الاثنين، 30 يوليو 2012

الجزء الثاني عشر، فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ


أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
الجزء الثاني عشر
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
معتز عبد الرحمن
سورة هود بحق سورة تخطف العقول وتزلزل القلوب وتملأ الوجدان بمعاني جليلة عظيمة ، تقرأ قصص الأنبياء الكرام مع أقوامهم ، قصص نضال المؤمنين وصبرهم في سبيل الله ، وقصص عناد المشركين والظالمين وطغيانهم وكبرهم ، قصص نجاة من آمن واتقى ،وقصص هلاك من طغى وكذب ، وبعدما تسافر عبر الأزمان والأمكنة لتعيش مع كل نبي قصة رسالته وبعثته وكأنك تسمع صوته وهو ينادي عليهم ويعظهم وتسمع على إثرندائه ضحكاتهم وسخريتهم ووعيدهم له ولمن آمن معه ، وكأنك ترى الهم والحزن على وجوه المؤمنين وترى الاستعلاء والكبر على وجوه الكافرين ،وعند بلوغ التكذيب مداه وتخطي الطغيان لحده يأتي العذاب من عند الله وتنزل العقوبة فكأنك ترى الغرقى حولك يستغيثون ، وترى من أخذتهم الصيحة حولك جاثمين ، فإذا ما استشعرت ذلك كله وامتلأ قلبك بهذا المشهد العظيم تقرأ قوله تعالى (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)) ، فهذه قصص ليست للتسلية أو للمعلومات العامة ولكنها لتذكر القلوب الحية ، وتزلزل القلوب الغافلة وتنذر من كان حيا أننا إن عصينا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلسنا بمأمن مما وقع لأسلافنا ولسنا في حرز من العذاب.

تنقلك السورة بعد ذلك من معايشة الماضي في قصص الأنبياء وأقوامهم إلى معايشة المستقبل وما في يوم القيامة من أهوال وقلق وتوتر (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)) شقي في جهنم وجحيمها ، وسعيد في الجنة ونعيمها ، خلود للكافرين في النار بلا موت ، وخلود للمؤمنين في الجنة بلا موت ، فحتى من لم يكتب عليه العقاب في الدنيا فأين سيذهب من عمله السيء يوم القيامة؟! تصل لأواخر السورة منتبه خائف بعد أن أخذت العبرة من مصير من انحرفوا عن منهج الله ودعوة أنبيائهم ، وبعد أن علمت المصير المرعب الذي ينتظر من حاد عن الطريق وعصى ربه ، تريد أن تعرف السبيل الذي ينجيك من هذه الأهوال ومن هذا المصير ، وتعرف الطريق الذي يصلك بك مع السعداء هناك في جنات النعيم ، فيأتي الأمر من الله الملك ذي الجلال والإكرام :

(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112))

لبيك يارب ، ومن يرفض طريق الاستقامة بعد كل ما سمع! ومن يطغى ويسير في طريق المعصية بعدما علم ما علم! ومن يتجاهل هذا الأمر بعد كل ما قرأ في هذه السورة الجليلة من عبر وعظات وإنذارات ! إن هذا الأمر الذي اختتمت به السورة هو غاية الدين وغاية ما يريد المؤمن الوصول إليه (قل آمن بالله ثم استقم)، ولكنه أمر يحتاج إلى صبر عظيم وجهد كبير في مجالدة النفس وأهوائها والشيطان ووسواسه وأهل الباطل وطغيانهم ، ومن أعظم مصادر هذا الصبر والثبات (وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)) ، فلا تكن قصص الأنبياء بالنسبة لك "حواديت" خاوية من العظة والمشاعر ، فإنها ما جاءت إلا لتثبت قلوب المؤمنين وتوقظ قلوب الغافلين وتنير الطريق للسالكين.

وآخر ما أذكره في شأن هذه الآيات الجليلة أن السورة بينت للجميع طبيعة الصراع بين الحق والباطل ونسفت المنطقة الرمادية التي يقف فيها الكثير من الناس ، فالإنسان إما مناصرا للحق وإما واقعا في الباطل ولو بشكل غير مباشر ، لذا أعقب الأمر بالاستقامة نهيا عظيما مخفيا (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)) فمجرد الميل إلى الظالم أو قبول أفعاله والسكوت عنها يدفع إلى جهنم والعياذ بالله ، فما بالك بتبرير أفعاله أو الدفاع عنه والتعاطف معه! فلا مكان للحياد بين الحق والباطل ، ولا توجد منطقة وسطى بينهما ، فإما تكون مؤمنا بالحق داعيا إليه محاربا للباطل والفساد وإما فليخش كل منا على نفسه (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)){هـود} ،، (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) {الأعراف-165}

اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق