الاثنين، 13 أبريل 2015

هل ينسى الراوي؟ (2)


توقفنا في نهاية الحلقة السابقة عند الشرط الرابع من شروط الحديث الصحيح وهو (انتفاء الشذوذ) ، وبينت شيئا من معانيه ببساطة ، والآن نذكر مثالا عليه لتوضيحه أكثر ثم نكمل.
عن {هَمَّامٌ} حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ( كُلُّ غُلاَمٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَ"يُدَمَّى"(.
عَنْ {سَعِيدٍ بن أبي عَروبَة} أَنْبَأَنَا قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ) كُلُّ غُلاَمٍ رَهِينٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَ"يُسَمَّى" (
{همام} روى الحديث بلفظ (يدمّى)
{سعيد بن أبي عروبة} روى الحديث بلفظ (يسمّى)
حديث همام هو الشاذ ، لأن سعيد ثقة ومن أثبت أصحاب قتادة ، أما همام فليس من الطبقة الأولى في أصحاب قتادة وثبتت له أخطاء في الرواية عنه وإن كان ثقة، فقدمت رواية سعيد على رواية همام وحكم على رواية همام بالشذوذ ولم تحقق شروط الصحة رغم اتصال السند وعدالة وضبط الرواة ، ولعل هذا اللفظ الشاذ - والله أعلم - سر الموروث الثقافي الذي يلتزم به البعض بوضع دم العقيقة على رأسه المولود وجسده.
.
الشرط الخامس: انتفاء العلة
والمقصود بالعلة وجود سبب غامض خفي يقدح في صحة الحديث، فانتفاء أحد الشروط الثلاثة الأولى (انقطاع السند أو وجود راوي غير عدل أو غير ضابط) يعتبر علة ظاهرة ، ولكن التدقيق في الحديث لا يقف عند هذا الحد فيبحث فيما وراء ذلك، كما الحال في الشرط الرابع.
مثال على وجود علة خفية قادحة.
الترمذي / حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي عن الأعمش عن أنس: قال كان النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض)
هذا السند متصل ظاهرا ، بجانب أن رواته عدول ضابطون ، العلة الخفية أن الأعمش عاصر أنس ورآه (اتصال ظاهر) ولكنه لم يسمع من أحاديث قط ، هذه علة "خفية" تجعل هذا السند منقطعا وبالتالي ضعيفا.
ولكن متن الحديث صحيح لأنه جاء بسند آخر متصلا محققا الشروط الخمسة، وهذه ملحوظة مهمة أن ضعف سند معين لمتن لا يعني بالضرورة ضعف المتن لاحتمالية وروده بأسانيد أخرى صحيحة.
.
فوائد مهمة:
1- إن كان تحقيق الأحاديث في المجمل عمل يحتاج لعلم ومهارة ودقة ، ولكن بلا شك أن التحقق من الشروط الثلاثة الأولى أسهل بكثير من الشرطين الرابع والخامس ، فالشروط الثلاثة الأولى يمكن تحقيقهما بالاطلاع على سيرة راو راو وأن بينهما اتصال ، وعلى تصنيف راو راو في كتب الرجال لمعرفة أحوالهم من حيث العدالة والضبط ، أما الرابع والخامس فيحتاجان إلماما كبيرا جدا بالسنة وبالطرق المختلفة للحديث الواحد، ومعرفة درجات الرواة الثقات في المجمل وعدم الاكتفاء بمعرفة كونهم ثقات وحسب ، ثم معرفة من أوثق من غيره في الرواية عن شيخ معين ، وقد ألفت كتب كاملة في علم علل الحديث لأهميته ودقته ، كل ذلك من أجل القول بأن حديث كذا صحيح ، وحديث كذا غير صحيح ، ولذلك لم يبرع في دراسة وتطبيق هذين الشرطين إلا الأئمة المتميزون المتبحرون في علوم الحديث وعلى رأسهم البخاري ومسلم وهذا من أسباب تميزهما ومكانتهما بين العلماء بشهادة العلماء من معاصريهم والأجيال اللاحقة.

2- الحديث الذي يحقق الشروط الثلاثة الأولى يسمى (صحيح الإسناد) ، أما (الحديث الصحيح) فلابد أن يحقق الشروط الخمسة ، وهذه ملحوظة تجدها في المواقع والبرامج الألكترونية التي تستخدم للبحث عن الأحاديث ، تجد مثلا في موقع الدرر السنية الشهير في البحث المتقدم اختيارات (أحاديث حكم  المحدثون عليها بالصحة) أو (أحاديث حكم المحدثون على أسانيدها بالصحة) والفرق كبير كما تبين ، فالأول يعني تحقق الشروط الخمسة عند مصنف الكتاب الذي ستجد فيه الحديث ، أما الثاني فيعني تحقق ثلاثة فقط ولا يعني بالضرورة تحقق الشرطين الرابع والخامس.

وفي نهاية هذه الحلقة أقول ، إن الشرح المبسط المختصر جدا لهذه الشروط يلقي الضوء فقط على شيء من الجهود والاشتراطات التي تحمي جناب الحديث من خطأ الراوي الثقة ونسيانه ، لكن جهود المحدثين لا تقف عند هذا الحد، وتحقيقهم لهذه الشروط ليس بهذه البساطة الظاهرة في الطرح ، والسلسلة مستمرة إن شاء الله لنتعرف أكثر وأكثر - سويا - ونوسع معرفتنا وثقافتنا - أيضا سويا - والله المستعان
.
 .........................................
* لا تنسى قراءة الحلقات السابقة من السلسلة فهي مترابطة.
* مصادر للاستزادة
1- الباعث الحثيث في شرح اختصار علوم الحديث. للإمام ابن كثير وشرح الشيخ أحمد شاكر.
2- تيسير مصطلح الحديث للدكتور محمود الطحان
3-نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر. للإمام ابن حجر العسقلاني ، بتحقيق وتعليق أ.د عبد الله بن ضيف الله الرحيلي.
4- الرسالة للإمام الشافعي ، تعليق وتحقيق الشيخ أحمد شاكر.
5- المنهج النقدي عند المحدثين وعلاقته بالمناهج النقدية التاريخية، عبد الرحمن بن نويفع فالح السلمي.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق