في كتاب الله لتعلمنا فن التعامل مع الطغيان (لَقَدۡ كَانَ فِى قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٌ لِّأُوۡلِى الأَلۡبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفۡتَرَى وَلَكِن تَصۡدِيقَ الَّذِى بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ كُلَّ شَىۡءٍ وَهُدًى وَرَحۡمَةً لِّقَوۡمٍ يُؤۡمِنُونَ (111)) {يوسف} ، ثبط الناس مرارا بدعوى أن التمكين قد جاء بالفعل أو في صالة الوصول ، ركن إلى الوعود والأماني ومارس عادته في النهي عن الأسباب والأمر بالتراخي المغلف بدعاوى اليقين والإيمان، ولما تكشفت الحقائق واتضحت المخاطر وكاد كل شي أن يضيع واغتم الناس واهتموا وأخذوا ينسجون من همومهم أطواقا للنجاة ويبنون من قلقهم جسورا للعبور وحاولوا استثمار المحنة لتصحيح الأخطاء ، وبدلا من أن يصحح معهم الخطأ ويروي معهم الأرض ويتراجع عما سبق ، رأيته ينادي ويقول مالي أراكم مغمومين؟ وفيما وعدتكم مشككين؟ ويحكم توبوا إلى ربكم ، افرحوا واسعدوا بما لم تفعلوا فالنصر قادم لمجرد أننا في محنة (حَتَّىٓ إِذَا اسۡتَيۡأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا۟ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُوا۟ جَآءهُمۡ نَصۡرُنَا) ، فتراخت الكثير من الأيادي من جديد وتقاعس الكثيرون عن العمل ، جلسوا على قضيب القطار مرة أخرى هانئين متضاحكين ، إذا حذرتهم كذبوك ، وإذا نبهتهم وصفوك بضعف الإيمان واليأس من رحمة الله.

إن التفاؤل والثقة بالله فريضة وإن اليأس من رحمته كبيرة إن لم يكن كفر ، ولكن إن كان التفاؤل منفردا دون حث على العمل والنضال والبذل فهو نوع من الدروشة المخالفة للإسلام ، ومن بث في الناس الأمل دون حث على العمل فقد أجرم في حقهم وحق أمته وحق نفسه ، فالنصر لا يأتي للبطالين ولا يأتي للمبتسمين ، فللبيت رب يحميه بفضله وأيدي المسلمين ، فإن تقاعست الأيدي وقصرت قُطعت واُستبدلت وحمى الله البيت بآياد أخرى متفاءلة مجاهدة مناضلة (خاطرة الجزء العاشر) ، هذا ما أعرفه عن الإسلام ، فيا أصحاب التفاؤل الكاذب والتخاذل المقنع بقناع الدين ، هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين!
للإطلاع على الأجزاء السابقة

الاثنين، 30 يوليو 2012

الجزء الثاني عشر، فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ


أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
الجزء الثاني عشر
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
معتز عبد الرحمن
سورة هود بحق سورة تخطف العقول وتزلزل القلوب وتملأ الوجدان بمعاني جليلة عظيمة ، تقرأ قصص الأنبياء الكرام مع أقوامهم ، قصص نضال المؤمنين وصبرهم في سبيل الله ، وقصص عناد المشركين والظالمين وطغيانهم وكبرهم ، قصص نجاة من آمن واتقى ،وقصص هلاك من طغى وكذب ، وبعدما تسافر عبر الأزمان والأمكنة لتعيش مع كل نبي قصة رسالته وبعثته وكأنك تسمع صوته وهو ينادي عليهم ويعظهم وتسمع على إثرندائه ضحكاتهم وسخريتهم ووعيدهم له ولمن آمن معه ، وكأنك ترى الهم والحزن على وجوه المؤمنين وترى الاستعلاء والكبر على وجوه الكافرين ،وعند بلوغ التكذيب مداه وتخطي الطغيان لحده يأتي العذاب من عند الله وتنزل العقوبة فكأنك ترى الغرقى حولك يستغيثون ، وترى من أخذتهم الصيحة حولك جاثمين ، فإذا ما استشعرت ذلك كله وامتلأ قلبك بهذا المشهد العظيم تقرأ قوله تعالى (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)) ، فهذه قصص ليست للتسلية أو للمعلومات العامة ولكنها لتذكر القلوب الحية ، وتزلزل القلوب الغافلة وتنذر من كان حيا أننا إن عصينا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلسنا بمأمن مما وقع لأسلافنا ولسنا في حرز من العذاب.

تنقلك السورة بعد ذلك من معايشة الماضي في قصص الأنبياء وأقوامهم إلى معايشة المستقبل وما في يوم القيامة من أهوال وقلق وتوتر (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)) شقي في جهنم وجحيمها ، وسعيد في الجنة ونعيمها ، خلود للكافرين في النار بلا موت ، وخلود للمؤمنين في الجنة بلا موت ، فحتى من لم يكتب عليه العقاب في الدنيا فأين سيذهب من عمله السيء يوم القيامة؟! تصل لأواخر السورة منتبه خائف بعد أن أخذت العبرة من مصير من انحرفوا عن منهج الله ودعوة أنبيائهم ، وبعد أن علمت المصير المرعب الذي ينتظر من حاد عن الطريق وعصى ربه ، تريد أن تعرف السبيل الذي ينجيك من هذه الأهوال ومن هذا المصير ، وتعرف الطريق الذي يصلك بك مع السعداء هناك في جنات النعيم ، فيأتي الأمر من الله الملك ذي الجلال والإكرام :

(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112))

لبيك يارب ، ومن يرفض طريق الاستقامة بعد كل ما سمع! ومن يطغى ويسير في طريق المعصية بعدما علم ما علم! ومن يتجاهل هذا الأمر بعد كل ما قرأ في هذه السورة الجليلة من عبر وعظات وإنذارات ! إن هذا الأمر الذي اختتمت به السورة هو غاية الدين وغاية ما يريد المؤمن الوصول إليه (قل آمن بالله ثم استقم)، ولكنه أمر يحتاج إلى صبر عظيم وجهد كبير في مجالدة النفس وأهوائها والشيطان ووسواسه وأهل الباطل وطغيانهم ، ومن أعظم مصادر هذا الصبر والثبات (وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)) ، فلا تكن قصص الأنبياء بالنسبة لك "حواديت" خاوية من العظة والمشاعر ، فإنها ما جاءت إلا لتثبت قلوب المؤمنين وتوقظ قلوب الغافلين وتنير الطريق للسالكين.

وآخر ما أذكره في شأن هذه الآيات الجليلة أن السورة بينت للجميع طبيعة الصراع بين الحق والباطل ونسفت المنطقة الرمادية التي يقف فيها الكثير من الناس ، فالإنسان إما مناصرا للحق وإما واقعا في الباطل ولو بشكل غير مباشر ، لذا أعقب الأمر بالاستقامة نهيا عظيما مخفيا (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)) فمجرد الميل إلى الظالم أو قبول أفعاله والسكوت عنها يدفع إلى جهنم والعياذ بالله ، فما بالك بتبرير أفعاله أو الدفاع عنه والتعاطف معه! فلا مكان للحياد بين الحق والباطل ، ولا توجد منطقة وسطى بينهما ، فإما تكون مؤمنا بالحق داعيا إليه محاربا للباطل والفساد وإما فليخش كل منا على نفسه (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)){هـود} ،، (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) {الأعراف-165}

اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك.

الأحد، 29 يوليو 2012

الجزء الحادي عشر،نـداء إلى ركاب السفينـة


أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
الجزء الحادي عشر
نـداء إلى ركاب السفينـة
معتز عبد الرحمن

مثال متكرر في كتاب الله يلفت الانتباه إلى أحد طبائع النفس البشرية عندما تفتقد كمال الإيمان واليقين ودوام الصلة بالله ، نراه في حياتنا كل يوم لا أقول ممن حولنا فقط ولكن للأسف أيضا من أنفسنا ، هو ذلك العاصي إذا مات صديقه فيتأثر لأيام ويعود أدراجه ، وهو ذلك الغافل إذا أبتلي بالمرض فيدعو وينتحب ثم تعود غفلته مع صحته في ساعة واحدة ، هو ذلك الطالب الذي لا يعرف طريق المساجد إلا أيام الامتحانات ، هي تلك الفتاة التي لم تعرف المصحف وحلاوة الدعاء إلا عندما تأخر الزواج ، هو ذلك الراكب التي تضطرب به الطائرة فيستغيث ، ويفاجأ بعدم وجود مكابح سيارته فيتوسل ، وتغشى سفينته الأمواج فيقول ومن معه (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ).

يتعامل الكثيرون مع مثال السفينة الوارد كثيرا في كتاب الله تعاملا قاصرا ، فليس الأمر يخص ركوب البحر وحسب ، بل إنه يخص حياتنا كلها بكل مواقفها ودقائقها ، يخص كل من ينسيه الرخاء ذكر ربه ، ولا يستيقظ قلبه إلا في الشدائد ، وياليته احتفظ به يقظا ولكنه سرعان ما يعود كما كان عند انقضاء البلاء ، يقول الله تعالى في سورة يونس (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)).

1-    بدأت الآية بذكر البر والبحر مذكرة إيانا بأننا في كل وقت وفي كل موضع لا غنى لنا عن ربنا تبارك وتعالى ، أذكر تلك القصة التي قالها أحد الدعاة أنه كان في طائرة فلما أقلعت فوجئ بجاره في المقعد يقول (بس ، دلوقتي مبقاش لينا حد غير ربنا) ، وكأنه حينما كان على البر كان هناك من يمنعه من الله ، فجاءت بداية الآية تذكيرا لمثل هذا من أصحاب الرؤية القاصرة ، وكذلك في سورة الإسراء (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا (68)) ، إذن فأنت في خطر دائم واحتياج متصل لربك وإن ظننت بظاهر الأسباب غير ذلك ، أنت في السفينة دوما فلا ينقطع رجاؤك وتعلقك بربك.

2-    ياله من نداء مخيف ، نداء إلى ذلك العابد الموسمي ، إلى صاحب الإخلاص المؤقت واليقظة المرحلية ، إلى ذلك الغافل عن ديمومة احتياجه لربه في الشدة والرخاء ، في المحنة والمنحة ، يقول ربنا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)) ، فالله هو الغني ونحن الفقراء إليه ، لم يزده إخلاصنا في المحنة شيئا ، ولم يضره بغينا في المنحة شيئا ، فيا ركاب السفينة أدركوا أنفسكم وأنقذوا أنفسكم من غضب الحليم الغني تبارك وتعالى ، اعرفوا قدركم ، واقدروا الله حق قدره ، قبل أن تعودوا إليه فينبئكم بما كان يحصيه عليكم من أعمالكم وقت لا ينفع الندم ولا يفيد البكاء (يا عبادي ! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني . ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم . كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم . ما زاد ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم . وإنسكم وجنكم . كانوا على أفجر قلب رجل واحد . ما نقص ذلك من ملكي شيئا . يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم . وإنسكم وجنكم . قاموا في صعيد واحد فسألوني . فأعطيت كل إنسان مسألته . ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر . يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم . ثم أوفيكم إياها . فمن وجد خيرا فليحمد الله . ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) رواه مسلم.

3-    كنت أتعجب وأنا أقرأ في سورة الأنعام (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)) كنت أقول من ذا الذي يرى القيامة بنفسه ويرى الجنة والنار وإذا ما عاد للدنيا يعود لكفره ومعصيته !! ولكن سبحان الله الذي لا يظلم أحدا ، فمثال السفينة الذي يتكرر في حياتنا مرات ومرات هو مثال مصغر لذلك ، يرى الناس الموت ويرون الهلكة ويرون الفقر ويرون المرض ويرون كل ما يدفعهم للاستغاثة بالله والخضوع له والتفاني في طاعته ، يقطعون العهود والمواثيق على أنفسهم إذا فرج الله عنهم ليكونُن من الشاكرين (ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) {الروم-33} ، نعوذ بالله العظيم.

اللهم ارزقنا طاعتك في الرخاء والشدة ، اللهم إنا نعوذ بك من الفحشاء والمنكر والبغي ، اللهم ارزقنا إيمانا ويقينا دائمين في البر والبحر ، في الصحة والمرض ،  في الغنى والفقر ، نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك.

السبت، 28 يوليو 2012

الجزء العاشر ، القلق من النصر المؤكد


أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
الجزء العاشر
القلق من النصر المؤكد
معتز عبد الرحمن

الإسلام دين الله المنصور ، تمر على أتباعه عصور من الضعف يظن الناس فيها أنهم لن يمكنوا مرة أخرى أبدا، فلا يمضي الكثير ثم يأتي النصر المبين ، ونحن الآن نعيش أحد عصور الضعف والهوان ، تداعت علينا الأمم وامتلأت قلوبنا بالوهن ، ومع ذلك نوقن أن النصر قادم لا محالة ، وأن الفجر آت بعد طول ليل ، ولكن وللأسف قلة تدبر وتفهم المسلمين في قواعد دينهم وسنن الله في أرضه حولت هذا اليقين عند البعض إلى تواكل ذميم ، لا يحملون للدين هما ، ولا يعيرون لمشاكل الأمة اهتماما كافيا ، فالدين منصور حتما فلما القلق؟ واليوم أقول لهذا المتواكل المدعي اليقين لما القلق.

هل الإسلام يحتاج أتباعه لينتصر؟ في الحقيقة لو كان يحتاجهم لاندثر منذ زمن بعيد ، فهو الدين الوحيد الذي لا يتوقف انتشاره أبدا حتى ولو توقف أتباعه عن الدعوة إليه وحتى لو التفت سلاسل الاحتلال والضعف حول رقابهم ، بل وحتى لو تخلوا هم أنفسهم عن مناسكه وشعائره وقيمه ، وفي عصرنا الحالي مثال حي لمن يتابع تزايد حالات الدخول في الإسلام في الغرب الذي هو في الظاهر الطرف المنتصر والذي يحارب الدول الإسلامية ليل نهار ، فقوة الإسلام في ذاته وإن ضعف أتباعه ، فما بالنا إذا قويت شوكتهم وأخلصوا وناضلوا لأجل دينهم ؟! ، الإسلام سينتصر حتما ولكن السؤال ، بمــن سينتصــر؟ من هذا السعيد الذي سينال شرف أن يكون أداة لنصر الإسلام؟ من هذا السعيد الذي سيلقى الله تعالى فيجد في صحيفته أجر وثواب نصرة الدين؟ ويلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحوض ويعانقه ويقول له نصرت دينك من بعدك؟ ليس القلق على الإسلام ولكن علينا نحن إذا خسرنا هذا الأجر والثواب بل إذا وضعنا أنفسنا تحت طائلة العذاب بالتقصير الذي نعيشه ، فلا نصرا نرى ، ولا ثوابا نحصل!

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ (38) إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)) {التوبة} ، الله يأمر المسلمين بنصر دينه وشريعته ، فإما يستجيبون فينصرهم ويؤيدهم ويفوزون برضاه وإما يتخلفون ويقصرون فيكتب عليهم العذاب الأليم ثم يستبدلهم القدير بمن هم أفضل منهم وأعز (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) {محمد-38} ، ويالها من كلمة مؤلمة شديدة (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) وكأن هذا المتولي المقصر المتواكل عار وسوء تنفى صفاته عن الصالح المجاهد المناصر لدينه ، فلك أن تتخيل الأمرين وتختار بينهما أن تكون والعياذ بالله من القوم المُستبدَلين الذين يتعوذ الصالحون من أن يكونوا مثلهم ، وإما أن تكون من القوم البديل الذي يأتي بهم الله لينصروا الحق ويقيموا الدين ويكسروا شوكة الباطل والظلم ، وإذا شعرت بالفارق بينهما أحسست بالقلق الكبير ، وأدركت صعوبة الأمر ، ولم ينم لك جفن ولا يرتاح لك بال خشية الاستبدال ، ولبذلت كل جهدك للنجاة من العذاب وغضب الله تعالى ولم تدخر وسعا للدخول في رضاه ورحمته ومحبته.

وإذا أردت أن تكون من القوم الفائزين المحبوبين من ربهم فاسمع أولا عن صفاتهم وسماتهم لتنتهجها وتتبع سبلهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)) {المائدة} ، هذه صفات حزب الله الحقيقي ، حزب الله المنتصر الغالب ، فالأول يُدعى للجهاد في سبيل الله فيتثاقل إلى الأرض ويغلبه حب الدنيا ، والثاني يجاهد في سبيل الله لا يخاف لومة لائم ، حنون على المؤمنين ، شديد على من يعادي ويحارب دين الله ، يصلي ، يزكي ، ولاؤه لله ولرسوله وللمؤمنين وحسب ، والله ثم والله لو لم يكن في هذه الآية وهذه الصفات سوى قوله تعالى (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) لكانت كافية لإشعال الهمم وبذل الغالي والنفيس ، فمن فاز بحب الله ماذا خسر ومن خسر حب الله فماذا كسب؟ لقد توعدت آية سورة التوبة في الجزء العاشر المقصرين بالاستبدال والعذاب ، أما في سورة المائدة فتوعدتهم بالاستبدال وبخسران هذه الصفات الحميدة والخروج من تحت مظلة حزب الله الغالب.
 ألم نفسي ، وألم جسدي ، وخسران مبين ، كل ذلك ينتظر المقصر في نصر الإسلام القادم لا محالة ، والمتخلف عن ركب النضال في سبيل الله بشتى صوره ، ثم يقولون لماذا القلق؟ 

اللهم استعملنا ولا تستبدلنا