السبت، 19 أكتوبر 2019

الهاربون من الزواج

في الجامعة لمحت عنوان محاضرة مسجلة بعنوان (رسالة إلى الأعزب) أو نحو هذا، توقعت أن تكون موجهة إلى الأعزب الذي لا يجد تكاليف الزواج لتحثه على الانتفاع بعزوبيته الإجبارية إلى أن يأتي الفرج، ولكن بعد خمس دقائق من بدايتها اكتشفت أنها لترغيب الشباب العازف عن الزواج بإرادته كي يتزوج، وذلك بذكر فضل الزواج في الإسلام و... لم أكمل، أغلقتها بالطبع إلى غير عودة، واستنكرت أن يكون هناك حاجة إليها أصلا، فمعضلة الشباب - في اعتقادي حينها - أنه لا يستطيع الباءة أصلا، فهل يستطيع أحد الزواج ولا يتزوج لدرجة أنه يحتاج إلى محاضرة مخصوصة لتحفيزه! كان هذا عجيبا حينها ولكنه ليس كذلك الآن.
إن عزوف بعض الشباب المقتدر عن الزواج يكاد أن يتحول إلى ظاهرة خلال السنوات الماضية، تلاحظها العين، وتتلقى بشأنها أسئلة واستشارات مباشرة، المال والشقة بل والحاجة الفطرية موجودة وبقوة، ولكن في النفس مخاوف، والخوف سلطان يفقد المال قيمته، ويقاوم الاحتياج النفسي والفطري.

لماذا يخاف بعض الشباب المقتدر من الزواج إلى هذا الحد؟
في ظل ملاحظتي ومناقشاتي يمكن أن نجمل هذا في سببين:
1-      الخوف من المسئولية.
2-      الخوف بسبب كثرة النماذج الفاشلة.
أولا: الخوف من المسئولية
وهو ثلاثة صور
الصورة الأولى: الخوف الطبيعي، الإنسان بفطرته يهاب التكاليف الإضافية التي لم يجرب حملها من قبل، بل دعنا نعدل العبارة ونقول الإنسان (الجيد) بفطرته يهاب التكاليف الإضافية، الذي يخشى المساءلة أمام الله تبارك وتعالى، وكذلك يخشى المسئولية المجتمعية، هذا قدر طبيعي وفطري، وهو ميزة وليس عيبا، بل هو خير ممن لا يستشعر تلك المسئولية ولا يهابها ويدخل إلى الزواج بعشوائية كأنه ذاهب إلى نزهة فيصطدم بمسئولياته وأحماله، وحينها وتحت أثر الصدمة إما أن يحطم بيته كليا أو يستمر ولكن في نزاع مستمر بسبب تهربه واستثقاله لمهامه كزوج وأب، في حين أن من يدرك مسئولياته من البداية ويهابها يكن مستعدا لها بأكثر مما تحتاج، فيؤدي دوره على خير وزيادة، وهذا القدر من الخوف لا يعطل صاحبه عادة عن الزواج، لأن الاحتياج إليه أقوى بكثير من هذه التخوفات الطبيعية.

الصورة الثانية: الخوف الإضافي من المسئولية، ويقع هذا عادة لمن تأخر في الزواج لأي سبب، فحياته لعدة سنوات جمع فيها بين الراحة المادية بعد استقراره في العمل وبين خلو البال من أي مسئولية خاصة مع تراجع وصاية والديه عليه يجعل استثقال الدخول في تجربة الزواج أكبر، فمن تزوج صغيرا نسبيا خرج من مرحلة ضغوط الدراسة وضغوط بداية العمل إلى الزواج مباشرة، بل كان الزواج هو الجنة التي يصبر بها نفسه على الدراسة وصعوبات بداية الحياة العملية والمادية، فمثّل له الزواج النهاية السعيدة لمتاعب كبيرة، ولكن المتأخر قد مر بمرحلة راحة نسبية قبل الزواج، قدر من الحرية والانطلاق والاعتياد على طريقة حياة مختلفة عن حياة الطالب والعامل المكافح المديون وكذلك مختلفة عن حياة المتزوج (أبو العيال)، فيزيد قلقه من الدخول في مسئولية سيخسر معها الكثير من عاداته المكتسبة في السنوات الماضية، وهذا القدر الإضافي من الخوف يتطلب قدرا إضافيا من التأمل والتفكر في المستقبل، وأن للزواج أهمية تفوق أهمية تلك العادات التي قد يخسرها بالزواج، وأن هذا التخوف هو نظر تحت القدمين وإغفال للمستقبل الذي سيحتاج فيه الأسرة والذرية، كما أنه مع وجود الدافع الفطري للزواج يصبح الاستعفاف به وحماية النفس من المعصية المحتملة واجب.

الصورة الثالثة: خوف المسئولية المتعلق بالواقع، سواء كان الواقع زمان أو مكان، مثل الخوف من الضغوط المادية والاقتصادية، أو الخوف من مسئولية التربية الأخلاقية والدينية للأولاد، والنوعان الأصل فيهما ليس مذموما، فأحيانا أجد من يتكلم عن النوع الأول (الخوف المادي) يلزم نفسه بمقدمة دفاعية عن كون كلامه لا يقصد به ضعف الإيمان بالرزق وغير هذا، وحقيقة هو ليس في حاجة إلى هذه المقدمات، فالتفكير في الأمور المادية ليس خطأ في ذاته، بل قد جعل الزواج مرتبطا بالقدرة والاستطاعة كما جاء في الحديث، وإنما تأتي المشكلة عندما تكون قادرا الآن على فتح بيت بشكل جيد، ولكن تفكيرك في سنوات كثيرة لاحقة هو ما يعيقك عن الإقدام على الخطوة، هذا هو الخطأ، وهو من تكليف النفس ما لا تطيق، ولعله فعلا في هذه الحالة مما يخالف الإيمان بالرزق، فأنت لا تعرف المستقبل، أنت مسئول عن الحاضر وتقييم موقفك فيه فقط، لكنك تجد من يكلمك عن تكاليف المدارس والجامعات! وربما عن الشقق التي سيتزوج فيها أولاده الذين لم يبحث عن أمهم حتى الآن، فينبغي تحجيم هذا الخوف ومعرفة حدوده، تقييمك للقدرة المالية على الزواج لا يدخل فيه سنوات حياتك كلها، أنت ابن اليوم، والمستقبل بيد الله تبارك وتعالى، علما أن حتى تقييم موقفك اليوم لا ينبغي المغالاة في تقييم الاحتياجات فيه، ويجب التفرقة بين الأساسيات الحقيقية وبين النثريات التي حولها الناس والدراما إلى واجبات أهم من الطعام والماء وهي ليست كذلك.

أما الخوف من مسئولية التربية الأخلاقية والدينية للأولاد بسبب انتشار الفساد والفاسدين وانحدار حال الأمة وتعرضها للنكال من أعدائها، فإنه وجيه في الظاهر، غير عملي في الحقيقة، فالأمة دائما تمر بأزمات بدأت في جيل الصحابة أنفسهم، ومن يطالع التاريخ تقل صدماته في الحاضر، محن وابتلاءات داخلية وخارجية، منها ما هو متعلق بالأفكار والعقائد ومنها ما هو متعلق بالدماء والاحتلال والمعارك، لا أقول أننا بالضرورة أفضل حالا أو أسوأ حالا من أزمنة سابقة، ولكن الأكيد أننا لسنا في حال فريدة لم تحدث من قبل بأي درجة، ولقد كان المسلمون في وسط كل هذا يتزوجون وينجبون، وقد كانت هذه الذرية في أغلب الأحيان ما تشهد انقلاب الأوضاع وانقشاع الغمة التي ظن جيل الآباء أنها علامة القيامة ونهاية الزمان أو رثاء الإسلام وأهله كما وقع في عهد التتار والصليبيين وغيرهم، فالكافر والمسلم الفاسد غير المهتم يتزوجون وينجبون ويورثون أبناءهم الفساد بأريحية وها هو المسلم الصالح المهتم لا يريد حتى أن يحاول المساهمة في بناء جيل بعكس هذه الصورة، إذا كنت تخاف من مسئوليتك أمام الله تعالى فاعلم أن الله تعالى سائلك عن مجهودك وسعيك لا عن النتيجة، فصلاح ذريتك أو فسادهم والعياذ بالله ليس مجال سؤالك، ولكن مجال سؤالك هل قمت بما عليك أم لا، وكمسألة الرزق تماما، إياك أن تظن أنك تملك التحكم في النتائج أو أنك تعلم الغيب، فالرزق بيد الله وكذلك صلاح الأبناء والزوجات في يد الله، المهم أن تستنفذ وسعك في اختيار الزوج/الزوجة من البداية ثم بالبذل والحرص بعد هذا، وهذا جزء من صعوبة الدنيا واختبارها، وترك الزواج لأجل هذا لن يعفيك من ابتلاءات قد تكون أصعب تخص عفتك والحفاظ على نفسك، والذي يزداد إثمك فيه إن كان بيدك الاستعفاف ثم تركته بإرادتك.

ثانيا: الخوف بسبب النماذج الفاشلة
نعم هي كثيرة جدا جدا، ولكنك تعلم كما أعلم أن أكثر النماذج الفاشلة فشلها كان ظاهر قبل البداية أصلا، ولكن في ظل العادات والتقاليد وطريقة التفكير العجيبة التي يمارسها الكثير من الأهالي والشباب والبنات أبى أكثر هؤلاء إلا أن يشربوا الكأس المر إلى نهايته، أكثر الزيجات التي انتهت مبكرا جدا بسبب عدم التناسب إما ظهر عدم تناسبها في البداية ولكن قالوا سيتغير كل منهما بعد الزواج، أو لم يعطوا أنفسهم الفرصة أصلا كي يتبين مدى التناسب من عدمه وتزوجوا كـ (سلق البيض) فانكسر البيت.
إن حث المستطيع على الزواج لا يعني أن يتزوج أي فتاة ناسبته أم لا، وكذلك الفتاة، فأكثر المطلقات أصبحوا مطلقات فقط لأنهم خافوا من العنوسة إلى حد الذعر، فوافقوا على أي جثة تطرق الباب، كانت تعلم جيدا أن هذا الشاب لا يناسبها، وكان يعلم جيدا أن هذه الفتاة لا تناسبه، وكان أهليهم يعرفون، ولكن قالوا وقال الوسيط الذي (يدبس) رأسين في الحلال أنهما سيتغيران بعد الزواج، والواقع أن الناس لا تتزوج كي تتغير، بل يحتاج هو تحتاج هي من يستوعبها على حالها، وهنا أنا أتكلم عن شاب صالح وفتاة صالحة ولكن ليس بينهما تفاهم وتلاق، فما بالك إذا كان أحدهما فاسدا ظاهر الفساد أصلا، ما الذي يجعلنا نرتبط به على أمل أن ينصلح فجأة دون أسباب أو ضمانات! نعم، الله تعالى قادر على كل شيء، ولكنه هو تبارك وتعالى من أوحى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر الرجل أن يرتبط بذات الدين، وأن يأمر الفتاة أن تقبل فقط صاحب الدين، لا أن يرتبط أي منهما بمن ليس كذلك ويقول الله سيهديه! هذه الاتكالية يبرأ منها الدين، وآثارها السيئة ليست حجة أبدا للنفور مطلقا من الزواج.
هل يمنع التحري والحرص الفشل؟ لا ولكنه يقلله جدا، ويبقى الفشل محتملا، ولكنه حينها سيكون ابتلاء كأي ابتلاء في الدنيا، وتكون برئ من أسبابه محصلا لثوابه، فخوف الفشل لن يمنعنا من دخول الكلية التي نحبها وحصلنا على المجموع المطلوب لها، فإذا التحقنا بها وذاكرنا ومع ذلك فشلنا فهذا الاحتمال الأقل وقوعا، ولو وقع فقد برأت ذمتنا، وفي النهاية هذه دار امتحان لا جني الثمار، دار ممر لا دار مقر.
والله المستعان. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق