الجمعة، 10 أبريل 2015

هل ينسى الراوي؟ (1)


.سؤال مشروع جدا .. بل واجب
ولا تتعامل معه كأنه وساوس الشيطان وترفض التفكير فيه ، ولا تتعامل مع من يسأله على أنه مفتون بالضرورة وتكتفي بزجره.
المشكلة الحقيقية أن يطرح السؤال بأسلوب تقريري كوميدي .. هل ينسى الراوي ؟ .. وهل هناك إنسان لا ينسى .. إذن لا نأخذ السنة .. (يا سلام) .. أو نخضع قبولها وردها لميزان آخر أكثر عشوائية وتغيرا من ميزان التذكر والنسيان وهو ميزان عقل كل فرد وذوقه ورؤيته التي لا تكاد تتطابق بين فرد وآخر.
إن نسيان الراوي يمثل 50% من دواعي قيام علم الحديث أصلا ، بجانب ال50% الأخرى والتي تمثل كذب الراوي.
فهلا سألنا وبحثنا - إنصافا - عن الأدوات التي استخدمها المحدثون لتقصي ومعالجة ومواجهة هاتين الصفتين البشريتين وانقاذ السنة من آثارهما السيئة؟ قبل أن نلقي الاتهامات بهذه السطحية واللاموضوعية المثيرة للضحك والشفقة والغضب على سواء.
كمسلم عادي ، عامي للغاية سألت نفسي هذا السؤال كثيرا ، وكنت اسأله بفطرتي لا مدفوعا من برنامج هذا ومقال ذاك ، فلأن النسيان فطري ولأن الكذب وارد جدا على البشر يصبح هذا السؤال فطريا بالضرورة ، وبالضرورة يصبح العمل من أجل معالجتهما فطريا أيضا.
وبقراءة بعض الكتب القديمة والحديثة والاستماع للعديد من محاضرات المتخصصين ، أكتب ملخصا بسيطا جدا لنفسي قبل القاريء ، من أجل تحصيل شيئا من المعرفة معا كما قلت والتزمت في أول حلقة في السلسلة ، مؤكدا أنني أكتب من مقعد المتعلم لا المعلم ، منتظرا في التعليقات علما وإفادة وتناصح أكثر بكثير مما سأكتب، أكرر هذا ملخص بسيط أتجنب فيه بعض التفاصيل لعدم التشتيت.
.
متى يكون الحديث صحيحا عند علماء الحديث؟
الحديث الصحيح عند علماء الحديث لابد أن يحقق خمسة شروط:
الأول: أن يكون متصل السند، أي لا يكون هناك أي انقطاع بين الرواة ، لا يجوز مثلا أن يروي معتز عبد الرحمن عن جده وقد مات جده قبل مولده أو وهو طفل صغير لا يميز ، ولا يجوز أن يروي مثلا عن شيخ كانت حياته كلها بين الهند والصين والجزيرة العربية ، في حين أن معتز حياته كلها كانت بين مصر وليبيا وتونس مثلا ، ولم يثبت أنهم ألتقيا قط.
.
الثاني: أن يكون الرواة عدول ، والراوي العدل يكون مسلما بالغا عاقلا غير فاسق ولا مخروم المروءة ، والإسلام والبلوغ والعقل مفهومون ، أما أن يكون غير فاسق فأن يكون من المعروفين بالصلاح والتقوى وعدم الوقوع في الكبائر والمجاهرة بالمعصية ، وبالطبع من أهم الأمور التي تسقط عنه هذا الوصف أن يكون كاذبا أو متهما بالكذب ، فلا يعد الراوي من رواة الأحاديث الصحيحة إن علم عنه ذلك أو ثبت عليه ذلك بالتحري في مروياته ، أما ألا يكون مخروم المروءة فهو لا يأتي الأمور العيب التي تنتقص من صاحبها وإن لم تكن حراما ، وهي أمور تعرف عرفا وتختلف من زمان لزمان ومكان لمكان ، وهي طاعنة في عدالة الرواي وإن لم تكن حراما صريحا لعظم المسئولية التي يؤديها الراوي في نقل المصدر الثاني للتشريع الإلهي وهو السنة النبوية.
.
الثالث: أن يكون الرواة ضابطين ، أي معروفين بشدة الحفظ إن كانوا يحدثون من الذاكرة والحفظ ، أو بحفظهم لكتبهم إن كانوا يحدثون من صحفهم ، والأول يسمى (ضبط صدر) والثاني يسمى (ضبط كتاب) ، وحفظ الراوي وضبطه يعرف بمقارنة مروياته دوما بمرويات أقرانه ، فكلما توافقت مروياته مع مرويات الثقات كلما ثبت له الضبط ، وبمقدار ما يزيد اختلافه عنهم وتفرده كلما قل ضبطه ، وأما ضبط الكتاب فمن علم عنه عدم المحافظة على كتبه وثبت أن غيره قد دس له في كتبه شيئا فحدث به قلت درجته في الضبط أو ترك حديثه تماما حسب