الخميس، 26 مارس 2015

إمام أهل الفيزياء


***
كنا كثيرا ما نقول في الكلية (تخيل كم كنا سنرتاح إذا أكل نيوتن التفاحة بدلا من أن يفكر في أسباب  سقوطها) هذا بعيدا عن كون هذه القصة صحيحة أم لا ، ولكن سبب "القلشة" السخيفة هو أن قوانين وجهود نيوتن قد بنيت عليها علوم كثيرة لاحقة كنا نعاني في دراستها في الكلية ، بل اسمه يطلق على أحد أشهر وحدات القوة ، نفس التعليق قد يقال على أرشميدس صاحب قانون الطفو الذي تصمم به السفن والمنشآت البحرية إلى الآن، ليته اغتسل واقفا ، وقد كان لي تعليق أسخف لم يستعمله غيري حول (برنولي) ، فبعد سنتين من دراسة ميكانيكا الموائع والهيدروليكا لم أجد خطوة أو معادلة تقريبا إلا ويبدأ اثباتها من معادلة (برنولي) ، فكنت أقول إنه لو ثبت خطأ هذه المعادلة الآن فسينهار مبنى قسم الهيدروليكا نفسه لا العلم فقط.
***
هكذا هي العلوم ، بحار لا شاطيء لها ، وعلماء لا يحصى عددهم ، ولكن يكتب لبعضهم القبول والتميز وخلود أسمائهم بوصولهم لنتائج وتقديمهم لخدمات علمية لم يوفق غيرهم إليها ، ولكنهم لا يصلون إلى هذه المكانة إلا بعد رسوخ هذا التميز بخضوعه لدراسات أقرانهم وخلفهم وثبوت صحته ، فمما لا شك فيه أن نيوتن ليس وحيدا في مجاله ولا أرشميدس ولا برنولي ، حتى في هذا العصر الأبحاث لا تنتهي و عدد الأبحاث التي تقدم في مؤتمر واحد يتخطى المئات ولكن استمرارية المنتج العملي وعلو ذكره يعتمد على مدى دقة البحث والتي تتبين من خضوعها للدراسة المتخصصة ثم مدى نفع هذا المنتج للبشرية في مجاله والمجالات الأخرى التي تحتاجه.
ولا تظن أن هذا مرتبط فقط بعلوم الطبيعة التي تصف فيها المعادلة حقيقة كونية يمكن اثباتها بإجراء آلاف التجارب العملية فتعطي نفس النتيجة ، فليس جل هذه النظريات والمعادلات كذلك بالضرورة ، ولكن حتى إذا نظرنا إلى علوم اللغة (العربية أو غيرها من اللغات) وعلوم البلاغة مثلا وهي علوم غير تجريبية رأينا أيضا نفس الأمر ، فعلى مدى العصور وضعت للغات قواعد وتميز فيها أقوام وكتب ومصنفات ، صارت مرجعا به نحكم على اتقان كتّاب ومتحدثي اليوم للغة ، ولا يمكن لأحد ولا يسمح لأحد أن يأتي اليوم ليلغي قاعدة لغوية أو يضع قاعدة لغوية هكذا بلا سند ولا دليل علمي مبني على أصول هذا العلم المترسخة على مدى قرون ، وفي مجال كهذا أيضا ينبني التميز على نفس القاعدة ، فالمصنفون كثر والكتب لا تحصى وإنما تميز هذا الكاتب وهذا العالم وذاك الكتاب يإقرار أهل المجال له ودراستهم لتفاصيله وعرضها على أصول العلم ، وعلم اللغة كمثال هو علم موروث منقول بأسانيد لن ترقى بأي حال إلى قوة ودقة أسانيد السنة ولم تخضع لنفس التدقيق والاهتمام ، وكذلك العلوم الأخرى كالتاريخ والفلسفة والمنطق ، فكل هذه النظريات والأحداث والعلوم بين أيدينا ، يعرف المتخصصون غثها من سمينها ويعرفون كيف يميزونها ، والأهم أنه لا يسمح لغير المتخصصين ولا يقبل منهم الحديث فيها جزافا ، بل لا يقبل من المتخصص أن يأخذ منها ويرد برأيه وهواه دون حجة ودليل من بطن العلم الذي يتحدث فيه.
***
هذه حقائق مشاهدة ومقدمة أردت أن أرسيها لترى كم التناقض الذي يحدث في هذه الحقائق إذا ما تتطرق الحديث إلى علوم الشرع ، يتجاهل المغرضون والسطحيون كل هذه الأسس التي يطبقونها في أي علم آخر ، فيسمح للجاهل بالكلام ولا يطالب بحجة علمية على ما يقول ، بل هكذا بهواه وحسب ، ويسمح لمن له تخصص أن يتكلم دون عودة أيضا لهذا التخصص الذي يدرسه ، ويسمح العوام لأنفسهم أن يقبلوا ويردوا هكذا (خبط لزق) في نفس الوقت الذي لن يقبل أحدهم بطعن في نيوتن إلا إذا أقره أهل الفيزياء ، ويتورع أن يفتي في إعراب كلمة لجهله باللغة ، أو أن ينفي حدث تاريخي أجمع علماء التاريخ على حدوثه ، أو أن يقول مثلا علم الفلسفة ليس علما أصلا ، فإذا ما طولب بالمثل في علم الشرع اتكأ على أريكته وتحدث شيطانه (أنا عقلي يوزن بلد) ، أو أن هذا ليس بعلم أصلا وأسلوبه ليس علميا!! ( عن عن عن ) وخلاص!! وكما أن جهاز الكفتة مثلا قد أثار ضحك أهل التخصص بمجرد السماع به فإن قول مثل هذا الجاهل (والجهل ليس سبة إلا عندما يجهل صاحبه أنه جاهل فيصير جهله مركبا) في علوم الشرع تضحك أهل التخصص بل تضحك من له أدنى ثقافة عامة ومعرفة سطحية بهذه العلوم، فهو لا يدري أصلا كمثال أن هذه العنعنة قد تقبل وقد ترد ولا يدري ماذا وضع العلماء على مدى أربعة عشر قرنا من قواعد وأصول بديعة لتمييز هذه العنعنة ، يتكأ ويقول كمثال آخر هؤلاء يهتمون بالسند فقط ولا ينظرون في المتن!! وهو لا يدري أيضا مدى دقة هذا الاهتمام بالسند وتأثيره في صحة المتن ناهيك عن كونه لا يدري أن شرطين من شروط صحة الحديث الخمسة متعلقة بالمتن مع السند وليس السند فقط.
***
ولكن من أجل المخدوعين المساكين غير المغرضين ولا أصحاب الهوى ، ومن أجل أنفسنا وأولادنا صرت أؤمن أنه لا ينبغي الرد فقط على مثل هذا الهراء بقول (لست من أهل العلم كي تتكلم أو تقيم ، ولست أنا كذلك) ، فهذه وإن كانت عبارة صحيحة أصبحت غير كافية لا سيما في ظل قلة أهل العلم وسكوت بعض هذه القلة وانشغالها بقضايا غير واقعية بالمرة، فسأحاول ويدي في أيديكم أن نحصّل معا شيئا وحدا أدنى من هذه المعرفة في هذه النقطة لعلها تكون بذرة خير لي ولكم..
**
تابعوني.. انصحوني

     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق