الخميس، 14 نوفمبر 2019

رحلة في قلب (وحشي)

كثيرا ما أفكر في الحالة النفسية التي مر بها (وحشي بن حرب) رضي الله عنه بين إسلامه وقتله مسيلمة.
في يوم لقائه بالنبي صلى الله عليه وسلم وإعلان إسلامه ينجو بإسلامه من الكفر والقتل والثأر المتوقع لحمزة بعدما كان يشعر بالمطاردة، استقرار إيماني بعد ضلال وتخبط، واستقرار دنيوي بعد خوف
لكنه نفس اليوم الذي يطلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقص عليه تفاصيل قتل حمزة الموجعة، والتي كان يوما ما يقصها على سبيل الفخر، اليوم يقصها غارقا في بحر الخجل
إنه يوم علم فيه أن الله قد غفر له ما تقدم من كفر وذنب وقتل لحمزة بن عبد المطلب غدرا، وهو أيضا يوم قال له فيه خير الخلق صلى الله عليه وسلم (فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي؟)
يا الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفذ أمر الكريم تبارك وتعالى أن الإسلام يجب ما قبله، عفا وتجاوز، وكان إسلام وحشي أحب إليه من الثأر منه، ولكنه بشر، وفي آلام القلب ما لا يملك ولا يحتمل، تقبلك الله يا وحشي مسلما، رزقك الله يا وحشي الجنة، ولكن قلب ابن الأخ المحب والصديق والأخ في الرضاعة لا يزال موجوعا، سيتذكر كلما رآك مشهد جسد العم والصديق والأخ الممزق، فالطف بقلب النبي صلى الله عليه وسلم يا وحشي، وغيّب عنه وجهك في الدنيا، صبرك الله على هذا الحرمان في الدنيا، وطيب قلب حبيبه صلى الله عليه وسلم وداوى أحزانه.
اهدأ يا وحشي، قد نجوت من القتل والكفر وذنب حمزة، ولكن النجاة وحدها لا تذيب تلك الغصة، ولا أدري أي غصة غلبت عليك، غصة قتل حمزة، أم غصة عدم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسته فيما بقي من عمره أو عمرك، وأظن كليهما قد اجتمعا عليك.
لعله ظل مضطربا كمن يشعر بأن هناك ما يجب عليه فعله كي يرتاح، ولكن لا يدري ما هو!، ما أصعب أن تتمنى شيئا ولا تدري أصلا كيف تحققه، شعور أنك عاجز عن القيام بالتكليف لأن التكليف نفسه مجهول، ألم غير معلوم العلاج، ولا تفيده المسكنات.
العين تبحث ولا ترى، والعقل يفكر ولا يصل، حتى أضاءت الفكرة في القلب الظمآن، وجاءت الفرصة، وتحدد الهدف أخيرا.
فاللهم أذهب غصة قتل سيد الشهداء، بقتل أكذب الكاذبين.
وأذهب غصة الغياب عن وجه الصادق الأمين، بتغييب وجه الكاذب البغيض عن العالمين
لقد أصبح صدر مسليمة في عقل وحشي كبئر عذبة، وحربته هي ذلك الدلو الذي يجذب به الماء من البئر ليدفع غطشا يمزق حلقه، البئر بعيدة هناك وسط كل هذه الأعداد الغفيرة، والقتال المرير، وداخل الحصن المنيع، تبدو من كثرة العوائق كأنها وهم وسراب، لكن كل هذا ذاب أمام آلام القلب والاشتياق إلى الراحة، وذاب قبل هذا أمام صدق النية وحسن التوكل، مضى وسط السيوف والرماح، عابرا الأسوار والبوابات، سار وتقدم وسط جثث الشهداء وجثث الكفار، حتى وصل إلى قلب الدار، ووصلت حربته إلى صدر الحرباء، أدلى دلوه مشتاقا إلى الماء، ويا بشرى جاء العزاء.
لعل ضجيجا في القلب قد هدأ أخيرا
وأصبح من الممكن استئناف الحياة مجاهدا في انتظار الأجل
حتى يلقى وجه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة بعد غياب، بل ، ووجه حمزة.
رضي الله عن حمزة ووحشي
وصلى الله على محمد، صلى الله عليه وسلم

السبت، 2 نوفمبر 2019

في مدرسة سورة الأعراف (أضواء على الأولياء والملأ)


Image result for ‫سورة الأعراف‬‎

من يتأمل في سورة الأعراف يجدها تلقي إضاءات كاشفة على موقع أولياء الإنسان والملأ المحيط به في خريطة الهداية والضلال وتأثيرهم الكبير على مسار حياته وآخرته، وبدا ذلك كموضوع أساسي في السورة الكريمة من بداياتها إلى نهاياتها، تتعدد صور التناول فيه كي يخرج من يقرأها بتدبر وقد استقر في وجدانه أهمية وخطورة هذا العنصر، وكيفية التعامل معه.
وإذا أردنا تناول هذا الموضوع تفصيلا سنحتاج لنسخ السورة كاملة تقريبا، ولكن فقط نشير لبعض الصور والدلالات الخاصة به في السورة بحسب ترتيب الآيات.

بدأت السورة بأمر إلهي صريح باتخاذ رب العالمين وما أنزله من دين كولي وحيد والتبرؤ من أي ولي آخر يخالف ويعادي دين الله تبارك وتعالى (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3))

وبعد هذا الاستفتاح الصريح المتبوع بذكر مآل من خالف هذا من الأقوام السابقة، جاء ذكر أول وأخطر ولي من أولياء السوء يمكن للإنسان أن يتخذه، وهو إبليس عليه لعنة الله، وقصته مع آدم عليه السلام وما أدى إليه تصديق آدم عليه السلام له ولقسمه ووعده له بالخلود، وذلك في الآيات من (11 إلى 26)، ليعقب رب العالمين عليها بعدما استقر استبشاع ذاك الولي الخبيث في القلب بعد سماع قصته مع أبي البشر (يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27))

ليضم معه كآفة شياطين الجن الذين هم على شاكلته كأسوأ أولياء يمكن للإنسان أن يتخذهم ويتبع وساوسهم.
لتضيف الآية التالية ولي سوء جديد  كم أضل من أمم (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28))، نعم ، إنهم الآباء والأجداد الفاسدون، الذين تكرر ذكرهم في القرآن عموما وسيتكرر في قصص الأنبياء في سورة الأعراف بعد ذلك.

ثم إذا ما أتت السورة إلى مشاهد الآخرة (بدء بالموت ثم أحداث القيامة ثم الاستقرار في المثوى الأخير) أيضا ركزت الضوء على نتائج وأثر اتخاذ الأولياء (فاسدين أو صالحين) في الدنيا
بدء من الموت ( ... حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37))

ثم النزاع بين أولياء الباطل، التابع والمتبوع بعد الحساب وعلى باب الخلود، (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39))

وفوز من اتخذوا رسل الله أولياء وتبرأوا ممن عادوهم وخالفوهم (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)).

حتى عندما وبخ أصحاب الأعراف من يعرفون من أهل النار كان على رأس حيثيات توبيخهم اغترارهم بجمعهم وملأهم وأوليائهم (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48))
ومن لم يوالي المؤمنين في الدنيا أنى له موالاتهم يوم القيامة! (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)).

وفي ذكر مآل من حادوا عن كتاب الله تعالى وهديه كان أول ما يتحسرون عليه انعدام (الشفعاء)، فمن والى غير الله لم ينفعه شفيع وعلم مدى خسران اختياره ووهن من اعتمد عليهم يوم القيامة (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)).

فإذا بدأت تلاوة آيات قصص الأنبياء في السورة ستجد لفظ (الملأ) حاضرا ومركزا في حوارات الأنبياء مع أقوامهم
في قصة نوح عليه السلام (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60))
في قصة هود عليه السلام (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66))
في قصة صالح عليه السلام (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75))

في قصة شعيب عليه السلام (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88))

ثم في قصة موسى عليه السلام مع فرعون، تجد حضور تأثير الملأ في قصة هذا الطاغية المدعي للألوهية، الذي من المفترض أن يؤثر فقط ولا يتأثر لأنه رأس في ضلاله، حتى أن عبارات وردت في سور أخرى على لسان فرعون تجدها هنا منسوبة للملأ أيضا دلالة على أنه إما استقاها منهم أو استقوها منه، فقد أضلوه وأضلهم عندما اتخذ كل منهم الآخر وليا من دون الله (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110))

بل تجدهم هم من يحرضونه على القتل ومحاربة الحق رغم أنه رمز في ذاته للكفر وسفك الدماء (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127))

لتستشعر وسط هذا الظلام بمدى نورانية وجلال شأن السحرة الذين كانوا جزء من هذا الملأ الأسود لزمن طويل، أولياء للباطل، ولكن ما أن فُتح لهم طريق للولاية الصائبة اندفعوا إليه غير عابئين بأي ثمن دنيوي، وكان أول ما علق عليه فرعون في شأنهم هو سقوط ولاءهم له ( قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123))، تعقيب عجيب من عقل طاغ، وكأنه لا يرى مشكلة إن آمنوا بموسى ولكن بإذنه، فيكون الولاء لله ولنبيه عليه السلام تابعا للولاء له هو، ولكن هيهات، إنه الإيمان إذا ما خالطت بشاشته القلوب (قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126))، الله تعالى أولا وأخيرا (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)).

ولم يكن (فرعون) وملأه آخر أمثلة الولي الضال المضل في سورة الأعراف، بل هناك مثالا ربما أخطر، فلا هو يملك سلطة وقوة، ولا هو مجموعة مكونة من عدد كبير يفتن، ولكن شخص واحد من عامة الناس استطاع أن يضل الكثيرين من أمة رأت المعجزات بعينها ونجت قريبا جدا من بحر منشق أمّن مرورهم ثم ابتلع عدوهم، إنه السامري، الذي أخذ من اتبعوه من التوحيد إلى الوثنية والكفر، وبعدما نجوا من الطاعة القسرية لملك متجبر تحولوا إلى عبيد طوعا لعجل ذهبي، بمجرد غياب أحد النبيين الكريمين عنهم لأيام!، فلا تستخف بشياطين الإنس وإن بدوا ضعفاء فإن منهم من يعي ثغرات من حوله، فهؤلاء الناجين طلبوا إلها صنما وأرجلهم لم تجف من ماء البحر، فردهم موسى عليه السلام بالموعظة وذكرهم أنهم قد اختاروا من لا يعدله شيء ولا أحد تبارك وتعالى فارتفع شأنهم بهذا الاختيار فلما يبحثون عن التدني من جديد! (قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140))، ثم جاءهم ذاك الشيطان البشري بما يريدون ويشتهون فوالوه وأقبلوا عليه، بل وحتى بعد نسف العجل ودرء الفتنة واختيار سبعين منهم للاعتذار والتوبة لم تكن فتنة المعبود المادي قد خرجت تماما من قلوبهم، ولم يكتمل ولاءهم لله تبارك وتعالى الذي أراهم كل ما رأوا وحلم عليهم كل هذا الحلم، فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الرجفة، ليتضرع نبي الله موسى إلى ربه طالبا العفو عن قومه مقرا بالولاء له وحده تبارك وتعالى (أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ...)

فيأتي جواب الرب الكريم تبارك وتعالى مخبرا عن سعة رحمته التي ينالها من ضبط مؤشر ولاءه واتباعه بحق وصدق، فاتبع رسل الله ولم يحد عن طريقهم (.... قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157))
وتمر السورة بقصة أصحاب السبت، وانقسامهم إلى ثلاثة أصناف من (الملأ)، الملأ الضال المتعاون على الإثم والعدوان، والملأ الصالح في نفسه والساعي لإصلاح غيره المتعاون على البر والتقوى، والملأ السلبي الذي لم يشارك أهل الباطل ولكن يخذل أهل الحق عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليذكر نجاة الملأ الصالح المصلح، وهلاك الملأ الضال، والله أعلم بحال الملأ السلبي المخذل.

ولا تنتهي السورة قبل ذكر نوع خطير وخفي من ولي السوء، فليس كل أولياء السوء خارجين عن الإنسان سواء من الجن أو الإنس، ولكن هناك ولي سوء يكمن في داخلك ولا نجاة لك إلا بالله أولا ثم بالانتباه له، ألا وهو الهوى وحب شهوات الدنيا (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176))

وكما تقدم في قصة العجل أن من عجائب البشر، ألا يكون ولي السوء وملأ السوء من الجن والإنس أو النفس فقط، ولكن أن يكون مخلوقا أدنى منك في الإدراك والقدرات، فكما أوهم السامري قومه بعبادة العجل، كان حال العرب كذلك في عبادة الأصنام، والولاء لها والحرب لأجلها وهي ليست فقط أعجز من أن تكون إلها ولكنها حتى أعجز من أن تكون بشرا مثلهم، فتخاطب الآيات عقولهم الغافلة لعلها تفيق (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)).
وبعدما عددت السورة كل تلك الصور، وفصلت وشرحت ووجهت، يعود آخرها لأولها ولكن بعد التوجيه والتفصيل يزداد الإدراك ويرتقي الشعور، فبعد مرورك بكل هذه الصور الدنيئة لأولياء السوء ومعرفة مصائرهم، يطير قلبك فرحا وراحة وفخرا وأنت تقرأ (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196))، الله أكبر.

وإذا وسوس لك إبليس، أول مذكور من أولياء السوء ليفسد عليك دينك وعملك، فعد إلى وليك جل في علاه يحميك (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201))
ولا تعبأ بجدل وعبث أولياء السوء من الإنس الذين لم يعتصموا بالله من وساوس الشياطين والتزم ما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم تجد فيه النور والبصيرة (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204))

واستعن على حفظ هذه الولاية بالعبادة والذكر والدعاء، واحترس من الغفلة حتى لا تسقط وتحيد عن الطريق (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205))
فإذا تركت كل هذه النماذج السيئة وجعلت ولاءك لله وحده ولدينه ونبيه صلى الله عليه وسلم والتزمت تلك الوصايا الغالية في الإيمان والعمل تشبهت بخير ملأ وأرقى ملأ كأنك منهم (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)).
فمن يترك ولاية الله تعالى لولاية غيره، ومن يتخلف عن ملأ الملائكة ليعبث مع ملأ الكافرين والفراعنة والملتفين على شرائع الله، ومن لا ينشرح صدره بإيمانه وكتابه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم بعدما مر بهذه الصور الهالكة وقارن بينها وبين حال أولياء الله تعالى في سلوك الدنيا ومآل الأخرة (المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)).



امرأة (هجرها) زوجها هي وأولادها


امرأة (هجرها) زوجها هي وأولادها
عبارة أصبحت معتادة جدا في السنوات الماضية، تأتي في افتتاحية منشور خيري لجمع مساهمات، أو في افتتاحية مقال عن امرأة مكافحة حققت نجاحا مع أولادها، أو في افتتاحية أحاديث عادية بين الناس تطرقوا خلالها لقصة امرأة معرفة هنا أو هناك، أحيانا في تقرير صحفي يتكلم عن نساء يعملن في مهنة شاقة غريبة وكل منهن تحكي بسلاسة سبب توجهها لهذه المهنة فتجد فيهم أم الأيتام، والمطلقة، ومن لم تتزوج، وزوجة المريض المقعد، وأيضا من (هجرها) زوجها هي وأولادها، ننشغل عادة بما بعد العبارة للتفكير في المساعدة أو التعاطف أو الثناء عليها، ولكن العبارة نفسها لا تزال تصدمني.

كانت قديما تمثل لي استثناء غريبا لن يخلو منه مجتمع بطبيعة الحال، فإذا كان الطبيعي أن يفارق الرجل المرأة بالطلاق لا بالاختفاء، فلابد أننا سنقابل ولو حالات نادرة لم يشغل الرجل نفسه حتى بأخذ قرار الطلاق، إذا كانت صراعات الأزواج والزوجات حال الفراق عادة سببها تمسكهما بضم الأولاد، فإن هناك من يطلق ولا يريد أولاده ولا يريد أن ينفق عليهم، وبالتالي قد نجد قلة أغرب يهجرون الأولاد حتى دون طلاق لأمهم، ولكن التكرار الشديد جعلني أشعر أن هذه الصورة الغريبة لم تعد مجرد استنثناء نادرا.

خواطر

1-      ليس كل الرجال على قدر مسئولية الزواج، كثير منهم عندما يدخل إلى التجربة يفاجأ بما لم يعد نفسه له، حقيقة مشاهدة، وتمثل نسبة لا بأس بها من أسباب الطلاق المبكر، وقبل أن تتهمني بالانحياز فالبنات كذلك لكن أنا أناقش حالة معينة، فلا تدفعني قسرا لأسرد كل أسباب الطلاق المبكر وفشل الزيجات فيتحول المقال لكتاب تحسبا لاتهاماتك، نعود ونقول نعم عدم تحمل المسئولية له دور في الطلاق المبكر، وهو أمر سوء، ولكن كيف يصل السوء ببعض الرجال لعدم تحمل مسئولية الطلاق حتى، كلمة تحرر بها المرأة على الأقل لتعيش حياتها، وأنت في كل الحالات ستنطلق في حياتك، فما المتعة في أن تختفي وحسب، يمكنك أن تكون معلوم المكان لها ولأولادك وأنت (نذل) عادي لا تنفق عليهم ولا تعبأ بتربيتهم، لكن اختفاء كامل! لماذا!، فلو أن الأمر قدرة مالية، فدائما هناك من هم أفقر منه ويستمرون مع أسرهم، ونجد الزوجة وهي تعمل وتكافح بعد اختفاء الأب قادرة على توفير الطعام على الأقل للأسرة، فليس الأمر مستحيلا، ولو أن الأمر انتقام من الزوجة فالطلاق كاف، ولكن لماذا الانتقام من الأولاد! وأتساءل في نفسي أحيانا عند سماع هذه الحالات عن العائلة، عائلة هذا الرجل الذين جاءوا معه عندما تقدم وحضروا زفافه وزاروه في بيته بعدها، عادة لا تجد لهم أي دور في المشهد الغريب، خاصة عندما تحدث بعض هذه الحالات في قرى صغيرة محدودة ومعروفة العائلات!، في هذه الفقرة أنا لا أقول معلومات ولا تحليلات، هذه فقرة التعجب وفقط، لأنني لازلت عاجزا عن التصور.
 -
2-      تتجلى صلابة الأمهات الفطرية في جل هذه الحالات في رعاية البيت والأولاد، غير عابئة بوضعها المعلق، تخرج من عباءة المرأة التي تريد لنفسها وترتدي فقط عباءة الأم التي تريد لأبنائها، تذوب في مصلحة أبنائها تماما وكأنها لم تخلق إلا بعد أن أنجبتهم بل وبعد أن هجرها أبوهم، وتسمع القصص الناجحة أو المؤسفة، تسمع عن الحالات التي تحكى إعجابا، أو تحكى إشفاقا طلبا لمساعدتها، ولكن الحياة تستمر في كل حال، وما يلفت نظري أن أكثر هؤلاء النساء لا يتحولن إلى (فيمنست) متطرفة عندما يتكلمن عن مشكلاتهن، تتكلم كامرأة سيئة الحظ أبتليت برجل غير مسئول، تذكر هذا في عبارة واحدة ثم تنطلق في مناقشة الواقع وتطلعات المستقبل الخاص بأسرتها، لا تقف لتنظّر وتعمم، فهي ترى بأعينها كم أن هذا الزوج استثنائيا وإن بدأ نموذجه في التكاثر مع الوقت، فلا يزال الرجال حولها في كل مكان يكافحون لأجل أسرهم وأولادهم، ويحملون الطين الذي حملته هي كبديل عن الغائب، وأكثرهن لو توفر لهن إمكانية العودة لبيتها في ظل رجل محترم كسائر الرجال المكافحين لاختارت هذا، ولا أدري لو جلست إحداهن تستمع إلى تجربة واحدة من فيمنست الفضائيات في الزواج المرفه جدا غالبا ثم أسباب طلاقها وكيف أن تجربتها الـ (ياكي) قد جعلتها تحمل لواء الهجوم على كل رجال الأرض والكفاح لأجل تطليق كل نساء الكوكب ما لم يتحول الزواج إلى كرسي بريموت أو إلى جني مصباح لا يملك من أمره شيئا، لو استمعت هذه الهضبة الصلبة لأسباب ودوافع علب المكياج الملونة ماذا ستقول! أظنها لن تفهم أصلا، فالعقل والاتزان النفسي تاج على رؤوس المنطقيين لا يراه الموتورون ولا تسقطه المشقة والمسئولية ولكن قد تزيده ثباتا ولمعانا.
 -
3-      أخيرا، لابد من اعتبار غرس المسئولية في رجال المستقبل أولوية قصوى، انتشر من فترة نعي فنان شاب لطليقته والذي طلقها مرتين على ما أذكر هروبا من المسئولية، وقد كان ينوي أن يعود يوما ما – حسب كلامه - عند تغلبه على هذه المشكلة، وكسر قلبه أنها توفيت قبل هذه العودة المأمولة، ولكن الحقيقة أن المسئولية لا تكتسب مع السن بسهولة، بل ربما العكس هو الذي يحدث، فاعتياد عدم المسئولية مع تقدم السن الذي تزيد معه الرغبة في الراحة يضعفان القدرة على تحملها، لابد أن تغرس غرسا في الصغر، جل أطفال المسلمين يحفظون جزء عم فمنهم من يكمل الحفظ بعده ومنهم من لا يكمل، لكن لو نهتم على الأقل بمعانيه معهم سيفيدهم هذا كثيرا، يكفي أن نتوقف معهم عند (لقد خلقنا الإنسان في كبد)، نعلمهم أن الفرق بين الإنسان المحترم وغير المحترم هو المسئولية، بل ربما هي الفرق بين الإنسان وغير الإنسان أصلا، فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي تحمل الأمانة، وهو - إن فقه غاية حياته - الوحيد القادر على تحملها، ولا يفقد قدرته على هذا التحمل إلا إذا أراد أن يعيش كمخلوق آخر غير البشر، مخلوق يأكل ويشرب وينام ويتكاثر، العقل والمسئولية وتحمل الأمانة هم مصدر التميز، وليس مجرد المشي على قدمين وارتداء الملابس، وإن كنت والله استحي من تعميم هذا على سائر المخلوقات الأخرى، وقد نشرت اليوم فيديو وخبر عن ذلك الحصان الذي عاد وسط النيران والحرائق وفرار الجميع منها ليأخذ عائلته أو يموت معهم، ولم يعد إلا بهم، لقد عجز بعض البشر على أن يكونوا مثل هذا الحصان، للأسف، إن الكافر الذي يعتني بأسرته فطرة ويهتم بهم ويسعى لأجلهم سمى القرآن الكريم سعيه هذا لعبا ولهوا لأنه لم يسع معه إلى الحق والآخرة، أهتم بغذاء أبنائه في الدنيا ثم حشر نفسه وإياهم إلى النار في الآخرة والعياذ بالله، وصف القرآن الكريم الكافر المكافح لأجل المادة بأنه أضل من الأنعام، فكيف بمسلم يترك حتى ما يفعله الكافر ببقايا فطرته! لا أفضّل الكافر عليه كما يفعل المتطرفون عكسيا، ولكن أدعوه للتفكر والنظر في أمر نفسه، خاصة أن هذا النموذج كثيرا ما يكون غير عابئ لا بمسئولية دنيا ولا دين!

السبت، 19 أكتوبر 2019

الهاربون من الزواج

في الجامعة لمحت عنوان محاضرة مسجلة بعنوان (رسالة إلى الأعزب) أو نحو هذا، توقعت أن تكون موجهة إلى الأعزب الذي لا يجد تكاليف الزواج لتحثه على الانتفاع بعزوبيته الإجبارية إلى أن يأتي الفرج، ولكن بعد خمس دقائق من بدايتها اكتشفت أنها لترغيب الشباب العازف عن الزواج بإرادته كي يتزوج، وذلك بذكر فضل الزواج في الإسلام و... لم أكمل، أغلقتها بالطبع إلى غير عودة، واستنكرت أن يكون هناك حاجة إليها أصلا، فمعضلة الشباب - في اعتقادي حينها - أنه لا يستطيع الباءة أصلا، فهل يستطيع أحد الزواج ولا يتزوج لدرجة أنه يحتاج إلى محاضرة مخصوصة لتحفيزه! كان هذا عجيبا حينها ولكنه ليس كذلك الآن.
إن عزوف بعض الشباب المقتدر عن الزواج يكاد أن يتحول إلى ظاهرة خلال السنوات الماضية، تلاحظها العين، وتتلقى بشأنها أسئلة واستشارات مباشرة، المال والشقة بل والحاجة الفطرية موجودة وبقوة، ولكن في النفس مخاوف، والخوف سلطان يفقد المال قيمته، ويقاوم الاحتياج النفسي والفطري.

لماذا يخاف بعض الشباب المقتدر من الزواج إلى هذا الحد؟
في ظل ملاحظتي ومناقشاتي يمكن أن نجمل هذا في سببين:
1-      الخوف من المسئولية.
2-      الخوف بسبب كثرة النماذج الفاشلة.
أولا: الخوف من المسئولية
وهو ثلاثة صور
الصورة الأولى: الخوف الطبيعي، الإنسان بفطرته يهاب التكاليف الإضافية التي لم يجرب حملها من قبل، بل دعنا نعدل العبارة ونقول الإنسان (الجيد) بفطرته يهاب التكاليف الإضافية، الذي يخشى المساءلة أمام الله تبارك وتعالى، وكذلك يخشى المسئولية المجتمعية، هذا قدر طبيعي وفطري، وهو ميزة وليس عيبا، بل هو خير ممن لا يستشعر تلك المسئولية ولا يهابها ويدخل إلى الزواج بعشوائية كأنه ذاهب إلى نزهة فيصطدم بمسئولياته وأحماله، وحينها وتحت أثر الصدمة إما أن يحطم بيته كليا أو يستمر ولكن في نزاع مستمر بسبب تهربه واستثقاله لمهامه كزوج وأب، في حين أن من يدرك مسئولياته من البداية ويهابها يكن مستعدا لها بأكثر مما تحتاج، فيؤدي دوره على خير وزيادة، وهذا القدر من الخوف لا يعطل صاحبه عادة عن الزواج، لأن الاحتياج إليه أقوى بكثير من هذه التخوفات الطبيعية.

الصورة الثانية: الخوف الإضافي من المسئولية، ويقع هذا عادة لمن تأخر في الزواج لأي سبب، فحياته لعدة سنوات جمع فيها بين الراحة المادية بعد استقراره في العمل وبين خلو البال من أي مسئولية خاصة مع تراجع وصاية والديه عليه يجعل استثقال الدخول في تجربة الزواج أكبر، فمن تزوج صغيرا نسبيا خرج من مرحلة ضغوط الدراسة وضغوط بداية العمل إلى الزواج مباشرة، بل كان الزواج هو الجنة التي يصبر بها نفسه على الدراسة وصعوبات بداية الحياة العملية والمادية، فمثّل له الزواج النهاية السعيدة لمتاعب كبيرة، ولكن المتأخر قد مر بمرحلة راحة نسبية قبل الزواج، قدر من الحرية والانطلاق والاعتياد على طريقة حياة مختلفة عن حياة الطالب والعامل المكافح المديون وكذلك مختلفة عن حياة المتزوج (أبو العيال)، فيزيد قلقه من الدخول في مسئولية سيخسر معها الكثير من عاداته المكتسبة في السنوات الماضية، وهذا القدر الإضافي من الخوف يتطلب قدرا إضافيا من التأمل والتفكر في المستقبل، وأن للزواج أهمية تفوق أهمية تلك العادات التي قد يخسرها بالزواج، وأن هذا التخوف هو نظر تحت القدمين وإغفال للمستقبل الذي سيحتاج فيه الأسرة والذرية، كما أنه مع وجود الدافع الفطري للزواج يصبح الاستعفاف به وحماية النفس من المعصية المحتملة واجب.

الصورة الثالثة: خوف المسئولية المتعلق بالواقع، سواء كان الواقع زمان أو مكان، مثل الخوف من الضغوط المادية والاقتصادية، أو الخوف من مسئولية التربية الأخلاقية والدينية للأولاد، والنوعان الأصل فيهما ليس مذموما، فأحيانا أجد من يتكلم عن النوع الأول (الخوف المادي) يلزم نفسه بمقدمة دفاعية عن كون كلامه لا يقصد به ضعف الإيمان بالرزق وغير هذا، وحقيقة هو ليس في حاجة إلى هذه المقدمات، فالتفكير في الأمور المادية ليس خطأ في ذاته، بل قد جعل الزواج مرتبطا بالقدرة والاستطاعة كما جاء في الحديث، وإنما تأتي المشكلة عندما تكون قادرا الآن على فتح بيت بشكل جيد، ولكن تفكيرك في سنوات كثيرة لاحقة هو ما يعيقك عن الإقدام على الخطوة، هذا هو الخطأ، وهو من تكليف النفس ما لا تطيق، ولعله فعلا في هذه الحالة مما يخالف الإيمان بالرزق، فأنت لا تعرف المستقبل، أنت مسئول عن الحاضر وتقييم موقفك فيه فقط، لكنك تجد من يكلمك عن تكاليف المدارس والجامعات! وربما عن الشقق التي سيتزوج فيها أولاده الذين لم يبحث عن أمهم حتى الآن، فينبغي تحجيم هذا الخوف ومعرفة حدوده، تقييمك للقدرة المالية على الزواج لا يدخل فيه سنوات حياتك كلها، أنت ابن اليوم، والمستقبل بيد الله تبارك وتعالى، علما أن حتى تقييم موقفك اليوم لا ينبغي المغالاة في تقييم الاحتياجات فيه، ويجب التفرقة بين الأساسيات الحقيقية وبين النثريات التي حولها الناس والدراما إلى واجبات أهم من الطعام والماء وهي ليست كذلك.

أما الخوف من مسئولية التربية الأخلاقية والدينية للأولاد بسبب انتشار الفساد والفاسدين وانحدار حال الأمة وتعرضها للنكال من أعدائها، فإنه وجيه في الظاهر، غير عملي في الحقيقة، فالأمة دائما تمر بأزمات بدأت في جيل الصحابة أنفسهم، ومن يطالع التاريخ تقل صدماته في الحاضر، محن وابتلاءات داخلية وخارجية، منها ما هو متعلق بالأفكار والعقائد ومنها ما هو متعلق بالدماء والاحتلال والمعارك، لا أقول أننا بالضرورة أفضل حالا أو أسوأ حالا من أزمنة سابقة، ولكن الأكيد أننا لسنا في حال فريدة لم تحدث من قبل بأي درجة، ولقد كان المسلمون في وسط كل هذا يتزوجون وينجبون، وقد كانت هذه الذرية في أغلب الأحيان ما تشهد انقلاب الأوضاع وانقشاع الغمة التي ظن جيل الآباء أنها علامة القيامة ونهاية الزمان أو رثاء الإسلام وأهله كما وقع في عهد التتار والصليبيين وغيرهم، فالكافر والمسلم الفاسد غير المهتم يتزوجون وينجبون ويورثون أبناءهم الفساد بأريحية وها هو المسلم الصالح المهتم لا يريد حتى أن يحاول المساهمة في بناء جيل بعكس هذه الصورة، إذا كنت تخاف من مسئوليتك أمام الله تعالى فاعلم أن الله تعالى سائلك عن مجهودك وسعيك لا عن النتيجة، فصلاح ذريتك أو فسادهم والعياذ بالله ليس مجال سؤالك، ولكن مجال سؤالك هل قمت بما عليك أم لا، وكمسألة الرزق تماما، إياك أن تظن أنك تملك التحكم في النتائج أو أنك تعلم الغيب، فالرزق بيد الله وكذلك صلاح الأبناء والزوجات في يد الله، المهم أن تستنفذ وسعك في اختيار الزوج/الزوجة من البداية ثم بالبذل والحرص بعد هذا، وهذا جزء من صعوبة الدنيا واختبارها، وترك الزواج لأجل هذا لن يعفيك من ابتلاءات قد تكون أصعب تخص عفتك والحفاظ على نفسك، والذي يزداد إثمك فيه إن كان بيدك الاستعفاف ثم تركته بإرادتك.

ثانيا: الخوف بسبب النماذج الفاشلة
نعم هي كثيرة جدا جدا، ولكنك تعلم كما أعلم أن أكثر النماذج الفاشلة فشلها كان ظاهر قبل البداية أصلا، ولكن في ظل العادات والتقاليد وطريقة التفكير العجيبة التي يمارسها الكثير من الأهالي والشباب والبنات أبى أكثر هؤلاء إلا أن يشربوا الكأس المر إلى نهايته، أكثر الزيجات التي انتهت مبكرا جدا بسبب عدم التناسب إما ظهر عدم تناسبها في البداية ولكن قالوا سيتغير كل منهما بعد الزواج، أو لم يعطوا أنفسهم الفرصة أصلا كي يتبين مدى التناسب من عدمه وتزوجوا كـ (سلق البيض) فانكسر البيت.
إن حث المستطيع على الزواج لا يعني أن يتزوج أي فتاة ناسبته أم لا، وكذلك الفتاة، فأكثر المطلقات أصبحوا مطلقات فقط لأنهم خافوا من العنوسة إلى حد الذعر، فوافقوا على أي جثة تطرق الباب، كانت تعلم جيدا أن هذا الشاب لا يناسبها، وكان يعلم جيدا أن هذه الفتاة لا تناسبه، وكان أهليهم يعرفون، ولكن قالوا وقال الوسيط الذي (يدبس) رأسين في الحلال أنهما سيتغيران بعد الزواج، والواقع أن الناس لا تتزوج كي تتغير، بل يحتاج هو تحتاج هي من يستوعبها على حالها، وهنا أنا أتكلم عن شاب صالح وفتاة صالحة ولكن ليس بينهما تفاهم وتلاق، فما بالك إذا كان أحدهما فاسدا ظاهر الفساد أصلا، ما الذي يجعلنا نرتبط به على أمل أن ينصلح فجأة دون أسباب أو ضمانات! نعم، الله تعالى قادر على كل شيء، ولكنه هو تبارك وتعالى من أوحى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر الرجل أن يرتبط بذات الدين، وأن يأمر الفتاة أن تقبل فقط صاحب الدين، لا أن يرتبط أي منهما بمن ليس كذلك ويقول الله سيهديه! هذه الاتكالية يبرأ منها الدين، وآثارها السيئة ليست حجة أبدا للنفور مطلقا من الزواج.
هل يمنع التحري والحرص الفشل؟ لا ولكنه يقلله جدا، ويبقى الفشل محتملا، ولكنه حينها سيكون ابتلاء كأي ابتلاء في الدنيا، وتكون برئ من أسبابه محصلا لثوابه، فخوف الفشل لن يمنعنا من دخول الكلية التي نحبها وحصلنا على المجموع المطلوب لها، فإذا التحقنا بها وذاكرنا ومع ذلك فشلنا فهذا الاحتمال الأقل وقوعا، ولو وقع فقد برأت ذمتنا، وفي النهاية هذه دار امتحان لا جني الثمار، دار ممر لا دار مقر.
والله المستعان. 

السبت، 5 أكتوبر 2019

التقويم القمري وفصول المناخ، الثبات والتغير


التقويم القمري وفصول المناخ، الثبات والتغير
إعداد: معتز عبد الرحمن
تمهيد
كعادة ما قد تقرأه للعبد الفقير، ما ستقابله في هذه السطور هو جهد شخصي استهدف البحث فيما وراء منشورات ظهرت خلال الأعوام الثلاثة الماضية وتتوسع في الانتشار تدريجيا لتثير الجدل حول إذا ما كان صيام المسلمين وحجهم وعباداتهم صحيحة أم لا لكونها تسير وفق التقويم القمري المحض والذي تدور شهوره في الفصول المناخية دورة كاملة كل ثلاثة وثلاثين عاما، وأنه ينبغي - بحسب المنشورات - على المسلمين أن يكون صيامهم وحجهم في توقيت ثابت في السنة الشمسية بإضافة شهر للتقويم القمري كل عامين ونصف (شهر الكبس) ليجبر الفرق بين العام القمري والعام الشمسي.
وتقوم تلك الدعوى التي تصدر من منتسبين للإسلام على نقطتين أساسيتين:
الأولى: الاستدلال بأسماء الشهور القمرية.
الثانية: تكذيب المفسرين في تفسيرهم للنسئ بدعوى أن تفسيرهم كان تحايلا لإلغاء هذا الشهر في توقيت متأخر كثيرا عن زمن النبوة.
أما صدورها عن غير مسلمين فليس هو المستهدف كما سيأتي في سياق المقال أو البحث الصغير.

ملخص المناقشة ويأتي بعدها التفصيل بإذن الله
أولا: هل دلالة تسميات الشهور جازمة إلى هذا الحد؟
لا، فهناك ترتيبان للشهور بناء على المعنى المناخي لأسمائها، الأول أن (ربيع أول وربيع ثان) يوافقان الربيع المعروف حاليا، وبهذا الترتيب لن يوافق (جمادى أول وثان) الشتاء أبدا، وهما بمعنى جمود الماء من البرد، وكما أن رمضان (الرمض: الحر الشديد) عندما يوافق سبتمبر فليس هذا ذروة الحر في الجزيرة العربية، والترتيب الثاني يجعل (ربيع أول وثان) في الخريف المعروف حاليا بناء على القول بأن العرب كانوا يطلقون على الخريف ربيعا، وهذا لا يجعل أيضا الجمادين في ذروة الشتاء، ولا يجعل رمضان في الصيف، ولا شوال (بمعنى ارتفاع الحر) بعد نهاية الصيف وإنما قبله، كما أنه بناء على هذا الترتيب، فإن غزوة تبوك المشهورة بكونها وقعت في الحر الشديد والتي كانت في شهر رجب بحسب كتب السيرة ستكون في قلب الشتاء!، والغزوة التي اشتهرت بمعاناة المسلمين فيها من البرد الشديد (غزوة الخندق) ورد وقوعها في شهر شوال، وهو في الترتيبين بعيد عن ذروة الشتاء، وفي التفصيل تجد جدولا موضحا ونقلا للأقوال التاريخية.
علما أن كل التحليلات الخاصة بدراسة دلالة أسماء الشهور تعود لما كان عليه العرب في الجاهلية لا لفعل المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد عمر بن الخطاب أو الأمويين بحسب المزاعم، فأشهر ناشري هذه البلبلة حاليا عندما سئل متى ألغي شهر (الكبس) قال (مش عارف، تلاقيهم الأمويين)، وهذا كلام أبعد ما يكون عن العلم والتأريخ، فحتى المؤرخين إذا تبنوا القول باستخدام (شهر الكبس) لتثبيت الشهور القمرية مع الشهور الميلادية فإنهم ينسبون هذا للجاهلية ويقرون بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو من غير هذا الفعل.

ثانيا: إحداث جدل حول تعريف (النسيء) بصورة لا تؤثر أصلا ولا تؤدي إلى هذه النتائج.
فالنسيء يأتي بمعنى التأخير ومعنى الزيادة، يزعم هؤلاء بأن النسيء بمعنى التأخير فقط، أي تأخير موعد الشهر الحرام عن موعده بأن يجعل مثلا صفر هو الشهر الحرام بدلا من محرم ليستحلوا القتال في محرم، وأن المفسرين – بعد النبي صلى الله عليه وسلم- هما من افتعلوا تفسيره بالزيادة لإلغاء شهر الكبس على خلاف مراد الله تبارك تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، والحقيقة مع كون المعنيين واردين لغويا للكلمة – كما ستجد في التفصيل- إلا أن المفسرين المعروفين أصلا يكثر في تفسيرهم إيرادها بمعنى التأخير فعلا أكثر من معنى الزيادة، فأنت لا تفاجئنا ولا تظهر التفسير الصحيح المنسي الذي أخفاه الناس، ولكن الاعتماد على إحداث الجدل حول كلمة واحدة في آية، وإهمال ما قبلها وما بعدها وإهمال عشرات غيرها من الأدلة والأحكام الشرعية الدالة على خلاف دعواك هو من قبل اتباع المتشابه وترك المحكم، (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37))، الآية التي سبقت آية النسيء ذكرت بوضوح أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فقط، في حين أن الشهر الزائد المزعوم سيجعل كل عامين هناك عام شهوره ثلاثة عشر شهرا! فأين هذا العام في الآية التي نزلت تقر للمسلمين تقويمهم وما يحل فيه القتال وما يحرم! إن لم تذكر مشروعيته هنا فأين؟، كما أن ما جاء في خطبة الوداع من إعلان بين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلغي كلا المعنيين للنسيء (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا، أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ، ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِى بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) متفق عليه.

ثالثا: حجر الأساس (الإسلام يجب ما قبله)
وكان ينبغي ونحن نناقش أي كلام يصدر عن مسلمين أن تكون هذه هي النقطة الأولى والأخيرة، ولكن للحفاظ على تدرج وترتيب بحثي البسيط المعني باستكشاف حقيقة هذا الدعوى اضطررت لختم البحث بها، وقد جاءت نقطة النسيء كتمهيد تلقائي غير مقصود أهداه لنا أصحاب الادعاء، فإن أيا ما كان وضع الجاهلية، وأيا ما كان أسباب تسمياتهم للشهور، فإن الإسلام يجب ما قبله، وما أقره الإسلام أقر، وما نسخه وغيّره انتهى، وإلا فليطوف الطائفون عراة بالكعبة، ملبين بالمكاء والتصدية! استدلالا بحال العرب قبل الإسلام!
فما يجعل أفعال وتسميات العرب قبل الإسلام حجة هو ورود الدليل على إقرار الإسلام لها أو سكوته عنها، والواقع يكشف أنه لا يوجد دليل على إقرار الإسلام لها، وأنه عمليا لم يسكت عنها، بل يخالفها نصا وعملا، فمن النص ما جاء في آيتي التوبة وفي خطبة الوداع، ومن العمل ربط كآفة العبادات باستطلاع الأهلة كما هو معلوم في القرآن والسنة، وفوق كل هذا فالإجماع في الشريعة معتبر، والأمة لا تجتمع على باطل وطول هذه القرون في مسألة متعلقة بأركان الإسلام وأصول العبادات.
وهذه الدعوى عندما تصدر عن غير مسلمين فإنهم يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم والذي في نظرهم - وحاشاه - هو مؤلف القرآن بأنه هو المتسبب في هذا! ولا أدري حقيقة ما مشكلة كافر في كون رجل هو يراه مدعيا للنبوة قد غيّر في تقويم قومه الذي سيتعبدون به أو لم يغير! طالما أنك أنت خارج هذا الأمر كله وتعيش فصولك المناخية مع شهورك الشمسية ولا مشكلة لديك!، لكن في النهاية هو كافر مكذب للنبي صلى الله عليه وسلم وسيسعى لتكذيبه في أي شيء وكل شيء، لكن ماذا يريد (المسلم) من طرح تلك الدعوى التي كما تبين خالية من الدليل المعتبر ومخالفة للأدلة المعتبرة والعمل على نشرها والمبالغة في الدندنة حولها؟!
لا أدري! وإن كنت للأسف أتوقع.

التفصيل

أولا: هل دلالة تسميات الشهور جازمة إلى هذا الحد؟
تعتمد مسألة دعوى ثبات شهور التقويم القمري مع فصول السنة الأربعة بالأساس على تسميات بعض الشهور التي تبدو مرتبطة بحالة المناخ، إذ يتم الربط بين اسم شهري (ربيع أول وربيع ثان) بفصل الربيع، وشهري (جمادى أول وجمادى ثان) بفصل الشتاء (لتجمد الماء فيه)، وشهر رمضان بالصيف لاشتقاق اسمه من الرمض وهو الحر الشديد، وهو الشهر الذي يزعم البعض حاليا أنه يبدأ وينتهي بالضرورة مع شهر سبتمبر.
يعتمد الاستدلال الأول (الترتيب الأول في الجدول أدناه) على موافقة شهري (ربيع أول وربيع ثان) لفصل الربيع الذي يبدأ في مارس وينتهي في يونيو، وهو ترتيب يجعل بداية العام القمري والعام الشمسي متطابقتين (يناير ومحرم)، وهو الترتيب الذي يقول أصحابه أن صيام رمضان يكون في سبتمبر، ولكن بالنظر إلى بقية الشهور فسنجد أن رمضان نفسه لم يوافق شدة الحر! فسبتمبر لا يمثل قلب الصيف في الجزيرة العربية، فهل سيتركون يوليو وأغسطس ويطلقون الرمض على سبتمبر؟، والأوضح من هذا موافقة الجمادين لمايو ويونيو، وهما شهران أبعد ما يكون عن الشتاء الذي تتجمد فيه المياه!
وبالنظر في موسوعة (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) للدكتور جواد علي، والذي تبنى في كلامه نفس النظرية وهي ثبات الشهور القمرية مع الفصول المناخية قبل الإسلام، ورفض تفسيرات العلماء الذين رأوا أن تسميات الشهور جاءت بحسب ظروف بداية التسمية، بمعنى أن القدماء عندما أرادوا إطلاق اسم على الشهر القمري التاسع وافق حينها مناخا حرا فأطلقوا عليه (رمضان) ولا يعني ذلك ارتباطه بالحر كل عام، وكذلك في شأن الشهور الأخرى التي تبدو أسماءها مرتبطة بالمناخ، رفض الدكتور جواد هذه التفسيرات الظنية ورأى أن التسميات دلالتها يقينية بشكل أكبر، وأنه لا معنى مثلا  لتسمية شهر باسم جمادى إن لم يكن من أشهر الشتاء (دائما) ورمضان لا معنى لاسمه إن لم يوافق الحر الشديد (دائما) وهكذا، كما تجد تفصيلا في الصفحات (5038-5044) من الموسوعة، ولكن في الترتيب الذي ذكره الدكتور جواد قال أن العرب كانوا يطلقون على الخريف المعروف الآن (ربيعا) (وشهري الربيع للزهر والأنوار وتواتر الأندية والأمطار، وهو نسبة إلى طبع الفصل الذي نسميه نحن الخريف، وكانوا يسمونه ربيعاً، وشهري جمادى لجمود الماء فيهما ...) وبالتالي إذا أسقطنا هذا الترتيب (الثاني) على فصول السنة فربما يصفو الأمر للربيعين كليا، ويصفو جزئيا للجمادين، ولكن يبقى رمضان أبعد ما يكون عن قلب الصيف، وشوال الذي نقل الدكتور في معنى اسمه (وشوّال لارتفاع الحرّ وادباره) لم يأت في دبر حر بل قبل بدايته!

 كما أنه بناء على هذا الترتيب، فإن غزوة تبوك المشهورة بكونها وقعت في الحر الشديد والتي كانت في شهر رجب بحسب كتب السيرة ستكون في قلب الشتاء!، والغزوة التي اشتهرت بمعاناة المسلمين فيها من البرد الشديد (غزوة الخندق) ورد وقوعها في شهر شوال، وهو في الترتيبين بعيد عن ذروة الشتاء، وهذه مجرد إشارات على هامش أصول الموضوع.

ففي الترتيبين لن تجد تلك اليقينية والأريحية التي يستدل بها المستدلون بأسماء الشهور على كون صيام المسلمين وحجهم هذه الأيام غير صحيح! بل وربما وجدت أن تفسير بعض العلماء لهذه التسميات بأنها جاءت حسب ظروف بداية التسمية هو الأقرب للإقناع لأن الاستقرار على أسماء الشهور كلها لا يكون بالضرورة في لحظة تاريخية محددة، بل بالاطلاع على الموسوعة سنجد أن أسماء الشهور كانت تختلف في أنحاء الجزيرة العربية أصلا. 

ومن الجدير بالذكر أن الدكتور جواد علي في موسوعته الضخمة ومع تبنيه لكون التقويم العربي كان ثابتا مع الفصول المناخية وبالتالي مع التقويم الشمسي قبل الإسلام قرر بأريحية أن هذا التثبيت ألغاه التشريع الإسلامي وأن العلماء لا يحتاجون لتفسير المسميات بأنها مرتبطة ببداية التسمية كما سبق ذكره (ولم يعرفوا أن ذلك بسبب اتباع الإسلام التقويم القمري، مما دعا إلى تحرك الشهور وتنقلها في الفصول، لكون الشهور القمرية غير ثابتة على نمط الشهور الشمسية)  ولم ينقد هذا أو يرى فيه مشكلة، ولم يزعم – وهو مؤرخ متخصص – أن هذا التثبيت استمر بعد الإسلام أو أنه كان ينبغي أن يستمر.



ثانيا: إحداث جدل حول تعريف (النسيء) بصورة لا تؤثر أصلا ولا تؤدي إلى هذه النتائج.

الارتكاز الثاني الذي تقوم عليه دعوى وجود خطأ حالي في التقويم الهجري يفسد علينا كل شئون عبادتنا هو أن العرب كان يحتسبون شهرا زائدا كل ثلاثين شهر كي يوافقوا التقويم الشمسي وتبقى في النهاية الشهور القمرية ثابتة مع الفصول المناخية والشهور الشمسية كما تقدم، وأن المسلمين ألغوا هذا الشهر اعتمادا على آية سورة التوبة (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)).
وهذه الدعوى عندما تصدر عن غير مسلمين فإنهم يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم والذي في نظرهم - وحاشاه - هو مؤلف القرآن بأنه هو المتسبب في هذا! ولا أدري حقيقة ما مشكلة كافر في كون رجل هو يراه مدعيا للنبوة قد غيّر في تقويم قومه الذي سيتعبدون به أو لم يغير! طالما أنك أنت خارج هذا الأمر كله وتعيش فصولك المناخية مع شهورك الشمسية ولا مشكلة لديك!، لكن في النهاية هو كافر مكذب للنبي صلى الله عليه وسلم وسيسعى لتكذيبه في أي شيء وكل شيء، لكن عندما تصدر هذه الدعوة من منتسبين للإسلام فإنهم بالتأكيد لن يحملوا النبي صلى الله عليه وسلم مسئولية ما يرون أنه خطأ جسيم، فينسبون الخطأ للمفسرين الذي فسروا الآية بهذا المعنى، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم وربما بعده الخلفاء الراشدون قد أبقوا على هذا التقويم المعدل بالشهر الزائد حتى أتى من غيّر هذا فجأة وحرّف تفسير الآية فجأة.

وفي نظر دعوى المنتسبين للإسلام، أفكر بصوت عال:
أولا: في ظل ما قرأت للمدعين أنفسهم لم أجد تعريفا واضحا لمن بدأ هذا التغيير والتفسير، أو استدلالا واضحا على استمرارية العمل بالشهر الزائد لما بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المفترض أن هذه مسألة جوهرية لا تقل أهمية مثلا عن مسألة تحديد بداية لعداد السنوات في التقويم القمري والذي وقع في عهد عمر بن الخطاب، فأين الدليل وأين تاريخ بداية هذا التغيير الخاطئ طالما أنكم لا تنسبونه للنبي صلى الله عليه وسلم!
ثانيا: يركز أصحاب هذه الدعوى على تفسير كلمة النسيء، ويتهمون المفسرين بأنهم فسروها – كذبا – بالشهر الزائد الذي يضاف لضبط التقويم القمري مع التقويم الشمسي في حين – والكلام لا يزال لهم – أن حقيقة النسيء هو تأخير الأشهر الحرم عن موضعها كي يستحلوا القتال فيها، فمثلا يجعلون الشهر المحرم هو صفر بدلا من محرم كي يقاتلوا في محرم بلا غضاضة، وهكذا.

والواقع أن أكثر المفسرين يذكرون التفسير الثاني أصلا، وهو التلاعب بالأشهر الحرم، ولا تكاد تجد تفسير إلغاء الشهر الزائد في أكثر التفاسير المشهور إلا عرضا، ويمكن الرجوع لتفسير الطبري والقرطبي وابن كثير والبغوي وغيرهم، أما الأهم من ذلك فهو أن الآية التي سبقت آية النسيء ذكرت بوضوح أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فقط، في حين أن الشهر الزائد المزعوم سيجعل كل عامين هناك عام شهوره ثلاثة عشر شهرا! فأين هذا العام في الآية التي نزلت تقر للمسلمين تقويمهم وما يحل فيه القتال وما يحرم! إن لم تذكر مشروعيته هنا فأين؟ فتركيز الجدل حول كلمة في آية وترك آيات وأدلة جلية – كما سيأتي لاحقا- هو عين ترك المحكم واتباع المتشابه ابتغاء الفتنة والتأويل الخاطئ!

وبالرجوع لموسوعة الدكتور جواد علي، وهي أكبر وأشهر مصدر وجدته في تاريخ العرب قبل الإسلام ويشار إليها دائما في المراجع، نجد أنه ذكر المعنيين المحتملين للنسئ، (وذُكر أن نسيء العرب كان على ضربين: أحدهما تأخير شهر المحرم إلى صفر لحاجتهم إلى شن الغارات وطلب الثارات، والأخر تأخير الحج عن وقته تحرّياً منهم للسنة الشمسية، فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يوماً، حتى يدور الدور فيه الى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته، وهذا الرأي يلخص ما أورده أهل الأخبار في النسيء، ويتلخص في شيئين: النسيء تأخير الشهور، و ذلك بإحلال شهر في مكان شهر آخر، للاستفادة من ذلك في التحليل والتحريم، والنسيء بمعنى الكبس، وهو إضافة الفرق الذي يقع بين السنة الشمسية والسنة القمرية إلى الشهور القمرية لتلافي النقص الكائن بين السنتين، ولتكون الشهور القمرية بذلك ثابتة لا تتغير، تكون في مواسمها المعينة، فلا يقع حادث في شهر من شهورها في الشتاء، ثم يتحول بمرور السنين، فيقع بعد أمد في الصيف أو في الربيع، كما يقع ذلك في الشهور القمرية الصرفة المستعملة في الإسلام).
وقال (وقد استمرت طريقة النسيء هذه إلى أيام الإسلام، فحج أبو بكر في السنة التاسعة من الهجرة، فوافق حجه ذي القعدة، ثم حج رسول الله في العام القابل الموافق السنة العاشرة للهجرة، المصادفة لسنة "631" للميلاد، فوافق عود الحج في ذي الحجة ثم نزل الحكم بإبطال النسيء في الآيات (أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله، يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم. ذلك الدين القيم، فلا تظلموا فيهن أنفسكم. وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة، واعلموا أن الله مع المتقين، إنما النسيء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطؤوا عدة ما حرم، فيحلوَا ما حرم الله. زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين)، وخطب الرسول في جموع الحجاج خطبته الشهيرة التي بينَ فيها مناسك الحج وسننه وأموراً أخرى أوضحها لهم، فكان مما قاله لهم: "أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر، وإن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السماوات والأرض، وان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً". فألغى الإسلام منذ ذلك الحين النسيء، وثبت شهور السنة وجعل التقويم القمري هو التقويم الرسمي للمسلمين).

وأيضا (وروي كلام الرسول عنه على هذه الصورة: "أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً، ليواطأوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله، ويحرموا ما أحل الله. وإن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السماوات والأرض. وان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم. ثلاثة متوالية، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"، فألغى الإسلام منذ ذلك الحين النسيء، وجعل التقويم القمري الخالص هو التقويم الرسمي للمسلمين.
ويظهر من القرآن الكريم إن سبب تحريم النسيء في الإسلام هو تلاعب القلامسة بالشهور، بتحريمهم شهراً حلالاّ في عام، ثم تحليلهم له في العام القابل. فأزال الإسلام ذلك التلاعب بتحريم النسيء، واتخاذ السنة سنة قمرية ذات اثني عشر شهراً لا غير، كما صيرها الجاهليون ثلاثة عشر أو أربعة عشر شهراً. ولما كان الزرع يعتمد على المواسم الطبيعية، وعلى الأشهر الشمسية، لذلك صار اعتماد المزارعين في الزرع وفي الحصاد على الشهور الشمسية، أي على السنة الشمسية، اما الأمور الدينية، مثل الحج والصيام، فالاعتماد بالطيع على الشهور القمرية.

واتخاذ التقويم القمري تقويماً رسمياً للإسلام، هو من السمات التي امتاز بها الإسلام عن الجاهلية، واعتبر من النقاط الفاصلة الني فصلت بين الجاهلية والإسلام. وهكذا زال الكبس كما زال النسيء عن السنة القمرية وعن الشهور لتحويلها إلى سنة شمسية على نحو ما رأيناه من فعل الجاهليين).
فهنا نجد المؤرخ قد أوضح بجلاء أنه أيا كان معنى تفسير النسيء، سواء المعنى الأول أو الثاني أو كليهما فإنه قد أبطل في عام حجة الوداع بالآيتين وبالحديث النبوي الصحيح الشهير، وأنه سواء كان تحريف التقويم القمري في الجاهلية يتم بإضافة شهر كل عامين ونصف، أو فقط بزحزحة تحريم الشهور كل عام وتغيير وقت الحج كما جاء في التفاسير، فإنه في هذا العام – حجة الوداع – قد وافقت استدارة الزمان التقويم الأصلي الصحيح (اثنا عشر شهرا يوم خلق الله السماوات والأرض)، وجاء الحج في موعده الصحيح، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته أسماء الشهور الحرم بوضوح حتى لا تستبدل بعد هذا، وقد تحرى النبي صلى الله عليه وسلم الدقة في تحديدها في قوله صلى الله عليه وسلم (ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) لأن مضر لم تكن تغيره عن موعده بخلاف بعض القبائل الأخرى، فماذا يريد المنتسب للإسلام المقر للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة بعد هذا! وكيف يرى أن الإسلام الصحيح هو ترك تشريعه والعودة للعمل باختراعات أهل الجاهلية وأن اتباع طريقة الجاهلية هي التي تحقق لنا العبادة الصحيحة!

والواقع العملي – والذي أشار إليه الدكتور جواد سابقا – لم يحدث فيه اضطراب بسبب دوران الشهور القمرية في الفصول المناخية إذ أن العمل بكلا التقويمين كل في موضعه بديهي، فأجرى الزراع مواسمهم الزراعية على التقويم الشمسي، واعتمدوا في عباداتهم ومعاملاتهم على التقويم القمري، بل ذكر الدكتور جواد أيضا أن هذا كان فعل العرب قبل الإسلام أصلا والذين يستدل بهم المستدلون الآن تاركين القرآن الكريم والهدي النبوي (استعمل العرب الجنوبيون التقويم الشمسي في الزراعة، واستعملوا التقويم القمري للأغراض التي ذكرتها، والتقويم النجمي، أي التقويم، الذي يقوم على رصد النجوم لأغراض دينية وللوقوف على الأنواء الجوية لما لها من صلة بالزراعة وبالحياة العامة.
ويتبين من النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية*، ومن النصوص النبطية*، ومن نص النمارة*، إن أصحابها كانوا يتعاملون وفقاً للتقويم الشمسي في الأمور التي لها اتصال مباشر بالطبيعة، ووفقاً للتقويم القمري في الآمور الأخرى، لسهولة ضبط الأهلة، وتحقيق العقود بموجبها، واذا كان الحال على هذا المنوال عند هؤلاء وعند العرب الجنوبيين، فبإمكاننا القول إن بقية الجاهليين، ممن لم يتركوا لنا نصوصاً، كانوا يتبعون التقويمين كذلك، جرياً على سنهَ الناس في ذلك العهد، ومنهم الأعاجم، من اتباعهم التقويمين المذكورين في تنفيذ العقود والالتزامات وفي ضبط الأزمنة)
* أسماء قبائل وأعراق عربية.

ثالثا: حجر الأساس (الإسلام يجب ما قبله)
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)) سورة المائدة
ومهيمنا عليه
فالإسلام حاكم ومهيمن على ما قبله من الشرائع والأحكام وإن جاءت في شريعة أنبياء سابقين، فالإسلام ينسخ منها ويقر، فكيف بأفعال واجتهادات بشرية غير نابعة من الوحي أصلا.
وكان ينبغي ونحن نناقش أي كلام يصدر عن مسلمين أن تكون هذه هي النقطة الأولى والأخيرة، ولكن للحفاظ على تدرج وترتيب بحثي البسيط المعني باستكشاف حقيقة هذا الدعوى اضطررت لختم البحث بها، وقد جاءت نقطة النسيء كتمهيد تلقائي غير مقصود أهداه لنا أصحاب الادعاء، فإن أيا ما كان وضع الجاهلية، وأيا ما كان أسباب تسمياتهم للشهور، فإن الإسلام يجب ما قبله، وما أقره الإسلام أقر، وما نسخه وغيّره انتهى، وإلا فليطوف الطائفون عراة بالكعبة، ملبين بالمكاء والتصدية! استدلالا بحال العرب قبل الإسلام!
فما يجعل أفعال وتسميات العرب قبل الإسلام حجة هو ورود الدليل على إقرار الإسلام لها أو سكوته عنها، والواقع يكشف أنه لا يوجد دليل على إقرار الإسلام لها، وأنه عمليا لم يسكت عنها، بل يخالفها نصا وعملا، فمن النص ما جاء في آيتي التوبة وفي خطبة الوداع، ومن العمل ربط كآفة العبادات باستطلاع الأهلة
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)) سورة البقرة
فلو أن الحج سيكون دوما في العاشر من ديسمبر، أو العاشر من يونيو، أو أي شهر ثابت فما معنى استطلاع الهلال!، فإن الأول من هذا الشهر سيوافق كل حالات القمر.
وكذلك في شهر رمضان وعيد الفطر، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلالَ وَلا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ رواه البخاري (1906)، ومسلم (1080).
وفوق كل هذا فالإجماع في الشريعة معتبر، والأمة لا تجتمع على باطل وطول هذه القرون في مسألة متعلقة بأركان الإسلام وأصول العبادات.
وأحكام الهلال واستطلاعه وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده بهذا أكثر من أن تحصى أو تهدم لأن العرب لأسباب غير موثقة أو مؤكدة سموا هذا الشهر بمعنى بارد وسموا ذاك الشهر بمعنى حار!
ماذا يريد (المسلم) من طرح تلك الدعوى التي كما تبين خالية من الدليل المعتبر ومخالفة للأدلة المعتبرة والعمل على نشرها والمبالغة في الدندنة حولها؟!
لا أدري! وإن كنت للأسف أتوقع.

مراجع للاستزادة
-          موسوعة (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) للدكتور جواد علي
-          تفسير سورة التوبة في تفاسير الطبري والقرطبي وابن كثير والبغوي

-          موقع الباحثون المسلمون