مقدار الخطأ، وهذا أمر أهتم به المحدثون إلى حد تحديد تاريخ ضياع أو احتراق كتب بعض الرواة الذين يحدثون مما يكتبون وإسقاطهم لما رووا بعد هذه الواقعة لأنهم كانوا معروفين بحفظ الكتاب فقط مع ضعفهم في حفظ الصدر وما إلى ذلك، وهذا شرط به درجات ، فالراوي الثقة ليس بالضرورة أنه لا يخطيء ولكنه معدود الخطأ ، بخلاف كثير الخطأ ، واختلاف الدرجة في هذا الشرط هي التي ينبثق عنها الحديث الحسن ، فالحديث الحسن هو نفسه الحديث الصحيح ولكن إن خف ضبط أحد رواته ، ولكن دون أن يصل ضبطه إلى درجة الضعيف.
.
ولكن لا يزال السؤال قائما، هل معنى أن الحديث متصل السند وأن الرواة عدول وأنهم ضابطون ثقات في حفظهم أنهم لا يخطئون وأن أي حديث يصلنا منهم يكون بالضرورة صحيحا؟
هذا دور الشرطين الرابع والخامس اللذين لا يذكرهما الكثير من المتحدثين عمدا أو جهلا ، فالراوي الثقة الحافظ - كما قلنا - قليل الخطأ وليس عديم الخطأ ، فكيف يتم التغلب على هذا الاحتمال؟
.
الشرط الرابع: انتفاء الشذوذ: والشذوذ هو مخالفة الثقة للثقات .
فالحديث بعد تحقق الشروط الثلاثة الأولى يقارن بمرويات الثقات الآخرين لنفس الحديث فإن خالفها ولو في كلمة واحدة علم أن الراوي هنا أخطأ، والشذوذ قد يكون في السند أو يكون في المتن ، في السند أن يكون الثقات كلهم رووه عن شيخ معين وبتسلسل معين والثقة المتفرد رواه عن شيخ آخر أو بتسلسل مختلف ، وفي المتن أن يكون الرواة الثقات رووه بمتن معين ثم خالفهم هذا الثقة ولو في كلمة فضلا عن أن تكون جملة ،فهذا مما يثبت به خطأ الراوي الثقة ، لذلك فكثرة الأسانيد للحديث الواحد مصلحة عظيمة بعكس ما يرى قصيرو النظر الذين يعتبرون كثرة المرويات مدعاة للنسيان والخطأ و(اللخبطة) ولكن هذه (اللخبطة) تكون للجهلاء مثلي ومثلهم ، أما أهل التخصص فكثرة المرويات تساعدهم على اصطياد الخطأ ولو ورد عن ثقة ، بالضبط كما في رواية التاريخ ، كلما كثر شهوده والوثائق التي تقصه سهل استخلاص القصة الحقيقية والوقائع الحقيقية ، بخلاف أن تكون المصادر قليلة.
والشذوذ لا يثبت فقط بالعدد ، أي أن يخالف القليل الكثير ، بل يثبت مثلا بفرق درجة صحبة الراوي وملازمته للشيخ الرواي ، فالتلميذ الذي لازم الشيخ كثيرا وسمع منه الأحاديث مرارا توثيقه في الرواية عن هذا الشيخ أكبر من توثيق من لقى الشيخ لفترة وجيزة ، فيقدم طويل الصحبة على قصير الصحبة ، فمعتز قد يكون أوثق من مصطفى عندما يروي عن محمد لأن معتز شقيق محمد ولازمه فترة طويلة وسمع منه مرارا وقرأ عليه مرارا بينما لم يتوفر لمصطفى ذلك ، ومصطفى أوثق من معتز عندما يروي عن إبراهيم لأنه لازم إبراهيم سنوات في مجلسه والدراسة على يديه في حين أن معتز لم يجالس إبراهيم إلا مرات معدودة وارد أن يكون في إحداها مرهقا هو أو إبراهيم فسمع الحديث مرة خطأ فحفظه بخطئه.
الشرط الخامس مع أمثلة أكثر على الشرطين الرابع والخامس في الحلقة القادمة إن شاء الله حتى لا نطيل ..

* لا تنسى قراءة الحلقة الأولى والثانية من السلسلة فهي مترابطة.

* مصادر للاستزادة
1- الباعث الحثيث في شرح اختصار علوم الحديث. للإمام ابن كثير وشرح الشيخ أحمد شاكر.
2- تيسير مصطلح الحديث للدكتور محمود الطحان
3-نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر. للإمام ابن حجر العسقلاني ، بتحقيق وتعليق أ.د عبد الله بن ضيف الله الرحيلي.
4- الرسالة للإمام الشافعي ، تعليق وتحقيق الشيخ أحمد شاكر.
5- المنهج النقدي عند المحدثين وعلاقته بالمناهج النقدية التاريخية، عبد الرحمن بن نويفع فالح السلمي.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق