الجمعة، 17 أبريل 2015

نقطة نظام.. تعريفات متأخرة


هذه الحلقة بناء على طلب المتابعين ، وتأخرها في الترتيب خطأ مني ولا شك إذ دخلت في الحديث عن شروط الحديث الصحيح دون المرور على بعض التعريفات الهامة.
.
الإسناد: هو سلسلة الرجال الموصلة للمتن ، أخبرني معتز قال حدثني مصطفى قال سمعت حسام يقول أن إبراهيم قال ( غدا أجازة رسمية) ، كل ما قبل القوس هو الإسناد ، ذكر نقلة الكلام ووسيلة نقله (أخبرني - حدثني - سمعت ... إلخ)
.
المتن: ما ينتهي إليه السند من كلام. ، الكلام الذي سيقوله إبراهيم في النهاية هو المتن (غدا أجازة رسمية).
علم المصطلح: علم بأصول وقواعد يعرف بها أحوال السند والمتن من حيث القبول والرد.
إذن فهذه القواعد التي ذكرناها في الأصل يمكن تطبيقها على أي سند وأي متن، ولكن بالطبع هي لا تطبق بهذه الصرامة إلا على السنة النبوية لتعلقها بالتشريع فهي مصدره الثاني ، ولكنها إذا طبقت على كل نصوص التاريخ في الدنيا فقد لا يصح منها شيء مطلقا، في ميزان علم الحديث، ناهيك عن تطبيقها على النصوص المقدسة في الملل الأخرى التي نقلت بأسانيد مليئة بالمجاهيل والانقطاع والشذوذ والعلل الظاهرة القادحة ومع ذلك تجد بعض المنتسبين للإسلام يظهرون لها من اليقين والتبجيل والثقة أضعاف ما يظهرون لنصوصهم الشرعية الثابتة بحجة أن نصوصنا الشرعية لم تنقل بأسلوب علمي!! وكأن الأخرى نقلت فيديو على الهواء مباشرة مثلا!! إنه الهوى والهزيمة النفسية والعياذ بالله.
.
ما هو الحديث المتواتر؟
شروط الحديث المتواتر أن:
1- يرويه عدد كثير في كل طبقة يستحيل تواطؤهم على الكذب ،
- عدد كثير فمثلا يروي الحديث عشرون صحابيا ويرويه عنه عشرون أو ثلاثون تابعيا (الجيل التالي  للصحابة) ثم يرويه عن التابعين أربعون من تابعي التابعين وهكذا .
- يستحيل تواطؤهم على الكذب: أي أن طبيعة حياة وسيرة وسكن الثلاثين تابعيا يستحيل معها أن يكون جلسوا معا واتفقوا على اختلاق الحديث مثلا أو تغيير شيء فيه ، فهذا في بلد وذاك في بلد ، والثالث مات ولم يلق الرابع والخامس والسادس في حياته كلها ،  وهذا سمع من شيخ (صحابي) لم يلقاه الآخر وهكذا وما إلى ذلك من الدلائل المنطقية على استحالة تواطؤهم على الكذب، وذلك في كل طبقة من الطبقات التالية.
2- ألا يقل العدد في طبقة عن الطبقة التي تليها ، فلا يرويه مثلا عشرين صحابي ثم ينقله عنه عشرة من التابعين ثم خمسة من تابعي التابعين ، العدد يزداد مع كل طبقة أو على الأقل يثبت.
3- أن يكون منتهى كلامهم الحس ، أي يكون كل منهم سمع بنفسه أو شاهد بنفسه.
.
ما هو حديث الآحاد؟
هو أي حديث لم يحقق شروط المتواتر ، فليس معنى الآحاد أن يكون رواه واحد فقط كما يعتقد البعض ، فقد يروي الحديث عشرة في الطبقة ولكنه آحاد لعدم تحقق الشرط الثاني مثلا ، وما إلى ذلك، وحديث الآحاد هو ما يتعلق به أكثر عمل المحدثين وشروط الحديث الصحيح الشديدة التي ذكرناها ، فعدم تحقق التواتر يزيد أهمية الحرص واليقظة في تحقيق الحديث.
.
فإذن ففرق بين أن أقول حديث صحيح وحديث حسن وحديث ضعيف ، وبين أن أقول حديث متواتر وحديث آحاد ، فهذا تقسيم وذاك تقسيم آخر ، الأول تقسيم من حيث القبول والرد ، فالصحيح والحسن (والصحيح لغيره والحسن لغيره) مقبولون ، والحديث الضعيف (بأنواعه) حديث مردود ، أما الحديث المتواتر والحديث الآحاد فتقسيم من حيث طريقة وصوله إلينا ، فالمتواتر دائما صحيح طالما حقق الشروط ، وأما الآحاد فيخضع للنقد والبحث وتطبيق شروط الحديث الصحيح التي ذكرناها من قبل.. والله المستعان
.

* لا تنسى قراءة الحلقات السابقة من السلسلة فهي مترابطة.
* مصادر للاستزادة
1- الباعث الحثيث في شرح اختصار علوم الحديث. للإمام ابن كثير وشرح الشيخ أحمد شاكر.
2- تيسير مصطلح الحديث للدكتور محمود الطحان
3-نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر. للإمام ابن حجر العسقلاني ، بتحقيق وتعليق أ.د عبد الله بن ضيف الله الرحيلي.
4- الرسالة للإمام الشافعي ، تعليق وتحقيق الشيخ أحمد شاكر.
5- المنهج النقدي عند المحدثين وعلاقته بالمناهج النقدية التاريخية، عبد الرحمن بن نويفع فالح السلمي.



الاثنين، 13 أبريل 2015

هل ينسى الراوي؟ (2)


توقفنا في نهاية الحلقة السابقة عند الشرط الرابع من شروط الحديث الصحيح وهو (انتفاء الشذوذ) ، وبينت شيئا من معانيه ببساطة ، والآن نذكر مثالا عليه لتوضيحه أكثر ثم نكمل.
عن {هَمَّامٌ} حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ( كُلُّ غُلاَمٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَ"يُدَمَّى"(.
عَنْ {سَعِيدٍ بن أبي عَروبَة} أَنْبَأَنَا قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ) كُلُّ غُلاَمٍ رَهِينٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَ"يُسَمَّى" (
{همام} روى الحديث بلفظ (يدمّى)
{سعيد بن أبي عروبة} روى الحديث بلفظ (يسمّى)
حديث همام هو الشاذ ، لأن سعيد ثقة ومن أثبت أصحاب قتادة ، أما همام فليس من الطبقة الأولى في أصحاب قتادة وثبتت له أخطاء في الرواية عنه وإن كان ثقة، فقدمت رواية سعيد على رواية همام وحكم على رواية همام بالشذوذ ولم تحقق شروط الصحة رغم اتصال السند وعدالة وضبط الرواة ، ولعل هذا اللفظ الشاذ - والله أعلم - سر الموروث الثقافي الذي يلتزم به البعض بوضع دم العقيقة على رأسه المولود وجسده.
.
الشرط الخامس: انتفاء العلة
والمقصود بالعلة وجود سبب غامض خفي يقدح في صحة الحديث، فانتفاء أحد الشروط الثلاثة الأولى (انقطاع السند أو وجود راوي غير عدل أو غير ضابط) يعتبر علة ظاهرة ، ولكن التدقيق في الحديث لا يقف عند هذا الحد فيبحث فيما وراء ذلك، كما الحال في الشرط الرابع.
مثال على وجود علة خفية قادحة.
الترمذي / حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي عن الأعمش عن أنس: قال كان النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض)
هذا السند متصل ظاهرا ، بجانب أن رواته عدول ضابطون ، العلة الخفية أن الأعمش عاصر أنس ورآه (اتصال ظاهر) ولكنه لم يسمع من أحاديث قط ، هذه علة "خفية" تجعل هذا السند منقطعا وبالتالي ضعيفا.
ولكن متن الحديث صحيح لأنه جاء بسند آخر متصلا محققا الشروط الخمسة، وهذه ملحوظة مهمة أن ضعف سند معين لمتن لا يعني بالضرورة ضعف المتن لاحتمالية وروده بأسانيد أخرى صحيحة.
.
فوائد مهمة:
1- إن كان تحقيق الأحاديث في المجمل عمل يحتاج لعلم ومهارة ودقة ، ولكن بلا شك أن التحقق من الشروط الثلاثة الأولى أسهل بكثير من الشرطين الرابع والخامس ، فالشروط الثلاثة الأولى يمكن تحقيقهما بالاطلاع على سيرة راو راو وأن بينهما اتصال ، وعلى تصنيف راو راو في كتب الرجال لمعرفة أحوالهم من حيث العدالة والضبط ، أما الرابع والخامس فيحتاجان إلماما كبيرا جدا بالسنة وبالطرق المختلفة للحديث الواحد، ومعرفة درجات الرواة الثقات في المجمل وعدم الاكتفاء بمعرفة كونهم ثقات وحسب ، ثم معرفة من أوثق من غيره في الرواية عن شيخ معين ، وقد ألفت كتب كاملة في علم علل الحديث لأهميته ودقته ، كل ذلك من أجل القول بأن حديث كذا صحيح ، وحديث كذا غير صحيح ، ولذلك لم يبرع في دراسة وتطبيق هذين الشرطين إلا الأئمة المتميزون المتبحرون في علوم الحديث وعلى رأسهم البخاري ومسلم وهذا من أسباب تميزهما ومكانتهما بين العلماء بشهادة العلماء من معاصريهم والأجيال اللاحقة.

2- الحديث الذي يحقق الشروط الثلاثة الأولى يسمى (صحيح الإسناد) ، أما (الحديث الصحيح) فلابد أن يحقق الشروط الخمسة ، وهذه ملحوظة تجدها في المواقع والبرامج الألكترونية التي تستخدم للبحث عن الأحاديث ، تجد مثلا في موقع الدرر السنية الشهير في البحث المتقدم اختيارات (أحاديث حكم  المحدثون عليها بالصحة) أو (أحاديث حكم المحدثون على أسانيدها بالصحة) والفرق كبير كما تبين ، فالأول يعني تحقق الشروط الخمسة عند مصنف الكتاب الذي ستجد فيه الحديث ، أما الثاني فيعني تحقق ثلاثة فقط ولا يعني بالضرورة تحقق الشرطين الرابع والخامس.

وفي نهاية هذه الحلقة أقول ، إن الشرح المبسط المختصر جدا لهذه الشروط يلقي الضوء فقط على شيء من الجهود والاشتراطات التي تحمي جناب الحديث من خطأ الراوي الثقة ونسيانه ، لكن جهود المحدثين لا تقف عند هذا الحد، وتحقيقهم لهذه الشروط ليس بهذه البساطة الظاهرة في الطرح ، والسلسلة مستمرة إن شاء الله لنتعرف أكثر وأكثر - سويا - ونوسع معرفتنا وثقافتنا - أيضا سويا - والله المستعان
.
 .........................................
* لا تنسى قراءة الحلقات السابقة من السلسلة فهي مترابطة.
* مصادر للاستزادة
1- الباعث الحثيث في شرح اختصار علوم الحديث. للإمام ابن كثير وشرح الشيخ أحمد شاكر.
2- تيسير مصطلح الحديث للدكتور محمود الطحان
3-نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر. للإمام ابن حجر العسقلاني ، بتحقيق وتعليق أ.د عبد الله بن ضيف الله الرحيلي.
4- الرسالة للإمام الشافعي ، تعليق وتحقيق الشيخ أحمد شاكر.
5- المنهج النقدي عند المحدثين وعلاقته بالمناهج النقدية التاريخية، عبد الرحمن بن نويفع فالح السلمي.



الجمعة، 10 أبريل 2015

هل ينسى الراوي؟ (1)


.سؤال مشروع جدا .. بل واجب
ولا تتعامل معه كأنه وساوس الشيطان وترفض التفكير فيه ، ولا تتعامل مع من يسأله على أنه مفتون بالضرورة وتكتفي بزجره.
المشكلة الحقيقية أن يطرح السؤال بأسلوب تقريري كوميدي .. هل ينسى الراوي ؟ .. وهل هناك إنسان لا ينسى .. إذن لا نأخذ السنة .. (يا سلام) .. أو نخضع قبولها وردها لميزان آخر أكثر عشوائية وتغيرا من ميزان التذكر والنسيان وهو ميزان عقل كل فرد وذوقه ورؤيته التي لا تكاد تتطابق بين فرد وآخر.
إن نسيان الراوي يمثل 50% من دواعي قيام علم الحديث أصلا ، بجانب ال50% الأخرى والتي تمثل كذب الراوي.
فهلا سألنا وبحثنا - إنصافا - عن الأدوات التي استخدمها المحدثون لتقصي ومعالجة ومواجهة هاتين الصفتين البشريتين وانقاذ السنة من آثارهما السيئة؟ قبل أن نلقي الاتهامات بهذه السطحية واللاموضوعية المثيرة للضحك والشفقة والغضب على سواء.
كمسلم عادي ، عامي للغاية سألت نفسي هذا السؤال كثيرا ، وكنت اسأله بفطرتي لا مدفوعا من برنامج هذا ومقال ذاك ، فلأن النسيان فطري ولأن الكذب وارد جدا على البشر يصبح هذا السؤال فطريا بالضرورة ، وبالضرورة يصبح العمل من أجل معالجتهما فطريا أيضا.
وبقراءة بعض الكتب القديمة والحديثة والاستماع للعديد من محاضرات المتخصصين ، أكتب ملخصا بسيطا جدا لنفسي قبل القاريء ، من أجل تحصيل شيئا من المعرفة معا كما قلت والتزمت في أول حلقة في السلسلة ، مؤكدا أنني أكتب من مقعد المتعلم لا المعلم ، منتظرا في التعليقات علما وإفادة وتناصح أكثر بكثير مما سأكتب، أكرر هذا ملخص بسيط أتجنب فيه بعض التفاصيل لعدم التشتيت.
.
متى يكون الحديث صحيحا عند علماء الحديث؟
الحديث الصحيح عند علماء الحديث لابد أن يحقق خمسة شروط:
الأول: أن يكون متصل السند، أي لا يكون هناك أي انقطاع بين الرواة ، لا يجوز مثلا أن يروي معتز عبد الرحمن عن جده وقد مات جده قبل مولده أو وهو طفل صغير لا يميز ، ولا يجوز أن يروي مثلا عن شيخ كانت حياته كلها بين الهند والصين والجزيرة العربية ، في حين أن معتز حياته كلها كانت بين مصر وليبيا وتونس مثلا ، ولم يثبت أنهم ألتقيا قط.
.
الثاني: أن يكون الرواة عدول ، والراوي العدل يكون مسلما بالغا عاقلا غير فاسق ولا مخروم المروءة ، والإسلام والبلوغ والعقل مفهومون ، أما أن يكون غير فاسق فأن يكون من المعروفين بالصلاح والتقوى وعدم الوقوع في الكبائر والمجاهرة بالمعصية ، وبالطبع من أهم الأمور التي تسقط عنه هذا الوصف أن يكون كاذبا أو متهما بالكذب ، فلا يعد الراوي من رواة الأحاديث الصحيحة إن علم عنه ذلك أو ثبت عليه ذلك بالتحري في مروياته ، أما ألا يكون مخروم المروءة فهو لا يأتي الأمور العيب التي تنتقص من صاحبها وإن لم تكن حراما ، وهي أمور تعرف عرفا وتختلف من زمان لزمان ومكان لمكان ، وهي طاعنة في عدالة الرواي وإن لم تكن حراما صريحا لعظم المسئولية التي يؤديها الراوي في نقل المصدر الثاني للتشريع الإلهي وهو السنة النبوية.
.
الثالث: أن يكون الرواة ضابطين ، أي معروفين بشدة الحفظ إن كانوا يحدثون من الذاكرة والحفظ ، أو بحفظهم لكتبهم إن كانوا يحدثون من صحفهم ، والأول يسمى (ضبط صدر) والثاني يسمى (ضبط كتاب) ، وحفظ الراوي وضبطه يعرف بمقارنة مروياته دوما بمرويات أقرانه ، فكلما توافقت مروياته مع مرويات الثقات كلما ثبت له الضبط ، وبمقدار ما يزيد اختلافه عنهم وتفرده كلما قل ضبطه ، وأما ضبط الكتاب فمن علم عنه عدم المحافظة على كتبه وثبت أن غيره قد دس له في كتبه شيئا فحدث به قلت درجته في الضبط أو ترك حديثه تماما حسب مقدار الخطأ، وهذا أمر أهتم به المحدثون إلى حد تحديد تاريخ ضياع أو احتراق كتب بعض الرواة الذين يحدثون مما يكتبون وإسقاطهم لما رووا بعد هذه الواقعة لأنهم كانوا معروفين بحفظ الكتاب فقط مع ضعفهم في حفظ الصدر وما إلى ذلك، وهذا شرط به درجات ، فالراوي الثقة ليس بالضرورة أنه لا يخطيء ولكنه معدود الخطأ ، بخلاف كثير الخطأ ، واختلاف الدرجة في هذا الشرط هي التي ينبثق عنها الحديث الحسن ، فالحديث الحسن هو نفسه الحديث الصحيح ولكن إن خف ضبط أحد رواته ، ولكن دون أن يصل ضبطه إلى درجة الضعيف.
.
ولكن لا يزال السؤال قائما، هل معنى أن الحديث متصل السند وأن الرواة عدول وأنهم ضابطون ثقات في حفظهم أنهم لا يخطئون وأن أي حديث يصلنا منهم يكون بالضرورة صحيحا؟
هذا دور الشرطين الرابع والخامس اللذين لا يذكرهما الكثير من المتحدثين عمدا أو جهلا ، فالراوي الثقة الحافظ - كما قلنا - قليل الخطأ وليس عديم الخطأ ، فكيف يتم التغلب على هذا الاحتمال؟
.
الشرط الرابع: انتفاء الشذوذ: والشذوذ هو مخالفة الثقة للثقات .
فالحديث بعد تحقق الشروط الثلاثة الأولى يقارن بمرويات الثقات الآخرين لنفس الحديث فإن خالفها ولو في كلمة واحدة علم أن الراوي هنا أخطأ، والشذوذ قد يكون في السند أو يكون في المتن ، في السند أن يكون الثقات كلهم رووه عن شيخ معين وبتسلسل معين والثقة المتفرد رواه عن شيخ آخر أو بتسلسل مختلف ، وفي المتن أن يكون الرواة الثقات رووه بمتن معين ثم خالفهم هذا الثقة ولو في كلمة فضلا عن أن تكون جملة ،فهذا مما يثبت به خطأ الراوي الثقة ، لذلك فكثرة الأسانيد للحديث الواحد مصلحة عظيمة بعكس ما يرى قصيرو النظر الذين يعتبرون كثرة المرويات مدعاة للنسيان والخطأ و(اللخبطة) ولكن هذه (اللخبطة) تكون للجهلاء مثلي ومثلهم ، أما أهل التخصص فكثرة المرويات تساعدهم على اصطياد الخطأ ولو ورد عن ثقة ، بالضبط كما في رواية التاريخ ، كلما كثر شهوده والوثائق التي تقصه سهل استخلاص القصة الحقيقية والوقائع الحقيقية ، بخلاف أن تكون المصادر قليلة.
والشذوذ لا يثبت فقط بالعدد ، أي أن يخالف القليل الكثير ، بل يثبت مثلا بفرق درجة صحبة الراوي وملازمته للشيخ الرواي ، فالتلميذ الذي لازم الشيخ كثيرا وسمع منه الأحاديث مرارا توثيقه في الرواية عن هذا الشيخ أكبر من توثيق من لقى الشيخ لفترة وجيزة ، فيقدم طويل الصحبة على قصير الصحبة ، فمعتز قد يكون أوثق من مصطفى عندما يروي عن محمد لأن معتز شقيق محمد ولازمه فترة طويلة وسمع منه مرارا وقرأ عليه مرارا بينما لم يتوفر لمصطفى ذلك ، ومصطفى أوثق من معتز عندما يروي عن إبراهيم لأنه لازم إبراهيم سنوات في مجلسه والدراسة على يديه في حين أن معتز لم يجالس إبراهيم إلا مرات معدودة وارد أن يكون في إحداها مرهقا هو أو إبراهيم فسمع الحديث مرة خطأ فحفظه بخطئه.
الشرط الخامس مع أمثلة أكثر على الشرطين الرابع والخامس في الحلقة القادمة إن شاء الله حتى لا نطيل ..

* لا تنسى قراءة الحلقة الأولى والثانية من السلسلة فهي مترابطة.

* مصادر للاستزادة
1- الباعث الحثيث في شرح اختصار علوم الحديث. للإمام ابن كثير وشرح الشيخ أحمد شاكر.
2- تيسير مصطلح الحديث للدكتور محمود الطحان
3-نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر. للإمام ابن حجر العسقلاني ، بتحقيق وتعليق أ.د عبد الله بن ضيف الله الرحيلي.
4- الرسالة للإمام الشافعي ، تعليق وتحقيق الشيخ أحمد شاكر.
5- المنهج النقدي عند المحدثين وعلاقته بالمناهج النقدية التاريخية، عبد الرحمن بن نويفع فالح السلمي.



الأحد، 5 أبريل 2015

على هامش كتاب من مكة إلى لاس فيجاس

على هامش كتاب
من مكة إلى لاس فيجاس
--------
ربما لو لم أكن قد زرت مكة والمدينة مرارا ولله الحمد ، وربما لو لم أكن أفكر في أشياء كثيرة وفي هموم كثيرة يوحي بها اسم الكتاب ما قررت اقتناءه فور سماعي به ، وما أقتنيته فورا عندما رأيته.
أنهيت الكتاب في سويعات معدودة ، لأخرج منه برغبة عارمة في الكتابة تحت عدة عناوين.
----
الأول: الحج السياحي... الفاخر
فكل رحلات الحج غير التابعة لقرعة الحكومة في مصر تسمى حجا سياحيا .. ولكنها درجات متفاوتة للغاية ، لو سلمت لقلمي في هذه النقطة فلن أنتهي وليس هذا مقامه ، فأنا شاهد على هذا الحج من الداخل إذ رزقني الله الحج والحمد لله منذ عامين ، والأمثلة والنقاط عندي عديدة ومتنوعة ومتشعبة ، ولكني فقط أريد أن أشير إلى الجانب الذي قد يكون متعلقا بالكتاب وهو مسألة مدى تناسب الرفاهية مع نسك الحج وأهدافه الشرعية ، إنني أريد أن أفرق بين التماس شيء من الراحة والسلاسة في أداء المناسك وبين الإفراط فيها إلى حد التجاوز ، أو بصيغة أخرى ، فالتماس روح الحج وثوابه لا يعني الضرورة تكلف المشقة وتعمدها ، وأحسب أن الحرص على التماس قدر من الراحة في أمور قد تشغل المشقة الحاج فيها بشكل كبير عن نسكه قد يكون مندوبا إن أحسن الحاج فيه النية ، وهذه النوع لن يتعدى الاهتمام بأن تكون الشركة مهتمة بالنظام ودقة المواعيد وتوفير حفظ الحقائب الثقيلة أثناء فترة الابتعاد عن مكة حتى لا تطحن عاتق الحاج في كل انتقالاته دون داع ، وتوفير الطعام (أي طعام)  ودورات المياه (المعقولة) في المخيمات لتخفيف العبء النفسي والجسدي على الحاج في هذه الأساسيات بشكل يجعله أكثر تركيزا وتأملا في مناسكه... فقط
لكن بالطبع هذه الأشياء ليست هي المعنية عادة بالحج السياحي .. الفاخر ، وقدرا وأنا اقرأ الكتاب وقع أمامي  إعلانا مرئيا لشركة حج كبرى ، لم يكن مفاجئا لي ما عرض به من وسائل الراحة والرفاهية والطعام الشهي فأنا كنت في نفس مخيمهم (نفس المطوف) وإن كانت تكلفة شركتي تقريبا قد تقترب من نصف تكلفتهم ، وكون المطوف واحدا يجعل الفرق في الراحة مقصورا داخل الخيم المعدة للنوم في كماليات الطعام وما شابه ولكن سائر الخدمات المشتركة متقاربة جدا أو واحدة تقريبا كدورات المياه وشمسيات مخيم عرفة وكراسيه المريحة .. باستفزاز .. لم يفاجئني ما وجد في الإعلان من حيث كونه موجودا ولكن فاجأني من حيث كونه مطروحا في الإعلان كأحد أهم عناصر الجذب للرحلة ، شيخ مشهور يعظ ويبكي ثم مشاهد البوفيه المفتوح ، شيخ آخر يعظ ويبكي ثم مشاهد الحلوى والكماليات ، وهكذا ، ومنذ فترة وقع أمامي أيضا إعلان عمرة لشركة كبرى أيضا علمت منه لأول مرة أن هناك فرق كبير في السعر ليس بين الغرفة المطلة على الحرم وغير المطلة وحسب ، بل بين الحجرة المطلة على الحرم والغرفة المطلة على الكعبة ، فليست كل غرفة مطلة على الحرم ترى الكعبة ، سعرهما مختلف عن بعضهما وبالطبع عن تلك التي لا تطل على الحرم، وغير ذلك ، فالكلام على هذه النقطة نحتاج دوما أن يكون بحرص ، فإن كانت البلوى عامة في كون الحج السياحي الفاخر لا يخاطب تلك الاحتياجات والراحة المستحبة التي ذكرتها ، ولكن تعميم الرفض لأي تفكير في وسائل التيسير قد لا يكون جيدا أيضا ، وربما يكون فيه شيء من التكلف والتشديد ، قابلت بعض أهله.
ورغم ما فات فاعلم أن أخطر ما في الحج السياحي الفاخر ليس كل تلك المظاهر الترفيهية المبالغ فيها التي تحول الحج لرحلة سياحية ترفيهية محضة إلى الحد أنه عندما يضطر بعض الحجاج لأسباب خارجة عن الشركة (الزحام وإغلاق الشوارع .. إلخ) أن يسيروا على أقدامهم ولو نصف كيلو - وهو رقم تافه جدا في رحلة كرحلة الحج - وبدون حقائب  يلعنون الشركة ومسئوليها ويذكرونهم أنهم (دافعين فلوس) ، إنما أخطر ما في الحج السياحي الفاخر هو الفتاوى السياحية الفاخرة ، اهتم الكاتب بالفتاوى التي تساعد على تدمير تراث مكة - وهذا سأناقشه لاحقا - فتذكرت تلك الفتاوى التي هي في الحقيقة المقابل الحقيقي للثمن المدفوع ، فالحج به حد أدنى من المشقة لن تلغيها كل مظاهر الترفيه ، ولكن الفتاوى وحدها هي القادرة على خفض مستوى هذا الحد الأدنى إلى أدنى المستويات ، وهي منتشرة جدا في الشركات السياحية الكبرى ، ولا تظن أنها مقصورة على الشيوخ المعروفين بالتساهل ، بل حتى من تعرف عنهم الصرامة والالتزام الشديد بالسنة ، تجدهم هناك أناسا آخرين ، فصاحب الفتوى الحقيقي هو صاحب المال والذي دعا هذا الشيخ دعوة مجانية لهذا الحج الفاخر ، كمجرد اسم جاذب للحجاج ، ولا ينبغي على الشيخ أن ينسى أو يتجاوز هذا الدور ، إلا ما رحم ربي، ولا داعي لذكر أسماء ، فأحد الخدمات المقابلة للمبلغ السخي هو ثلة من الرخص في غير موضعها مختومة بالموافقة الشفهية للشيخ المشهور ، الذي أحيانا يبيح الرخصة للفوج دون أداء دوره في مساعدة العوام لتمييز أحوالهم من يستحق الرخصة ومن لا يستحق ، ثم ينفرد عنهم بالأخذ بالعزيمة.. هيهات
----
الثاني: هل تعلمين يا أمي؟ لو خدروني في مول أبراج مكة أو مول أبراج البيت أو مول سيتي ستارز أو مول سان ستيفانو أو أي مول آخر في العالم العربي - وربما الغربي لأني لم أشهده - ثم استيقظت في مول آخر ، لن أنتبه أنني قد نقلت من مكاني فضلا عن أن أكون نقلت من المول فضلا عن أن أكون نقلت من البلد.
عبارة قلتها كثيرا لوالدتي وغيرها في العمرة وفي مصر ، وهذا ما أفرد له الكاتب الكثير والكثير ، وهو ما يستحق الملاحظة والغضب ، لا أعلم لاس فيجاس ولا أفهم في العمارة ولا أعلم تاريخ مكة العمراني وآثارها ، لكنني لا أحتاج كل هذا لأدرك منذ الزيارة الأولى هذه الغربة التي تنتابك فور الخروج من الحرم عندما تدخل مولا من المولات لتشتري طعاما أو حاجية من الحاجيات لتنسى تقريبا أين أنت ولماذا جئت ، ولولا محلات التمور وبعض المحرمين لربما نسيت تماما، إن الأنس الذي تشعر به وأنت تدخل مكة متأملا في بيوتها البسيطة ذات الدور الواحد والدورين يختفي في الدائرة المحيطة بالحرم ، ليبقى الشعور بالتغرب ويبقى سؤالا آخر ، لماذا لا يطال العمران والخدمات الرائعة أهل مكة البعيدين عن الحرم ، إن انتقل هذا العمران الفاخر بعيدا عن الحرم وظل محيط الحرم بسيطا متواضعا فهو جميل منطقي ، وإن عم هذا العمران الفاخر مكة كلها البعيد منها والقريب فهو منطقي كمدينة في بلد ثري وإن اختلفنا معه في الحفاظ على هوية مكة الإسلامية والعربية ، أما اختصاص محيط الحرم وإهمال سائر مكة فهو للأسف يؤيد الكثير من كلام الكاتب في كون الأمر تجاريا رأسماليا من الدرجة الأولى..
----
الثالث: كان لي منشور لا رغبة عندي في إعادته عن فتنة انتشار التصوير في الحرمين أثناء المناسك وتعارضها مع روح الحج والعمرة والعبادة، ولكن أقول لا يقف الزائر ظهره للكعبة وعينه على الساعة وهو يلتقط الصور وحسب ، بل أصبحت نسبة كبيرة من الصور تلتقط مع الساعة نفسها والأبراج والتوسعات لا الحرمين وإن إحتاج المصور للنوم على الأرض كي تدرك عدسته الساعة الشاهقة.
----
الرابع: أسئلة لا أجابة لها
ورغم أن كل ما فات يبدي أنني مؤيد للكاتب مطلقا ، ولكن أظن أنني لا أستطيع الوصول لهذه الدرجة بعد.
عندما أفكر في قضية كالتي يناقشها الكتاب أحب أن أخرج من الواقع الذي أدرك أبعاده لحد كبير وأدرك نوايا القائمين على تشكيله أيضا إلى حد كبير إن لم يكن إلى حد اليقين من وفرة الدلائل والشواهد ، لأنظر نظرة مجردة عبر طرح أسئلة مثالية..
إن الكاتب يقول أن زيادة الطاقة الاستيعابية للحرمين ومحيطهما حجة من حجج آل سعود وكبار المستثمرين (كمجموعة بن لادن) لتمرير المشاريع الرأسمالية المربحة ليس أكثر ، وهذا واضح من الأسلوب الذي يتم التعامل به مع قضية التوسعات وبناء الأبراج ، بل ومن خلال العبارات الصريحة المذكورة في كتيباتهم الدعائية و التي استشهد الكاتب بها مرارا  بشكل لا يدع مجالا للشك أن زيادة الطاقة الاستيعابية على حساب قداسة وهوية المدينة أهدافه استثمارية محضة وليس خدمة للحجاج والمعتمرين ويوصي الكاتب في نهاية الكتاب بهدم تلك الاعتداءات لننقذ شيئا من هوية المدينة الآخذ في الاختفاء ، هذا أفهمه بشدة في شأن الأبراج والفنادق التي ستزيد الطاقة الاستيعابية للأثرياء دون غيرهم وليس لزوار بيت الله الحرام في المجمل ، لكن ماذا لو أردنا التوسع في بناء مساكن متواضعة عادية لاستيعاب عدد أكبر من الحجاج والمعتمرين من الفقراء والبسطاء ، وماذا عن الاحتياج لتوسعة المصلى ، وماذا عن الاحتياج لتيسير انتقال الحافلات ووسائل المواصلات المختلفة الكثيرة جدا وقت الحج خاصة ، كيف سيتم ذلك أيضا دون احتياج للتوسع في البناء وتسوية شيء من الجبال والتلال وحفر الأنفاق وهي أشياء عدها الكاتب كلها من وسائل طمس هوية مكة وتدميرها وليس فقط بناء الأبراج وهدم المنشآت الأثرية ، التي لا أدري أيضا هل من الممكن - إذا ضاقت السبل- أن نضحي بتوسعة ضرورية لا رأسمالية إذا كان الثمن هو هدم مبنى او مبنيين من آثار الخلافة العثمانية أو غيرها ؟ هل علينا رغم الزيادة المطردة في أعداد المسلمين في العالم أن نبقي الحد الأقصى للحجاج ثابتا مع مرور العقود والقرون من أجل الحفاظ على كل شيء حتى الجبال والهضاب وقلعة ومبان لم تكن هي نفسها موجودة قبل خمسة قرون من أصل أربعة عشر قرنا؟ سؤال أسأله بصدق وتجرد، ولا أستطيع إجابته لبعدي عن التخصصين .. العمارة والفقه.
إن إجابة هذه الأسئلة - إن كانت موجودة - لا يكفي أن تبقى محصورة في نقاشات وكتابات المعماريين والفقهاء المتخصصة ، بل ينبغي نشرها لتكون رأيا عاما ووعيا عند الجماهير، لا يكفي أن نستمر في الصراخ (انقذوا مكة انقذوا مكة) ، فحجة زيادة الطاقة الاستيعابية التي يطلقها النظام السعودي قوية عند العوام الذين يتمنون أن تصل سعة الحرم إلى نصف مليار حاج ليحجوا إليه عاما بعد عام إن استطاعوا ، وهؤلاء لا يكفيهم وربما لا يعنيهم ما هي أهداف آل سعود في من زيادة الطاقة الاستيعابية طالما أنها في النهاية .. ستزيد.. إذن فهناك فرق بين نقد أسلوب التوسعة ، وبين نقد فكرة التوسعة ، هذا الفارق يذوب عند الناس عندما لا توجد بدائل واضحة مفهومة للأسلوب المتبع حاليا يستوعبها غير المتخصصين ويكتشفون باستيعابهم لها زيف ما يطرح عليهم.
----
الخامس: عن الفتاوى
ضربت بنفسي مثالا عاليا في مسألة خدمة الفتوى لرأس المال ، وإن كان الشيخ المشهور يقبل للأسف أن يخدم بفتواه صاحب رأس مال ضئيل نسبيا كصاحب شركة سياحة فما بالنا بأصحاب هذه التريليونات التي تطرح في مشروعات التوسعة والأبراج ، لا سيما مع كونها ظاهرا خادمة للحرمين. ولكن ..
لا ينبغي أن يتم التسوية بين كل الفتاوى وإن كان مآلها واحد وهو تمرير المشروعات الحالية، ويمكن تمييز ذلك بسهولة من خلال الحيثيات ومن خلال التناقضات ، فمثلا لا يمكن أن يتم التسوية بين فتوى بأعمال هدم تمت في العشرينات من منطلق شرعي - تتفق أو تختلف معه ليست هذه القضية الآن - وبين فتوى بأعمال هدم الآن ، حتى لو أردت مهاجمة كلا الفتوتين فلا يمكن أن يتم ذلك في سياق واحد وبحيثيات واحدة ، وأنا هنا لا أخاطب الكاتب بالضرورة ولكن الجميع وأنا منهم ، فالكتاب ذكرني بالمسألة ليس أكثر ، وكذلك التعليقات عليه على موقع الـ goodreads، إن كانت الفتوى شرعية فعلا ولو في مذهب صاحبها فالتعامل معها يختلف عن الفتوى المفصلة بشكل كامل لأصحاب المصلحة ، وتبيين خطأها والتحريض ضد فكرتها لا يصح أن يستعمل فيه موضوع (لاس فيجاسية مكة) في كل الأحوال ، أما إن كان - عبر دلائل وكشف تناقضات موحية - الأمر مصلحي بحت فحينها مفهوم جدا أن يستعمل هذا الأمر في الرد والتبيين ، فلا ينبغي خلط الحابل بالنابل والفتوى ذات الأصل الشرعي المعتبر والمحترم بالفتوى المفصلة على المقاس، فلا يمكن التسوية بين فتاوى جاءت في توقيت ربما بلغ فيه تعظيم الأحجار والقبور حد الشرك فعلا ، وبين فتاوى انتقائية تستند لنفس المسألة في واقع مغاير.
----
السادس: القداسة وعصبية الجاهلية
إن كان العنصر الرئيسي جدا الذي يدور حوله الكتاب ويدور حوله أي طرح يناقش نفس الموضوع هو قداسة مكة في الإسلام ، وتسبب تلك التوسعات الرأسمالية في اختفاء الذوبان والمساواة بين المسلمين على اختلاف أجناسهم وبلدانهم ومستوياتهم المادية والتعليمية والتي هي من أهداف الحج الظاهرة، فإن العمل في هذا الإطار ينبغي أن يكون أمميا لا "وطنيا" ، لا أن تعتني تركيا بالآثار العثمانية في مكة باعتبار أنها من تراث تركيا ، وهو المثال المذكور في الكتاب ، ثم تعتني أي دولة أخرى لها آثار تمثل فترة من فترات تاريخها في مكة دون أن تهتم تركيا حينها مثلا وما إلى ذلك ، إن كان هناك شيء في مكة لا تستشعر الأمة كلها أو جلها أنه ملك لها جميعا وجزء من تراث الإسلام لا مجرد جزء من تراث عرق مسلم تولى السلطة في وقت ما فإنه لا ينبغي أن يعامل "بشكل مطلق" كجزء من قداسة مكة ومكانتها الإسلامية ، لقد لمحت تلك النقطة في بداية الحديث عن هدم قلعة أجياد التي للأسف لم أسمع بها من قبل فقد كانت زيارة مكة الأولى بعد هدمها بنحو عشر سنوات ، وأحزنتني صورتها الجميلة وتمنيت لو رأيتها ودخلتها ، لمحت تلك النقطة في البداية ثم استبشعت الأمر جدا عندما وصف وزير خارجية تركيا المحتج هدم القلعة  بأنه كهدم أصنام بوذا على أيدي طالبان!! إذا كانت تلك القلعة أو ذاك الأثر لا يهم سوى فئة واحدة من المسلمين هم الأتراك ، ثم أنها تمثل عند ممثلهم تماثيل بوذا التاريخية للعرق الأفغاني فإنه لا يمكن التعامل معها كالتعامل مع المسجد الحرام أو بئر زمزم أو حتى بيت السيدة خديجة أو موضع ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يدري ، هل رأى أهل مكة منذ خمسة قرون أن بناء قلعة أجياد على التل المجاور للحرم اعتداء على الحرم مثلا وتغييرا لهويته؟ أقصد نحتاج لميزان الذهب حتى نفصل بين المقدس الحقيقي والأمر المتغير الذي قام في زمن ما للقيام بدور ما ، نحتاج ميزان الذهب لنزن هل مصلحة المسلمين الأكبر في استمراره أم استبداله ، في حالتنا الحالية تم استبداله بشيء فظيع اتفق مع الكاتب في كل ما قاله عنه تقريبا ، ولكن كما قلت سابقا ماذا لو أحتاج المعماري المسلم الحصيف الذي يعمل على الجمع بين مصلحة الحجيج وبين حفظ قداسة المكان إلى إزالة شيء كهذا؟ وهل يدخل في موازناته كون هذا الشيء يهم المسلمين عامة أو بعضهم خاصة؟ يمكن إضافة هذا السؤال للأسئلة التي لا أعرف إجاباتها عاليا .
----
السابع: الكتاب رائع
ومفيد على المستوى العام (التثقيف المعماري لغير المتخصصين) ، ومفيد في موضوعه الذي يستحق الإثارة والاهتمام جدا ، ينبغي - بشكل عام - إخراج البيت الحرام من كونه تابعا للنظام الحاكم أيا كان عثمانيا أو سعوديا (ربما لو حكم الأتراك ثانيا هدموا تراث آل سعود وشهدنا جدلا عكسيا) ، بل أنا أؤمن أن الإمامة والخطابة فيه ينبغي ألا تحكم بالجنسية السعودية ، ولكن بالطبع هذا أقرب للأحلام ، ولكن عموما ينبغي أن نعمل من أجل هذه الأممية ، وهذا الكتاب مفيد جدا في هذا الباب ، ويعطي للمسلمين في بقاع الأرض طرف خيط هام جدا للاهتمام ببقاعهم المقدسة والحرص عليها والاهتمام لا بأخبارها ولكن بتفاصيل أخبارها والتعبد إلى الله بحمل همها وحفظها من الغزو الفكري والثقافي قبل الغزو العسكري، وفي رأيي أن هذه المعركة يجب أن تشمل الحديث عن عمارة كل بلاد المسلمين وليس مكة والمدينة فقط ، ينبغي ان نخوض معركة الهوية في كل البلاد المسلمة فحفاظ الدول المسلمة على هويتها في كل شيء بما فيها العمارة بمثابة حصون تقف أمام انتهاك هوية الأراضي المقدسة ، أما أن يعيش المسلمين الاغتراب في كل بلدانهم ويتعايشوا معه  فهذا يسهل - بل سهل فعليا - اقتحام الاغتراب لآخر حصن من حصون هويتهم ..وهو مكة ذاتها.

جزا الله الكاتب خيرا ووفقه وتقبل منه.