الأحد، 14 يونيو 2015

البغدادي .. مجدد الخطاب الديني

البغدادي.. مجدد الخطاب الديني


الفترة التي تمر عليك دون أن تسمع اسمك ربما تكون أطول من الفترة التي تمر عليك دون أن تسمع عبارة (تجديد الخطاب الديني) ، مصطلح نشأ جيلنا على سماعه واعتاده وبدأ جيلنا يفنى دون أن يدري ما المقصود به بالضبط رغم أن الجميع ينادي به ويقره ، والمعنى المراد مدفون في بطن كل متحدث مصاغ حسب فكره وأهدافه ، وفي أحيان كثيرة جدا يكون مصاغا تبعا لمصالحه العاجلة مما يعني أن الصيغة والتعريف قد يختلفا ويتنوعا داخل البطن الواحدة مع اختلاف الموقف والوقت ومقتضياته ، وكل ذلك يجعله مصطلحا مطاطا ليس له معنى حقيقي ملموس يمكن تقييمه ومناقشته على مستوى عام، ولذلك ففي هذه السطور سأناقش - فقط - آخر وأحدث ما يطرح بشأن هذا المصطلح المؤثر.
.
اختلافات المنادين بالتجديد تنبع من اختلاف قدر الثابت وقدر المتغير عند كل منهم ، بين من يصل قدر الثابت عنده صفر بالمائة تقريبا ، ومن يصل قدر الثابت عنده لما يقترب من المائة بالمائة ، وبينهما أصناف ودرجات شتى ، وبالتأمل في آلية تحديد قدر الثابت والمتغير عند دعاة الأوقاف والأزهر ودعاة التيارات الإسلامية المختلفة في الفترة الماضية لفت نظري بقوة ما يلي.
....
أولا: من يحدد الثوابت؟
....
ليس جديدا ، ليس جديدا أبدا ما شهدناه في الأشهر الماضية من حملات تستهدف دفع كتب السنة (وعلى رأسها صحيح البخاري) وبعض العقائد الغيبية (مثل نعيم القبر وعذابه) خارج حيز الثابت ، وليس جديدا أيضا أن ردود أفعال الأوقاف والأزهر الرسمية عادة تميل إلى السلبية أو الردود العامة التي تبدو غير مكترثة ، ولكن في الفترة الماضية - وهي الفترة التي تصاعدت فيها وتيرة التفجيرات في سيناء وخارجها-  شذت بعض هذه التعليقات عن القاعدة واكتسبت شيئا من السخونة والحمية ولكن حيثياتها كانت ملفتة للنظر، فمثلا عندما علق وزير الأوقاف على هجوم محمد عبد الله نصر (الشهير بالشيخ ميزو) على صحيح البخاري قال في صحيفة الوطن عدد 10 أغسطس 2014 (قلت من قبل أن المساس بثوابت الإسلام يغذي التطرف والإرهاب الذي يهدد البلاد) ، وحول قضية إنكار نعيم القبر وعذابه التي أثارها إبراهيم عيسى أو بمعنى أدق جدد إثارتها ، عقب وزير الأوقاف أيضا في صحيفة المصري اليوم في 31 يوليو 2014 - قبل نحو عشرة أيام من التصريح السابق - مؤكدا (أن المساس بثوابت العقيدة والتجرؤ عليها وإنكار ما استقر منها في وجدان الأمة مثل مسألة عذاب القبر لا يخدم سوى قوى التطرف والإرهاب، خاصة في ظل الظروف التي تمر بها البلاد) وأضاف (إن الجماعات المتطرفة تستغل «هذه السقطات» لترويج شائعات التفريط في الثوابت، وهو ما ينبغى التنبه له والحذر منه، ووقوف كل إنسان عند حدود ما يعلم، وعدم إقحام نفسه فيما لا يعلم وفى غير مجال اختصاصه، وأنه إذا أردنا القضاء على التشدد من جذوره يجب القضاء على التسيب من جذوره، ولكل فعل رد فعل)، وفي 16 أغسطس 2014 هاجمت دار الإفتاء المشككين في نعيم القبر وعذابه وفي صحيح البخاري والمتطاولين على الصحابة على لسان مفتي الجمهورية الدكتور شوقي علام والذي جاء في تصريحه الذي نشره اليوم السابع (وأوضح مفتى الجمهورية، أن صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام عدول ولا يمكن التشكيك فيهم، ولأن التشكيك فى مصداقيتهم فى هذا التوقيت يزعزع الثقة وهو أمر مريب الغرض منه نوايا خبيثة لا يهدف إلى مصلحة الوطن فطرح مثل هذه القضايا يصب فى مصلحة الإرهاب) ، وفي حوار مطول حول تجديد الخطاب الديني مع صحيفة الأهرام في 10 يونيو 2015 ، أشار الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر إلى نفس النقطة (والأمر المهمُّ الذى نريد أن نُؤكِّده هو أن التجديد لا يعنى الهدم والتبديد، ولا يعنى الخضوع لدعاوى لا تقل تطرفًا تنتهز الفرصة لتشويه كل ما هو دينى أو تراثي، على النحو الذى نرى مظاهر عدَّة له، وهذه المحاولات المعادية للتراث الإسلامى هى نفسها من أقوى دوافع التطرُّف والإرهاب، بما تطرحه من مغالطات وسفسطاءات، وما تفتعلُه من معارك خالية من المضمون وما تثيره من استفزاز غير مأمون العواقب لدى الشباب الذى يحترم دينه)، لتتفق بذلك المؤسسات الدينية الرسمية الثلاثة في ذكر تلك الحيثية الهامة حول نقطة (الثوابت).
...
وخارج المؤسسات الرسمية ، وفي تعقيب الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق على هجوم إسلام البحيري على البخاري لم يفته أن يضيف أن التشكيك يساهم في انضمام الشباب لـ(داعش) غضبا مما يسمعون من إساءة وذلك في برنامج (الله أعلم) على قناة الـ CBC في 29 مارس 2015 ، كما أدرج الدكتور ياسر برهامي نائب رئيس الدعوة السلفية السكندرية ذلك في نصائحه لمقاومة التطرف في مقاله (نصيحة موضوعية في المسألة الجهادية) على موقع أنا السلفي - 2مايو 2015-  (وأنا لا أشك أن الهجمة على الثوابت الإسلامية والرموز والهيئات الشرعية الرسمية وغير الرسمية، هي من أعظم أسباب اقتناع الكثير من الشباب بأن الدولة تُحارب الإسلام، وهو لا يفرق بين ما تقدر عليه الدولة وبين ما لا تقدر عليه، وبين ما يمثلها وما لا يمثلها، بل الكل محسوب على الرئيس والجيش والداخلية والنظام القادر على منع كل شيء والسماح بكل شيء في ظنِّهم)، وهو نفس ما قاله أيضا رجب أبو بسيسة عضو مجلس شورى الدعوة السلفية في طرح مشابه نشره موقع صدى البلد في 23 مارس 2015 يطالب فيه الحكومة بمنع الإعلاميين من الهجوم على الأزهر وثوابت الدين مؤكدا أن (استمرار بعض الإعلاميين في الهجوم على ثوابت الدين والتطاول علي رموز الإسلام لا يعقبه إلا تطرف وإرهاب، حيث يستدل البعض بكلامهما على أن الدولة تحارب الإسلام) ، كذلك الداعية اليمني علي الجفري - وهو خارج المنظومتين الأزهرية والسلفية -  قال في تصريح نشرته المصري اليوم في 9 أغسطس 2014 (إن تطاول السفهاء على الصحابة والاستهزاء بكتب الحديث تطرف يغذي التطرف الديني، وكلاهما يجلب المزيد من الصراعات، التي أثخنت الأمة بالجراح)، وفي سياق أكثر مباشرة ، أعتبر الدكتور أحمد كريمة أستاذ الشريعة بالأزهر في لقاء له على القناة الأولى في التلفزيون المصري في أغسطس 2014 أن من يهاجمون صحيح البخاري هم جزء من مؤامرة على النظام السياسي وهما خلايا نائمة للإخوان و"المتسلفة" تستهدف إحراج النظام وإظهاره على أنه ضد الدين.
...
ما سبق مجرد أمثلة حرصت فيها على إبراز تنوع مشارب أصحاب هذا الطرح ، ودعني أقول بوضوح أن هذا الطرح من حيث قوانين الرياضيات منطقي جدا ، لكنه في الواقع ومع سائر الشواهد الأخرى مقلق جدا ، لأنه كما ذكرت عاليا لم يخرج الدفاع عن تلك الثوابت وانتقاد مهاجميها عن الإطار الخامل السلبي إلا مع تصاعد حدة عمليات جماعة أنصار بيت المقدس التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في سيناء بجانب التفجيرات المتفرقة في سائر المحافظات ، إن أطروحات إبراهيم عيسى مثلا ممتدة لسنوات ، وأطروحات إسلام البحيري أيضا ظلت لعشرات الحلقات دون أن يعيرها أحد من كل هؤلاء اهتماما ، وكذلك ميزو وغيرهم بل ومستمرة إلى الآن، ولكن تصاعد الشحن والغضب في نفوس الشباب والذي كان واضحا بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي (الترمومتر) هو ما فجر حملات الرد الذي لا يزال سطحيا وضعيفا ومنصبا على أثر تلك الأقاويل على (معركة الدولة ضد الإرهاب) أكثر من انصبابه على فساد أصل الإدعاء والشبهة، ومن الملحوظ باستقراء تواريخ التصريحات عاليا أن أغلبها كانت في مرحلتين ، الأولى أواخر يوليو وأغسطس 2014 ، وهي الأيام التالية مباشرة لمذبحة الفرافرة الصادمة التي مثلت بنتائجها وعدد ضحاياها مفاجأة غير معتادة أو متوقعة ، كما جاءت الحملة على بحيري - وهي المرحلة الثانية - في مارس 2015 - متزامنة مع تتابع إصدارات تنظيم بيت المقدس التي تلقى انتشارا وتداولا على مواقع التواصل الاجتماعي سواء للنقد أو التأييد والتي تركز على مسألة (الحرب على الإسلام) التي ذكرها المعلقون عاليا، والذين يعتبر كل واحد منهم نفسه أحد المجددين للخطاب الديني والداعين له، دون المساس "بالثوابت".
...
إذن ماذا لو كانت نفس تلك الحملات على الثوابت في توقيت (خال من داعش)؟! هل المنتفضون حقا ينتفضون لأجل الثوابت؟! ، أم لأجل الآثار الجانبية الحادة التي يتسبب فيها الهجوم عليها والتي قد تؤدي لاختلال الميزان على الأرض؟! هل الدفاع عن الثوابت وتحديد الثوابت نابع من قناعات المجددين، أم من قناعات من يحاربه المجددون؟ هل لو كانت الجماعات المسلحة المؤثرة في مصر مثلا تابعة لحزب الله وإيران لا تعترف في فكرها بالبخاري ولا تلقي له بالا ، ولا تكترث بل تؤيد التطاول على أبي بكر وعمر هل سيكون كتاب الصحيح حينها واحترام الصحابة على قائمة الثوابت المعنية بالدفاع العاجل؟! هل لو كانت الجماعات المسلحة علمانية ثورية مثلا هل سيترك المشككون العلمانيون من باب ألا يظن هؤلاء المسلحون أن (الدولة ضد العلمانية) ويستقطبوا الشباب من هذا الباب!! سؤال يبدو غريبا ولكنه لم يتبادر إلى الذهن إلا كنتيجة للتأمل في كل ما ذكر عاليا، فصاحب الثوابت ينبغي أن يدافع عنها لذاتها دون أن يشير مجرد إشارة لآثار إنهيارها على الواقع السياسي والأمني ، إن الذي يجدد الخطاب الديني لأجل الدين ، الدين فقط ، لا ينبغي أن يكون طرحه بهذه الصورة.
....
ثانيا: من يحدد القدر المتغير؟
....
أما عن القدر المتغير ، فاختيارات أغلب المتحدثين عن التجديد أيضا ليست مستقلة تماما عن اختيارات الجماعات الجهادية ، فإذا كانوا احتاجوا لشيء من الاتفاق غير المباشر معهم في ثوابت معينة لعرقلة عمليات التجنيد الناتجة عن مهاجمة تلك الثوابت ، فهم في نفس الوقت يحتاجون للتمايز عنهم في أمور أخرى ليبقوا مختلفين عنهم بل وربما ليصبحوا بديلا جاهزا لهم منتفعين بخوف الناس - في الداخل والخارج - لتحقيق انتشار ومكاسب لجماعاتهم أو مؤسساتهم أو مدارسهم الفكرية ، مكاسب يرونها دعوية أو هكذا يزعمون ، إنني كما أؤمن أن صاحب الثوابت لا ينبغي أن يرهب الناس "دنيويا وماديا" بآثار إنهيارها ، فكذلك من يدعو إلى التغيير "الحق" في وجهة نظره لا ينبغي أن يضع تغييره دوما في خانة المقارنة مع الأسوأ أو يقدمه في صورة البديل للـ "بعبع"، وهذا أمر ليس جديد ويشترك فيه الجميع ، وهو من الأمور التي تتسبب في وجود تناقضات فجة في الأطروحات.
.
فقد يسرف إخواني مثلا  في الانتقاد والسخرية من إعلان تنظيم الدولة للخلافة حتى يمتد دون أن يشعر لفكرة الخلافة نفسها رغم أنها من مباديء جماعته ، وينتقد حمساوي قيام التنظيم بتطبيق حد الرجم ، إما من باب نفي الحد نفسه وهو أمر يخالف مرجعيته "الإسلامية" وثوابته التي فيها السنة المصدر الثاني من مصادر التشريع، أو من باب أن التنظيم لم ينتخبه أحد ليطبق الحدود ، في حين أن حماس لم تطبقها وهي منتخبة ، ولم تتوقف عن تنفيذ عامة العقوبات في قطاع غزة بعد انتهاء ولايتها الديموقراطية "حسابيا" ، كما أن العقوبة التي توقع على الخائن العميل من قتل وسحل في شوارع القطاع لا تبدو أقل قسوة من الرجم مثلا ، كما يسرف السلفي السكندري في الحديث عن "القطبية" في الجماعات الجهادية واستغلالهم لمسألة الحاكمية ورفضهم للديموقراطية في الحين الذي لا يزال دستور الدعوة السلفية المتمثل في كتاب (منة الرحمن في نصيحة الإخوان) للدكتور ياسر برهامي والذي لا يوجد طالب علم في الدعوة إلا ودرسه ولابد، لا يزال الكتاب يشرح مسألة الحاكمية بوضوح وأنواع الكفر الأكبر الناتج عن تركها أو التقصير فيها ، وهي أنواع إذا تتبعنا شرحها في الكتاب سنجدها تشمل نظريا كل الأنظمة العربية تقريبا ، إلى حد النهي عن التعامل مع المحاكم التي تتعامل بالقانون "الوضعي" الذي تدعمه الدعوة الآن وبقوة ، لقد كانت الدعوة ترفض التعامل بالديموقراطية قبل ثورة يناير وهو من مواطن خلافها مع الإخوان المسلمين التي كانت تمارس الديموقراطية وتشارك في الانتخابات وإن زورت ، أما الآن فالجماعة عند الدعوة قطبية تكفيرية! بينما تذوب الدعوة السلفية وحزبها شوقا لأقرب انتخابات، وتسعى لأن تخالف الإخوان والجماعات الجهادية في أي شيء وكل شيء وإن وثق هذا الشيء في أصولها ومصنفات رموزها ومحاضراتهم التي لم يعلنوا حتى التراجع عنها.
.
ورغم أن الأزهر موقفه معروف من الجميع ، لكن هذا لم يمنع أن يضعه بعض أبنائه في نفس خانات المقارنة واستخدام التغاير في ترسيخ وضعه ، فتقرأ مثلا تصريحا للدكتور مجدي عاشور مستشار مفتي الجمهورية في جريدة الدستور 7 ديسمبر 2014 نقلا عن حواره في قناة سي بي سي (إن مناهج الأزهر كان لها الفضل في محاربة الفكر المتطرف، مؤكداً أنه لولا الأزهر لأصبح بالعالم 20 مليون داعشي) ، وتصريحا للشيخ أحمد ترك مدير عام بحوث الدعوة بوزارة الأوقاف (ولا وجود الأزهر الشريف لكان هناك 10 مليون إرهابي) وذلك في صحيفة الوطن 28 مايو 2015 نقلا عن حواره في برنامج "القاهرة 360" عبر فضائية "القاهرة والناس"، الأزهر ذو الألف عام يضع نفسه في كفة أمام كفة تنظيم عمره لا يتجاوز عشر سنوات ليظهر وسطيته ووسطية مناهجه، ولا يجد أيسر وأفضل من هذا الطريق المريب للدفاع عن معتقده ومنهجه.
....
في النهاية
....
من كل ذلك تظهر الجماعات الجهادية (تنظيم الدولة وقبله القاعدة والجماعة الإسلامية والجهاد في مصر) في صورة المحرك الأساسي - وليس الوحيد -  لعملية تجديد الخطاب الديني وتحديد ما يثبت وما يتغير في أفكار الأفراد والجماعات بطريقة غير مباشرة ، تحديد ما يجب تثبيته عبر خوفهم من استخدام اهتزازه في تجنيد الشباب ، وتحديد ما يتغير كدليل براءة من الانتساب إليهم أو التشبه بهم وأيضا كوسيلة للعمل كبديل "وسطي" لهم سواء داخليا في البلاد الإسلامية أو خارجيا لدى قوى الغرب ، فأصبح المصطلح الشائك يستخدم من المشككين أنفسهم زورا وكذبا إذ أن المتتبع لمآلات أطروحاتهم سيصل في النهاية إلى (نسف الخطاب الديني) وإخراج الدين كله إلى حيز المتغير الخاضع للهوى المحض ، وواهم من يظن أن الأمر متوقف عند نقد ثلة من العلماء أو الكتب، ويستخدم أيضا ممن يقفون في وجوههم ولكنه للأسف استخدام موجه غير صاف لا يعتمد على أساس ثابت وقاعدة محترمة في تحديد الثابت والمتغير، إلا ما رحم ربي ، وهذا استثناء لا أذكر أني قابلته ولكني أتورع عن نفيه مطلقا، وفي النهاية اتباع هذا الأسلوب وتواتر هذه التصريحات سيجعل ما يصل للشباب هو أنه لولا خوف تلك التنظيمات وخوف انضمام الشباب لها ما دافع الدعاة والمجددون عن الثوابت ولا تم تحجيم المشككين ، ولقال من شاء ما شاء، فما النتيجة المتوقعة لهذا الأسلوب إذن؟ للقاريء الإجابة.





الجمعة، 17 أبريل 2015

نقطة نظام.. تعريفات متأخرة


هذه الحلقة بناء على طلب المتابعين ، وتأخرها في الترتيب خطأ مني ولا شك إذ دخلت في الحديث عن شروط الحديث الصحيح دون المرور على بعض التعريفات الهامة.
.
الإسناد: هو سلسلة الرجال الموصلة للمتن ، أخبرني معتز قال حدثني مصطفى قال سمعت حسام يقول أن إبراهيم قال ( غدا أجازة رسمية) ، كل ما قبل القوس هو الإسناد ، ذكر نقلة الكلام ووسيلة نقله (أخبرني - حدثني - سمعت ... إلخ)
.
المتن: ما ينتهي إليه السند من كلام. ، الكلام الذي سيقوله إبراهيم في النهاية هو المتن (غدا أجازة رسمية).
علم المصطلح: علم بأصول وقواعد يعرف بها أحوال السند والمتن من حيث القبول والرد.
إذن فهذه القواعد التي ذكرناها في الأصل يمكن تطبيقها على أي سند وأي متن، ولكن بالطبع هي لا تطبق بهذه الصرامة إلا على السنة النبوية لتعلقها بالتشريع فهي مصدره الثاني ، ولكنها إذا طبقت على كل نصوص التاريخ في الدنيا فقد لا يصح منها شيء مطلقا، في ميزان علم الحديث، ناهيك عن تطبيقها على النصوص المقدسة في الملل الأخرى التي نقلت بأسانيد مليئة بالمجاهيل والانقطاع والشذوذ والعلل الظاهرة القادحة ومع ذلك تجد بعض المنتسبين للإسلام يظهرون لها من اليقين والتبجيل والثقة أضعاف ما يظهرون لنصوصهم الشرعية الثابتة بحجة أن نصوصنا الشرعية لم تنقل بأسلوب علمي!! وكأن الأخرى نقلت فيديو على الهواء مباشرة مثلا!! إنه الهوى والهزيمة النفسية والعياذ بالله.
.
ما هو الحديث المتواتر؟
شروط الحديث المتواتر أن:
1- يرويه عدد كثير في كل طبقة يستحيل تواطؤهم على الكذب ،
- عدد كثير فمثلا يروي الحديث عشرون صحابيا ويرويه عنه عشرون أو ثلاثون تابعيا (الجيل التالي  للصحابة) ثم يرويه عن التابعين أربعون من تابعي التابعين وهكذا .
- يستحيل تواطؤهم على الكذب: أي أن طبيعة حياة وسيرة وسكن الثلاثين تابعيا يستحيل معها أن يكون جلسوا معا واتفقوا على اختلاق الحديث مثلا أو تغيير شيء فيه ، فهذا في بلد وذاك في بلد ، والثالث مات ولم يلق الرابع والخامس والسادس في حياته كلها ،  وهذا سمع من شيخ (صحابي) لم يلقاه الآخر وهكذا وما إلى ذلك من الدلائل المنطقية على استحالة تواطؤهم على الكذب، وذلك في كل طبقة من الطبقات التالية.
2- ألا يقل العدد في طبقة عن الطبقة التي تليها ، فلا يرويه مثلا عشرين صحابي ثم ينقله عنه عشرة من التابعين ثم خمسة من تابعي التابعين ، العدد يزداد مع كل طبقة أو على الأقل يثبت.
3- أن يكون منتهى كلامهم الحس ، أي يكون كل منهم سمع بنفسه أو شاهد بنفسه.
.
ما هو حديث الآحاد؟
هو أي حديث لم يحقق شروط المتواتر ، فليس معنى الآحاد أن يكون رواه واحد فقط كما يعتقد البعض ، فقد يروي الحديث عشرة في الطبقة ولكنه آحاد لعدم تحقق الشرط الثاني مثلا ، وما إلى ذلك، وحديث الآحاد هو ما يتعلق به أكثر عمل المحدثين وشروط الحديث الصحيح الشديدة التي ذكرناها ، فعدم تحقق التواتر يزيد أهمية الحرص واليقظة في تحقيق الحديث.
.
فإذن ففرق بين أن أقول حديث صحيح وحديث حسن وحديث ضعيف ، وبين أن أقول حديث متواتر وحديث آحاد ، فهذا تقسيم وذاك تقسيم آخر ، الأول تقسيم من حيث القبول والرد ، فالصحيح والحسن (والصحيح لغيره والحسن لغيره) مقبولون ، والحديث الضعيف (بأنواعه) حديث مردود ، أما الحديث المتواتر والحديث الآحاد فتقسيم من حيث طريقة وصوله إلينا ، فالمتواتر دائما صحيح طالما حقق الشروط ، وأما الآحاد فيخضع للنقد والبحث وتطبيق شروط الحديث الصحيح التي ذكرناها من قبل.. والله المستعان
.

* لا تنسى قراءة الحلقات السابقة من السلسلة فهي مترابطة.
* مصادر للاستزادة
1- الباعث الحثيث في شرح اختصار علوم الحديث. للإمام ابن كثير وشرح الشيخ أحمد شاكر.
2- تيسير مصطلح الحديث للدكتور محمود الطحان
3-نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر. للإمام ابن حجر العسقلاني ، بتحقيق وتعليق أ.د عبد الله بن ضيف الله الرحيلي.
4- الرسالة للإمام الشافعي ، تعليق وتحقيق الشيخ أحمد شاكر.
5- المنهج النقدي عند المحدثين وعلاقته بالمناهج النقدية التاريخية، عبد الرحمن بن نويفع فالح السلمي.



الاثنين، 13 أبريل 2015

هل ينسى الراوي؟ (2)


توقفنا في نهاية الحلقة السابقة عند الشرط الرابع من شروط الحديث الصحيح وهو (انتفاء الشذوذ) ، وبينت شيئا من معانيه ببساطة ، والآن نذكر مثالا عليه لتوضيحه أكثر ثم نكمل.
عن {هَمَّامٌ} حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ( كُلُّ غُلاَمٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَ"يُدَمَّى"(.
عَنْ {سَعِيدٍ بن أبي عَروبَة} أَنْبَأَنَا قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ) كُلُّ غُلاَمٍ رَهِينٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَ"يُسَمَّى" (
{همام} روى الحديث بلفظ (يدمّى)
{سعيد بن أبي عروبة} روى الحديث بلفظ (يسمّى)
حديث همام هو الشاذ ، لأن سعيد ثقة ومن أثبت أصحاب قتادة ، أما همام فليس من الطبقة الأولى في أصحاب قتادة وثبتت له أخطاء في الرواية عنه وإن كان ثقة، فقدمت رواية سعيد على رواية همام وحكم على رواية همام بالشذوذ ولم تحقق شروط الصحة رغم اتصال السند وعدالة وضبط الرواة ، ولعل هذا اللفظ الشاذ - والله أعلم - سر الموروث الثقافي الذي يلتزم به البعض بوضع دم العقيقة على رأسه المولود وجسده.
.
الشرط الخامس: انتفاء العلة
والمقصود بالعلة وجود سبب غامض خفي يقدح في صحة الحديث، فانتفاء أحد الشروط الثلاثة الأولى (انقطاع السند أو وجود راوي غير عدل أو غير ضابط) يعتبر علة ظاهرة ، ولكن التدقيق في الحديث لا يقف عند هذا الحد فيبحث فيما وراء ذلك، كما الحال في الشرط الرابع.
مثال على وجود علة خفية قادحة.
الترمذي / حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي عن الأعمش عن أنس: قال كان النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض)
هذا السند متصل ظاهرا ، بجانب أن رواته عدول ضابطون ، العلة الخفية أن الأعمش عاصر أنس ورآه (اتصال ظاهر) ولكنه لم يسمع من أحاديث قط ، هذه علة "خفية" تجعل هذا السند منقطعا وبالتالي ضعيفا.
ولكن متن الحديث صحيح لأنه جاء بسند آخر متصلا محققا الشروط الخمسة، وهذه ملحوظة مهمة أن ضعف سند معين لمتن لا يعني بالضرورة ضعف المتن لاحتمالية وروده بأسانيد أخرى صحيحة.
.
فوائد مهمة:
1- إن كان تحقيق الأحاديث في المجمل عمل يحتاج لعلم ومهارة ودقة ، ولكن بلا شك أن التحقق من الشروط الثلاثة الأولى أسهل بكثير من الشرطين الرابع والخامس ، فالشروط الثلاثة الأولى يمكن تحقيقهما بالاطلاع على سيرة راو راو وأن بينهما اتصال ، وعلى تصنيف راو راو في كتب الرجال لمعرفة أحوالهم من حيث العدالة والضبط ، أما الرابع والخامس فيحتاجان إلماما كبيرا جدا بالسنة وبالطرق المختلفة للحديث الواحد، ومعرفة درجات الرواة الثقات في المجمل وعدم الاكتفاء بمعرفة كونهم ثقات وحسب ، ثم معرفة من أوثق من غيره في الرواية عن شيخ معين ، وقد ألفت كتب كاملة في علم علل الحديث لأهميته ودقته ، كل ذلك من أجل القول بأن حديث كذا صحيح ، وحديث كذا غير صحيح ، ولذلك لم يبرع في دراسة وتطبيق هذين الشرطين إلا الأئمة المتميزون المتبحرون في علوم الحديث وعلى رأسهم البخاري ومسلم وهذا من أسباب تميزهما ومكانتهما بين العلماء بشهادة العلماء من معاصريهم والأجيال اللاحقة.

2- الحديث الذي يحقق الشروط الثلاثة الأولى يسمى (صحيح الإسناد) ، أما (الحديث الصحيح) فلابد أن يحقق الشروط الخمسة ، وهذه ملحوظة تجدها في المواقع والبرامج الألكترونية التي تستخدم للبحث عن الأحاديث ، تجد مثلا في موقع الدرر السنية الشهير في البحث المتقدم اختيارات (أحاديث حكم  المحدثون عليها بالصحة) أو (أحاديث حكم المحدثون على أسانيدها بالصحة) والفرق كبير كما تبين ، فالأول يعني تحقق الشروط الخمسة عند مصنف الكتاب الذي ستجد فيه الحديث ، أما الثاني فيعني تحقق ثلاثة فقط ولا يعني بالضرورة تحقق الشرطين الرابع والخامس.

وفي نهاية هذه الحلقة أقول ، إن الشرح المبسط المختصر جدا لهذه الشروط يلقي الضوء فقط على شيء من الجهود والاشتراطات التي تحمي جناب الحديث من خطأ الراوي الثقة ونسيانه ، لكن جهود المحدثين لا تقف عند هذا الحد، وتحقيقهم لهذه الشروط ليس بهذه البساطة الظاهرة في الطرح ، والسلسلة مستمرة إن شاء الله لنتعرف أكثر وأكثر - سويا - ونوسع معرفتنا وثقافتنا - أيضا سويا - والله المستعان
.
 .........................................
* لا تنسى قراءة الحلقات السابقة من السلسلة فهي مترابطة.
* مصادر للاستزادة
1- الباعث الحثيث في شرح اختصار علوم الحديث. للإمام ابن كثير وشرح الشيخ أحمد شاكر.
2- تيسير مصطلح الحديث للدكتور محمود الطحان
3-نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر. للإمام ابن حجر العسقلاني ، بتحقيق وتعليق أ.د عبد الله بن ضيف الله الرحيلي.
4- الرسالة للإمام الشافعي ، تعليق وتحقيق الشيخ أحمد شاكر.
5- المنهج النقدي عند المحدثين وعلاقته بالمناهج النقدية التاريخية، عبد الرحمن بن نويفع فالح السلمي.



الجمعة، 10 أبريل 2015

هل ينسى الراوي؟ (1)


.سؤال مشروع جدا .. بل واجب
ولا تتعامل معه كأنه وساوس الشيطان وترفض التفكير فيه ، ولا تتعامل مع من يسأله على أنه مفتون بالضرورة وتكتفي بزجره.
المشكلة الحقيقية أن يطرح السؤال بأسلوب تقريري كوميدي .. هل ينسى الراوي ؟ .. وهل هناك إنسان لا ينسى .. إذن لا نأخذ السنة .. (يا سلام) .. أو نخضع قبولها وردها لميزان آخر أكثر عشوائية وتغيرا من ميزان التذكر والنسيان وهو ميزان عقل كل فرد وذوقه ورؤيته التي لا تكاد تتطابق بين فرد وآخر.
إن نسيان الراوي يمثل 50% من دواعي قيام علم الحديث أصلا ، بجانب ال50% الأخرى والتي تمثل كذب الراوي.
فهلا سألنا وبحثنا - إنصافا - عن الأدوات التي استخدمها المحدثون لتقصي ومعالجة ومواجهة هاتين الصفتين البشريتين وانقاذ السنة من آثارهما السيئة؟ قبل أن نلقي الاتهامات بهذه السطحية واللاموضوعية المثيرة للضحك والشفقة والغضب على سواء.
كمسلم عادي ، عامي للغاية سألت نفسي هذا السؤال كثيرا ، وكنت اسأله بفطرتي لا مدفوعا من برنامج هذا ومقال ذاك ، فلأن النسيان فطري ولأن الكذب وارد جدا على البشر يصبح هذا السؤال فطريا بالضرورة ، وبالضرورة يصبح العمل من أجل معالجتهما فطريا أيضا.
وبقراءة بعض الكتب القديمة والحديثة والاستماع للعديد من محاضرات المتخصصين ، أكتب ملخصا بسيطا جدا لنفسي قبل القاريء ، من أجل تحصيل شيئا من المعرفة معا كما قلت والتزمت في أول حلقة في السلسلة ، مؤكدا أنني أكتب من مقعد المتعلم لا المعلم ، منتظرا في التعليقات علما وإفادة وتناصح أكثر بكثير مما سأكتب، أكرر هذا ملخص بسيط أتجنب فيه بعض التفاصيل لعدم التشتيت.
.
متى يكون الحديث صحيحا عند علماء الحديث؟
الحديث الصحيح عند علماء الحديث لابد أن يحقق خمسة شروط:
الأول: أن يكون متصل السند، أي لا يكون هناك أي انقطاع بين الرواة ، لا يجوز مثلا أن يروي معتز عبد الرحمن عن جده وقد مات جده قبل مولده أو وهو طفل صغير لا يميز ، ولا يجوز أن يروي مثلا عن شيخ كانت حياته كلها بين الهند والصين والجزيرة العربية ، في حين أن معتز حياته كلها كانت بين مصر وليبيا وتونس مثلا ، ولم يثبت أنهم ألتقيا قط.
.
الثاني: أن يكون الرواة عدول ، والراوي العدل يكون مسلما بالغا عاقلا غير فاسق ولا مخروم المروءة ، والإسلام والبلوغ والعقل مفهومون ، أما أن يكون غير فاسق فأن يكون من المعروفين بالصلاح والتقوى وعدم الوقوع في الكبائر والمجاهرة بالمعصية ، وبالطبع من أهم الأمور التي تسقط عنه هذا الوصف أن يكون كاذبا أو متهما بالكذب ، فلا يعد الراوي من رواة الأحاديث الصحيحة إن علم عنه ذلك أو ثبت عليه ذلك بالتحري في مروياته ، أما ألا يكون مخروم المروءة فهو لا يأتي الأمور العيب التي تنتقص من صاحبها وإن لم تكن حراما ، وهي أمور تعرف عرفا وتختلف من زمان لزمان ومكان لمكان ، وهي طاعنة في عدالة الرواي وإن لم تكن حراما صريحا لعظم المسئولية التي يؤديها الراوي في نقل المصدر الثاني للتشريع الإلهي وهو السنة النبوية.
.
الثالث: أن يكون الرواة ضابطين ، أي معروفين بشدة الحفظ إن كانوا يحدثون من الذاكرة والحفظ ، أو بحفظهم لكتبهم إن كانوا يحدثون من صحفهم ، والأول يسمى (ضبط صدر) والثاني يسمى (ضبط كتاب) ، وحفظ الراوي وضبطه يعرف بمقارنة مروياته دوما بمرويات أقرانه ، فكلما توافقت مروياته مع مرويات الثقات كلما ثبت له الضبط ، وبمقدار ما يزيد اختلافه عنهم وتفرده كلما قل ضبطه ، وأما ضبط الكتاب فمن علم عنه عدم المحافظة على كتبه وثبت أن غيره قد دس له في كتبه شيئا فحدث به قلت درجته في الضبط أو ترك حديثه تماما حسب مقدار الخطأ، وهذا أمر أهتم به المحدثون إلى حد تحديد تاريخ ضياع أو احتراق كتب بعض الرواة الذين يحدثون مما يكتبون وإسقاطهم لما رووا بعد هذه الواقعة لأنهم كانوا معروفين بحفظ الكتاب فقط مع ضعفهم في حفظ الصدر وما إلى ذلك، وهذا شرط به درجات ، فالراوي الثقة ليس بالضرورة أنه لا يخطيء ولكنه معدود الخطأ ، بخلاف كثير الخطأ ، واختلاف الدرجة في هذا الشرط هي التي ينبثق عنها الحديث الحسن ، فالحديث الحسن هو نفسه الحديث الصحيح ولكن إن خف ضبط أحد رواته ، ولكن دون أن يصل ضبطه إلى درجة الضعيف.
.
ولكن لا يزال السؤال قائما، هل معنى أن الحديث متصل السند وأن الرواة عدول وأنهم ضابطون ثقات في حفظهم أنهم لا يخطئون وأن أي حديث يصلنا منهم يكون بالضرورة صحيحا؟
هذا دور الشرطين الرابع والخامس اللذين لا يذكرهما الكثير من المتحدثين عمدا أو جهلا ، فالراوي الثقة الحافظ - كما قلنا - قليل الخطأ وليس عديم الخطأ ، فكيف يتم التغلب على هذا الاحتمال؟
.
الشرط الرابع: انتفاء الشذوذ: والشذوذ هو مخالفة الثقة للثقات .
فالحديث بعد تحقق الشروط الثلاثة الأولى يقارن بمرويات الثقات الآخرين لنفس الحديث فإن خالفها ولو في كلمة واحدة علم أن الراوي هنا أخطأ، والشذوذ قد يكون في السند أو يكون في المتن ، في السند أن يكون الثقات كلهم رووه عن شيخ معين وبتسلسل معين والثقة المتفرد رواه عن شيخ آخر أو بتسلسل مختلف ، وفي المتن أن يكون الرواة الثقات رووه بمتن معين ثم خالفهم هذا الثقة ولو في كلمة فضلا عن أن تكون جملة ،فهذا مما يثبت به خطأ الراوي الثقة ، لذلك فكثرة الأسانيد للحديث الواحد مصلحة عظيمة بعكس ما يرى قصيرو النظر الذين يعتبرون كثرة المرويات مدعاة للنسيان والخطأ و(اللخبطة) ولكن هذه (اللخبطة) تكون للجهلاء مثلي ومثلهم ، أما أهل التخصص فكثرة المرويات تساعدهم على اصطياد الخطأ ولو ورد عن ثقة ، بالضبط كما في رواية التاريخ ، كلما كثر شهوده والوثائق التي تقصه سهل استخلاص القصة الحقيقية والوقائع الحقيقية ، بخلاف أن تكون المصادر قليلة.
والشذوذ لا يثبت فقط بالعدد ، أي أن يخالف القليل الكثير ، بل يثبت مثلا بفرق درجة صحبة الراوي وملازمته للشيخ الرواي ، فالتلميذ الذي لازم الشيخ كثيرا وسمع منه الأحاديث مرارا توثيقه في الرواية عن هذا الشيخ أكبر من توثيق من لقى الشيخ لفترة وجيزة ، فيقدم طويل الصحبة على قصير الصحبة ، فمعتز قد يكون أوثق من مصطفى عندما يروي عن محمد لأن معتز شقيق محمد ولازمه فترة طويلة وسمع منه مرارا وقرأ عليه مرارا بينما لم يتوفر لمصطفى ذلك ، ومصطفى أوثق من معتز عندما يروي عن إبراهيم لأنه لازم إبراهيم سنوات في مجلسه والدراسة على يديه في حين أن معتز لم يجالس إبراهيم إلا مرات معدودة وارد أن يكون في إحداها مرهقا هو أو إبراهيم فسمع الحديث مرة خطأ فحفظه بخطئه.
الشرط الخامس مع أمثلة أكثر على الشرطين الرابع والخامس في الحلقة القادمة إن شاء الله حتى لا نطيل ..

* لا تنسى قراءة الحلقة الأولى والثانية من السلسلة فهي مترابطة.

* مصادر للاستزادة
1- الباعث الحثيث في شرح اختصار علوم الحديث. للإمام ابن كثير وشرح الشيخ أحمد شاكر.
2- تيسير مصطلح الحديث للدكتور محمود الطحان
3-نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر. للإمام ابن حجر العسقلاني ، بتحقيق وتعليق أ.د عبد الله بن ضيف الله الرحيلي.
4- الرسالة للإمام الشافعي ، تعليق وتحقيق الشيخ أحمد شاكر.
5- المنهج النقدي عند المحدثين وعلاقته بالمناهج النقدية التاريخية، عبد الرحمن بن نويفع فالح السلمي.



الأحد، 5 أبريل 2015

على هامش كتاب من مكة إلى لاس فيجاس

على هامش كتاب
من مكة إلى لاس فيجاس
--------
ربما لو لم أكن قد زرت مكة والمدينة مرارا ولله الحمد ، وربما لو لم أكن أفكر في أشياء كثيرة وفي هموم كثيرة يوحي بها اسم الكتاب ما قررت اقتناءه فور سماعي به ، وما أقتنيته فورا عندما رأيته.
أنهيت الكتاب في سويعات معدودة ، لأخرج منه برغبة عارمة في الكتابة تحت عدة عناوين.
----
الأول: الحج السياحي... الفاخر
فكل رحلات الحج غير التابعة لقرعة الحكومة في مصر تسمى حجا سياحيا .. ولكنها درجات متفاوتة للغاية ، لو سلمت لقلمي في هذه النقطة فلن أنتهي وليس هذا مقامه ، فأنا شاهد على هذا الحج من الداخل إذ رزقني الله الحج والحمد لله منذ عامين ، والأمثلة والنقاط عندي عديدة ومتنوعة ومتشعبة ، ولكني فقط أريد أن أشير إلى الجانب الذي قد يكون متعلقا بالكتاب وهو مسألة مدى تناسب الرفاهية مع نسك الحج وأهدافه الشرعية ، إنني أريد أن أفرق بين التماس شيء من الراحة والسلاسة في أداء المناسك وبين الإفراط فيها إلى حد التجاوز ، أو بصيغة أخرى ، فالتماس روح الحج وثوابه لا يعني الضرورة تكلف المشقة وتعمدها ، وأحسب أن الحرص على التماس قدر من الراحة في أمور قد تشغل المشقة الحاج فيها بشكل كبير عن نسكه قد يكون مندوبا إن أحسن الحاج فيه النية ، وهذه النوع لن يتعدى الاهتمام بأن تكون الشركة مهتمة بالنظام ودقة المواعيد وتوفير حفظ الحقائب الثقيلة أثناء فترة الابتعاد عن مكة حتى لا تطحن عاتق الحاج في كل انتقالاته دون داع ، وتوفير الطعام (أي طعام)  ودورات المياه (المعقولة) في المخيمات لتخفيف العبء النفسي والجسدي على الحاج في هذه الأساسيات بشكل يجعله أكثر تركيزا وتأملا في مناسكه... فقط
لكن بالطبع هذه الأشياء ليست هي المعنية عادة بالحج السياحي .. الفاخر ، وقدرا وأنا اقرأ الكتاب وقع أمامي  إعلانا مرئيا لشركة حج كبرى ، لم يكن مفاجئا لي ما عرض به من وسائل الراحة والرفاهية والطعام الشهي فأنا كنت في نفس مخيمهم (نفس المطوف) وإن كانت تكلفة شركتي تقريبا قد تقترب من نصف تكلفتهم ، وكون المطوف واحدا يجعل الفرق في الراحة مقصورا داخل الخيم المعدة للنوم في كماليات الطعام وما شابه ولكن سائر الخدمات المشتركة متقاربة جدا أو واحدة تقريبا كدورات المياه وشمسيات مخيم عرفة وكراسيه المريحة .. باستفزاز .. لم يفاجئني ما وجد في الإعلان من حيث كونه موجودا ولكن فاجأني من حيث كونه مطروحا في الإعلان كأحد أهم عناصر الجذب للرحلة ، شيخ مشهور يعظ ويبكي ثم مشاهد البوفيه المفتوح ، شيخ آخر يعظ ويبكي ثم مشاهد الحلوى والكماليات ، وهكذا ، ومنذ فترة وقع أمامي أيضا إعلان عمرة لشركة كبرى أيضا علمت منه لأول مرة أن هناك فرق كبير في السعر ليس بين الغرفة المطلة على الحرم وغير المطلة وحسب ، بل بين الحجرة المطلة على الحرم والغرفة المطلة على الكعبة ، فليست كل غرفة مطلة على الحرم ترى الكعبة ، سعرهما مختلف عن بعضهما وبالطبع عن تلك التي لا تطل على الحرم، وغير ذلك ، فالكلام على هذه النقطة نحتاج دوما أن يكون بحرص ، فإن كانت البلوى عامة في كون الحج السياحي الفاخر لا يخاطب تلك الاحتياجات والراحة المستحبة التي ذكرتها ، ولكن تعميم الرفض لأي تفكير في وسائل التيسير قد لا يكون جيدا أيضا ، وربما يكون فيه شيء من التكلف والتشديد ، قابلت بعض أهله.
ورغم ما فات فاعلم أن أخطر ما في الحج السياحي الفاخر ليس كل تلك المظاهر الترفيهية المبالغ فيها التي تحول الحج لرحلة سياحية ترفيهية محضة إلى الحد أنه عندما يضطر بعض الحجاج لأسباب خارجة عن الشركة (الزحام وإغلاق الشوارع .. إلخ) أن يسيروا على أقدامهم ولو نصف كيلو - وهو رقم تافه جدا في رحلة كرحلة الحج - وبدون حقائب  يلعنون الشركة ومسئوليها ويذكرونهم أنهم (دافعين فلوس) ، إنما أخطر ما في الحج السياحي الفاخر هو الفتاوى السياحية الفاخرة ، اهتم الكاتب بالفتاوى التي تساعد على تدمير تراث مكة - وهذا سأناقشه لاحقا - فتذكرت تلك الفتاوى التي هي في الحقيقة المقابل الحقيقي للثمن المدفوع ، فالحج به حد أدنى من المشقة لن تلغيها كل مظاهر الترفيه ، ولكن الفتاوى وحدها هي القادرة على خفض مستوى هذا الحد الأدنى إلى أدنى المستويات ، وهي منتشرة جدا في الشركات السياحية الكبرى ، ولا تظن أنها مقصورة على الشيوخ المعروفين بالتساهل ، بل حتى من تعرف عنهم الصرامة والالتزام الشديد بالسنة ، تجدهم هناك أناسا آخرين ، فصاحب الفتوى الحقيقي هو صاحب المال والذي دعا هذا الشيخ دعوة مجانية لهذا الحج الفاخر ، كمجرد اسم جاذب للحجاج ، ولا ينبغي على الشيخ أن ينسى أو يتجاوز هذا الدور ، إلا ما رحم ربي، ولا داعي لذكر أسماء ، فأحد الخدمات المقابلة للمبلغ السخي هو ثلة من الرخص في غير موضعها مختومة بالموافقة الشفهية للشيخ المشهور ، الذي أحيانا يبيح الرخصة للفوج دون أداء دوره في مساعدة العوام لتمييز أحوالهم من يستحق الرخصة ومن لا يستحق ، ثم ينفرد عنهم بالأخذ بالعزيمة.. هيهات
----
الثاني: هل تعلمين يا أمي؟ لو خدروني في مول أبراج مكة أو مول أبراج البيت أو مول سيتي ستارز أو مول سان ستيفانو أو أي مول آخر في العالم العربي - وربما الغربي لأني لم أشهده - ثم استيقظت في مول آخر ، لن أنتبه أنني قد نقلت من مكاني فضلا عن أن أكون نقلت من المول فضلا عن أن أكون نقلت من البلد.
عبارة قلتها كثيرا لوالدتي وغيرها في العمرة وفي مصر ، وهذا ما أفرد له الكاتب الكثير والكثير ، وهو ما يستحق الملاحظة والغضب ، لا أعلم لاس فيجاس ولا أفهم في العمارة ولا أعلم تاريخ مكة العمراني وآثارها ، لكنني لا أحتاج كل هذا لأدرك منذ الزيارة الأولى هذه الغربة التي تنتابك فور الخروج من الحرم عندما تدخل مولا من المولات لتشتري طعاما أو حاجية من الحاجيات لتنسى تقريبا أين أنت ولماذا جئت ، ولولا محلات التمور وبعض المحرمين لربما نسيت تماما، إن الأنس الذي تشعر به وأنت تدخل مكة متأملا في بيوتها البسيطة ذات الدور الواحد والدورين يختفي في الدائرة المحيطة بالحرم ، ليبقى الشعور بالتغرب ويبقى سؤالا آخر ، لماذا لا يطال العمران والخدمات الرائعة أهل مكة البعيدين عن الحرم ، إن انتقل هذا العمران الفاخر بعيدا عن الحرم وظل محيط الحرم بسيطا متواضعا فهو جميل منطقي ، وإن عم هذا العمران الفاخر مكة كلها البعيد منها والقريب فهو منطقي كمدينة في بلد ثري وإن اختلفنا معه في الحفاظ على هوية مكة الإسلامية والعربية ، أما اختصاص محيط الحرم وإهمال سائر مكة فهو للأسف يؤيد الكثير من كلام الكاتب في كون الأمر تجاريا رأسماليا من الدرجة الأولى..
----
الثالث: كان لي منشور لا رغبة عندي في إعادته عن فتنة انتشار التصوير في الحرمين أثناء المناسك وتعارضها مع روح الحج والعمرة والعبادة، ولكن أقول لا يقف الزائر ظهره للكعبة وعينه على الساعة وهو يلتقط الصور وحسب ، بل أصبحت نسبة كبيرة من الصور تلتقط مع الساعة نفسها والأبراج والتوسعات لا الحرمين وإن إحتاج المصور للنوم على الأرض كي تدرك عدسته الساعة الشاهقة.
----
الرابع: أسئلة لا أجابة لها
ورغم أن كل ما فات يبدي أنني مؤيد للكاتب مطلقا ، ولكن أظن أنني لا أستطيع الوصول لهذه الدرجة بعد.
عندما أفكر في قضية كالتي يناقشها الكتاب أحب أن أخرج من الواقع الذي أدرك أبعاده لحد كبير وأدرك نوايا القائمين على تشكيله أيضا إلى حد كبير إن لم يكن إلى حد اليقين من وفرة الدلائل والشواهد ، لأنظر نظرة مجردة عبر طرح أسئلة مثالية..
إن الكاتب يقول أن زيادة الطاقة الاستيعابية للحرمين ومحيطهما حجة من حجج آل سعود وكبار المستثمرين (كمجموعة بن لادن) لتمرير المشاريع الرأسمالية المربحة ليس أكثر ، وهذا واضح من الأسلوب الذي يتم التعامل به مع قضية التوسعات وبناء الأبراج ، بل ومن خلال العبارات الصريحة المذكورة في كتيباتهم الدعائية و التي استشهد الكاتب بها مرارا  بشكل لا يدع مجالا للشك أن زيادة الطاقة الاستيعابية على حساب قداسة وهوية المدينة أهدافه استثمارية محضة وليس خدمة للحجاج والمعتمرين ويوصي الكاتب في نهاية الكتاب بهدم تلك الاعتداءات لننقذ شيئا من هوية المدينة الآخذ في الاختفاء ، هذا أفهمه بشدة في شأن الأبراج والفنادق التي ستزيد الطاقة الاستيعابية للأثرياء دون غيرهم وليس لزوار بيت الله الحرام في المجمل ، لكن ماذا لو أردنا التوسع في بناء مساكن متواضعة عادية لاستيعاب عدد أكبر من الحجاج والمعتمرين من الفقراء والبسطاء ، وماذا عن الاحتياج لتوسعة المصلى ، وماذا عن الاحتياج لتيسير انتقال الحافلات ووسائل المواصلات المختلفة الكثيرة جدا وقت الحج خاصة ، كيف سيتم ذلك أيضا دون احتياج للتوسع في البناء وتسوية شيء من الجبال والتلال وحفر الأنفاق وهي أشياء عدها الكاتب كلها من وسائل طمس هوية مكة وتدميرها وليس فقط بناء الأبراج وهدم المنشآت الأثرية ، التي لا أدري أيضا هل من الممكن - إذا ضاقت السبل- أن نضحي بتوسعة ضرورية لا رأسمالية إذا كان الثمن هو هدم مبنى او مبنيين من آثار الخلافة العثمانية أو غيرها ؟ هل علينا رغم الزيادة المطردة في أعداد المسلمين في العالم أن نبقي الحد الأقصى للحجاج ثابتا مع مرور العقود والقرون من أجل الحفاظ على كل شيء حتى الجبال والهضاب وقلعة ومبان لم تكن هي نفسها موجودة قبل خمسة قرون من أصل أربعة عشر قرنا؟ سؤال أسأله بصدق وتجرد، ولا أستطيع إجابته لبعدي عن التخصصين .. العمارة والفقه.
إن إجابة هذه الأسئلة - إن كانت موجودة - لا يكفي أن تبقى محصورة في نقاشات وكتابات المعماريين والفقهاء المتخصصة ، بل ينبغي نشرها لتكون رأيا عاما ووعيا عند الجماهير، لا يكفي أن نستمر في الصراخ (انقذوا مكة انقذوا مكة) ، فحجة زيادة الطاقة الاستيعابية التي يطلقها النظام السعودي قوية عند العوام الذين يتمنون أن تصل سعة الحرم إلى نصف مليار حاج ليحجوا إليه عاما بعد عام إن استطاعوا ، وهؤلاء لا يكفيهم وربما لا يعنيهم ما هي أهداف آل سعود في من زيادة الطاقة الاستيعابية طالما أنها في النهاية .. ستزيد.. إذن فهناك فرق بين نقد أسلوب التوسعة ، وبين نقد فكرة التوسعة ، هذا الفارق يذوب عند الناس عندما لا توجد بدائل واضحة مفهومة للأسلوب المتبع حاليا يستوعبها غير المتخصصين ويكتشفون باستيعابهم لها زيف ما يطرح عليهم.
----
الخامس: عن الفتاوى
ضربت بنفسي مثالا عاليا في مسألة خدمة الفتوى لرأس المال ، وإن كان الشيخ المشهور يقبل للأسف أن يخدم بفتواه صاحب رأس مال ضئيل نسبيا كصاحب شركة سياحة فما بالنا بأصحاب هذه التريليونات التي تطرح في مشروعات التوسعة والأبراج ، لا سيما مع كونها ظاهرا خادمة للحرمين. ولكن ..
لا ينبغي أن يتم التسوية بين كل الفتاوى وإن كان مآلها واحد وهو تمرير المشروعات الحالية، ويمكن تمييز ذلك بسهولة من خلال الحيثيات ومن خلال التناقضات ، فمثلا لا يمكن أن يتم التسوية بين فتوى بأعمال هدم تمت في العشرينات من منطلق شرعي - تتفق أو تختلف معه ليست هذه القضية الآن - وبين فتوى بأعمال هدم الآن ، حتى لو أردت مهاجمة كلا الفتوتين فلا يمكن أن يتم ذلك في سياق واحد وبحيثيات واحدة ، وأنا هنا لا أخاطب الكاتب بالضرورة ولكن الجميع وأنا منهم ، فالكتاب ذكرني بالمسألة ليس أكثر ، وكذلك التعليقات عليه على موقع الـ goodreads، إن كانت الفتوى شرعية فعلا ولو في مذهب صاحبها فالتعامل معها يختلف عن الفتوى المفصلة بشكل كامل لأصحاب المصلحة ، وتبيين خطأها والتحريض ضد فكرتها لا يصح أن يستعمل فيه موضوع (لاس فيجاسية مكة) في كل الأحوال ، أما إن كان - عبر دلائل وكشف تناقضات موحية - الأمر مصلحي بحت فحينها مفهوم جدا أن يستعمل هذا الأمر في الرد والتبيين ، فلا ينبغي خلط الحابل بالنابل والفتوى ذات الأصل الشرعي المعتبر والمحترم بالفتوى المفصلة على المقاس، فلا يمكن التسوية بين فتاوى جاءت في توقيت ربما بلغ فيه تعظيم الأحجار والقبور حد الشرك فعلا ، وبين فتاوى انتقائية تستند لنفس المسألة في واقع مغاير.
----
السادس: القداسة وعصبية الجاهلية
إن كان العنصر الرئيسي جدا الذي يدور حوله الكتاب ويدور حوله أي طرح يناقش نفس الموضوع هو قداسة مكة في الإسلام ، وتسبب تلك التوسعات الرأسمالية في اختفاء الذوبان والمساواة بين المسلمين على اختلاف أجناسهم وبلدانهم ومستوياتهم المادية والتعليمية والتي هي من أهداف الحج الظاهرة، فإن العمل في هذا الإطار ينبغي أن يكون أمميا لا "وطنيا" ، لا أن تعتني تركيا بالآثار العثمانية في مكة باعتبار أنها من تراث تركيا ، وهو المثال المذكور في الكتاب ، ثم تعتني أي دولة أخرى لها آثار تمثل فترة من فترات تاريخها في مكة دون أن تهتم تركيا حينها مثلا وما إلى ذلك ، إن كان هناك شيء في مكة لا تستشعر الأمة كلها أو جلها أنه ملك لها جميعا وجزء من تراث الإسلام لا مجرد جزء من تراث عرق مسلم تولى السلطة في وقت ما فإنه لا ينبغي أن يعامل "بشكل مطلق" كجزء من قداسة مكة ومكانتها الإسلامية ، لقد لمحت تلك النقطة في بداية الحديث عن هدم قلعة أجياد التي للأسف لم أسمع بها من قبل فقد كانت زيارة مكة الأولى بعد هدمها بنحو عشر سنوات ، وأحزنتني صورتها الجميلة وتمنيت لو رأيتها ودخلتها ، لمحت تلك النقطة في البداية ثم استبشعت الأمر جدا عندما وصف وزير خارجية تركيا المحتج هدم القلعة  بأنه كهدم أصنام بوذا على أيدي طالبان!! إذا كانت تلك القلعة أو ذاك الأثر لا يهم سوى فئة واحدة من المسلمين هم الأتراك ، ثم أنها تمثل عند ممثلهم تماثيل بوذا التاريخية للعرق الأفغاني فإنه لا يمكن التعامل معها كالتعامل مع المسجد الحرام أو بئر زمزم أو حتى بيت السيدة خديجة أو موضع ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يدري ، هل رأى أهل مكة منذ خمسة قرون أن بناء قلعة أجياد على التل المجاور للحرم اعتداء على الحرم مثلا وتغييرا لهويته؟ أقصد نحتاج لميزان الذهب حتى نفصل بين المقدس الحقيقي والأمر المتغير الذي قام في زمن ما للقيام بدور ما ، نحتاج ميزان الذهب لنزن هل مصلحة المسلمين الأكبر في استمراره أم استبداله ، في حالتنا الحالية تم استبداله بشيء فظيع اتفق مع الكاتب في كل ما قاله عنه تقريبا ، ولكن كما قلت سابقا ماذا لو أحتاج المعماري المسلم الحصيف الذي يعمل على الجمع بين مصلحة الحجيج وبين حفظ قداسة المكان إلى إزالة شيء كهذا؟ وهل يدخل في موازناته كون هذا الشيء يهم المسلمين عامة أو بعضهم خاصة؟ يمكن إضافة هذا السؤال للأسئلة التي لا أعرف إجاباتها عاليا .
----
السابع: الكتاب رائع
ومفيد على المستوى العام (التثقيف المعماري لغير المتخصصين) ، ومفيد في موضوعه الذي يستحق الإثارة والاهتمام جدا ، ينبغي - بشكل عام - إخراج البيت الحرام من كونه تابعا للنظام الحاكم أيا كان عثمانيا أو سعوديا (ربما لو حكم الأتراك ثانيا هدموا تراث آل سعود وشهدنا جدلا عكسيا) ، بل أنا أؤمن أن الإمامة والخطابة فيه ينبغي ألا تحكم بالجنسية السعودية ، ولكن بالطبع هذا أقرب للأحلام ، ولكن عموما ينبغي أن نعمل من أجل هذه الأممية ، وهذا الكتاب مفيد جدا في هذا الباب ، ويعطي للمسلمين في بقاع الأرض طرف خيط هام جدا للاهتمام ببقاعهم المقدسة والحرص عليها والاهتمام لا بأخبارها ولكن بتفاصيل أخبارها والتعبد إلى الله بحمل همها وحفظها من الغزو الفكري والثقافي قبل الغزو العسكري، وفي رأيي أن هذه المعركة يجب أن تشمل الحديث عن عمارة كل بلاد المسلمين وليس مكة والمدينة فقط ، ينبغي ان نخوض معركة الهوية في كل البلاد المسلمة فحفاظ الدول المسلمة على هويتها في كل شيء بما فيها العمارة بمثابة حصون تقف أمام انتهاك هوية الأراضي المقدسة ، أما أن يعيش المسلمين الاغتراب في كل بلدانهم ويتعايشوا معه  فهذا يسهل - بل سهل فعليا - اقتحام الاغتراب لآخر حصن من حصون هويتهم ..وهو مكة ذاتها.

جزا الله الكاتب خيرا ووفقه وتقبل منه.

الجمعة، 27 مارس 2015

عن مسألة.. سحر النبي صلى الله عليه وسلم

عن مسألة
سحر النبي صلى الله عليه وسلم

ومن الأمثلة المشهورة التي يستخدمها هؤلاء ليردوا السنة الصحيحة بالهوى مسألة سحر النبي صلى الله عليه وسلم ، يقولون أن في صحيحي البخاري ومسلم ورد تعرض النبي صلى الله عليه وسلم للسحر من اليهودي لبيد بن الأعصم ، وأن هذا لو أثبتناه يعد طعنا في نبوته فكيف نقبل به؟! فما يدرينا ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسحور وما قاله وهو معاف؟! (كأن النبي صلى الله عليه وسلم مات قبل انكشاف البلاء الذي يفسرونه خطأ أصلا)  ويضع القارئ والمستمع أمام اختيارين لا ثالث لهما ، إما أن تقبل الحديث وتسقط النبوة ، أو تثبت النبوة وتسقط الحديث ، وطبعا القارئ والمستمع البسيط المتعرض لهذا الإرهاب الفكري ماذا سيفعل؟!
هذا الأسلوب يذكرني بأيام الطفولة عندما كان بعض الأطفال الغريبة يسألون بعضهم البعض أسئلة من نوعية (تحب إيه أكتر تموت محروق ولا يأكلك أسد تعمل إيه؟!) .. والسؤال من الذي يجبرني على هذا الاختيار أصلا؟! .. وما يخضعني لهذه العقول الطفولية؟!

من الذي قال أصلا أن التعرض للسحر متعارض بالضرورة مع النبوة أو مؤثر على الرسالة لا سيما أن نوع السحر الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم مذكور بوضوح في الحديث ، ناهيك عن أنه كان أمرا عارضا في خلال ثلاث وعشرين سنة من الدعوة ، يقولون أن الحديث مخالف للقرآن ، وفي الحقيقة أن نفي الحديث هو المخالف للقرآن ، فاقرأ معي.

(عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت  : سحر رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال ( يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل ؟ فقال مطبوب قال من طبه ؟ قال لبيد بن الأعصم قال في أي شيء ؟ ... الحديث)
والرواية الثانية في الصحيح أيضا (عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت  : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا فقال ( يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للآخر ما بال الرجل ؟ .. الحديث)

إن السحر الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم لم يمس الوحي وما كان له أن يمسه ، بل كان أثره في أمر من أمور الدنيا ، أن يخيل إليه أنه فعل شيء وهو لم يفعله والرواية الثانية حددت هذا الشيء وهو إتيان النساء ، وهذا أمر دنيوي محض ، لم يخيل إليه أنه سمع من جبريل وهو لم يسمع منه ، لم يخيل إليه أنه أمر أمرا أو ونهى نهيا شرعيا وهو لم يفعل ، فالسحر أصاب الجانب البشري في النبي صلى الله عليه وسلم مثله مثل سائر الأسقام والآلام والجروح التي كانت تصيب النبي صلى الله عليه وسلم كبشر ، وتفيدنا في أن نتعلم منه كيف نتعامل في هذه المواقف ، وقد تعلمنا من الحديث رفع السحر بالإلحاح في الدعاء كما فعل بأبي هو وأمي ، فليتنا وقفنا أمام الحديث لنتعلم لا لنتوهم.

ومن المعلوم أن من يبتلى بالسحر في شأن ما لا يؤثر ذلك في بقية شئونه فمن أنواع السحر التي ذكرت في القرآن الكريم مثلا السحر الذي يفرق بين المرء وزوجه (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) سورة البقرة ، وهذا مشاهد في زماننا وكل زمان أن المبتلى بهذا السحر يكون معافى في كافة شئونه طبيعيا جدا إلا هذا الشأن ، فلما الخلط وافتراض عموم غير حقيقي.

السؤال الأهم: هل هذا التخييل يعارض النبوة في شيء؟ هل من خصائص النبي ألا يتأثر بتخييل السحرة في شيء لا يمس الوحي؟! هنا نعود للقرآن الكريم ..

لقد سحر سحرة فرعون أعين الناس ، وأوهموهم بسحرهم الذي وصفه القرآن بالعظيم أن الحبال والعصي حيات تسعى
(قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)) سورة الأعراف
 ولم تستثن عين نبي الله موسى من هذا التخييل
(قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)) سورة طه

خيل إلى نبي الله موسى كما خيل إلى غيره بل وأوجس في نفسه خيفة من المشهد الذي رآه وليس في هذا طعن في نبوته ولا في الشريعة التي بلغها للناس كما يزعم الزاعمون ،  وليس من خصائص النبوة ألا يتعرض النبي لمثل هذا النوع من السحر والتخييل بنص القرآن الكريم ، خيل إلى موسى أنه رأى ثعابينا وهو لم يرها ، وخيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يفعل الشيء (إتيان الزوجة) وهو لم يفعله ، ما علاقة الوحي في الأمرين؟  يفترضون الافتراض ويحددون الاختيارات الباطلة ويضعونك أمامها ويجبرك على الاختيار منها والاختيار الحقيقي ليس مكتوبا فيها.

واستكمالا .. هم يردون الحديث بقوله تعالى (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)) سورة المائدة ، ومن المعلوم جزما أن المقصود بالعصمة الحماية من القتل ، أما ما دون ذلك فالنبي يتعرض له كالإيذاء والمرض والجرح في الحرب ، وهذا النوع من السحر مثله مثل المرض العارض، بل من جهلهم بعضهم يرد بنفس الآية حديث الشاة المسمومة ، رغم أن السم لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأن الشاة حدثته بأنها مسمومة ولكنهم يرون أن مجرد وضع السم له يخالف العصمة ، فمن باب أولى أن مجرد رفع السيف عليه في معركة أو إصابته ودفعه ومرضه أمورا تخالف العصمة!! ولكن موازينهم مختلة.

ويقولون أن الحديث يصدق قول المشركين - بزعمهم -  (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)) سورة الإسراء ، وهذا واضح لمن يفهم أن المشركين كانوا يقصدون بذلك السحر الذي يجعلهم عجزة أمام هذا القرآن وبلاغته ، ويفشلون في تحدي الإتيان بسورة من مثله وهم أبلغ الناس وأفصحهم ، فأرادوا أن ينسبوا القرآن لقوة خارجية غير إلهية ليبرروا عنادهم وكفرهم فوصفوه صلى الله عليه وسلم بالساحر تارة والمسحور تارة ، حجة البليد كما يقولون والتي وصلت لأن ينسبوا القرآن الكريم الذي فشلوا في تحدي فصاحته إلى رجل أعجمي  (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)) سورة النحل، فوصف الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالمسحور  يقصدون به الوحي وليس هذا التخييل العارض في أمور الدنيا ،  بعيدا عن أنهم قالوا ذلك في بداية البعثة في مكة والواقعة كانت بعد الهجرة في المدينة محددة ببداية ونهاية ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه ومعجزاته ممتدة من أول لحظات الوحي حتى وفاته صلى الله عليه وسلم، قبل الواقعة وبعدها.

وهكذا يستخدم القرآن في غير موضعه ، وتوضع قواعد لا أصل لها ويحاكمون الحديث على أساسها كما بينت من قبل في مثال الحيض وعدة أم المؤمنين صفية.

ملحوظة: ستجد نقاش كل هذه الأحاديث والشبهات في كتب كتبت في القرن السابع والثامن الهجري ، فكما ذكرت من قبل هم لم يأتوا بجديد ، وأننا أمة لم تدخل الكهف بعد البخاري وتستيقظ الآن ، ولكن من يبحث ويتعلم؟!


ملحوظة أخرى: كثير ممن يثيرون هذه النقاط يشككون في الأمور الغيبية الثابتة في القرآن بما فيها السحر عموما ونصرة الملائكة للمؤمنين وغير ذلك لكنهم لا يكشفون ذلك إلا بعد الاطمئنان أن الطعم الأول قد أبتلع بنجاح.