السبت، 27 نوفمبر 2010

حتى لا نسقط في مقبـرة المجتمعـات



حتى لا نسقط في مقبرة المجتمعات
معتز عبد الرحمن
رغم أن الظلم بشكل عام هو أقوى مسمار في نعش أي أمة ، إلا أني فضلت أن أتكلم عن نوع خاص من أنواعه أراها- في وجهة نظري – هي الأخطر على الإطلاق، فالإنسان قد يُظلم مرة ويتم انصافه مرات ، أو يظلم مرات وينصف مرات ، ففي كل موقف يظلم فيه يحزن ويغضب ولكن لا يفقد الأمل في أن يعود له حقه أو على الأقل ألا يتعرض للظلم في المواقف المستقبلية ، أما إذا شعر الإنسان أنه مظلوم اليوم وسيكون مظلوما غدا وبعد غد ، وأن تصبح حسناته سيئات ، وسيئاته كبائر ، وكبائره كفر، ويشعر أنه المتهم الأول في كل المصائب وإن لم يكن له فيها ناقة ولا جمل ، ويكون منسيا في الخيرات مهما ساهم فيها بجهد وعمل ، فهذا هو عين الشعور بالاضطهاد ، قال تعالى في وصف اضطهاد آل فرعون لنبي الله موسى وقومه  (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)) الأعراف
فالشعور بالاضطهاد هو المقبرة التي تستطيع أن تضم جثمان أي مجتمع مهما كانت عراقته وقوته.

الشعور بالاضطهاد بين الحقيقة والوهم
ولعلك لاحظت أيها القاريء الكريم أنني استخدمت لفظ (الشعور بالاضطهاد) ولم استخدم لفظ (الاضطهاد) وذلك لأن المجتمع يتعرض للخطر لمجرد وجود هذا الشعور حتى وإن لم يكن حقيقيا ، فليس كل من شعر بالاضطهاد مضطهدا في الواقع ، فالاضطهاد منه الحقيقي والوهمي ، الحقيقي هو الذي تقوم عليه دلائل ظاهرة بينة من الواقع تبين أن هذا الشخص أو هذه المجموعة موضوعة تحت النظارة السوداء كما ذكرنا آنفا ، فهي معرضة للنقد أساءت أو أحسنت ،حقوقها دوما مسلوبة وإذا أخذت منها شيئا يكون على سبيل المنحة لا الحق ، والاضطهاد الوهمي هو شعور دخيل في نفس من يريد أن يشعر بالاضطهاد ، كل أدلته تفسيرات مريضة للأحداث العادية التي تحدث كل دقيقة لكل الناس ، يعيش كامل الحقوق محمود العمل ، إلا أنه استطاب دور الضحية لأسباب نفسية وأحيانا سياسية.

الشعور بالاضطهاد داء الفرد والجماعة
لقد أعتدنا دوما عند تناول مسألة الاضطهاد أن تنصرف أذهاننا نحو قضايا الأقليات وحقوقهم ، وهذا – في تقديري - تناول قاصر، فمسألة الشعور بالاضطهاد تصيب الأفراد والجماعات على حد سواء ، فلابد أن نعتني بالفرد وحقوقه كما نعتني بالجماعة ، لإن الفرد هو لبنة في هذا المجتمع فإذا تركنا نيران الشعور بالاضطهاد تأكله فهذه أول ثغرة في جدران المجتمع ، وإذا تتابعت مع أفراد هنا وجماعات هناك انهار المجتمع على من فيه، لذا سأحاول في السطور القادمة أن أناقش باختصار مظاهر وآثار كلا النوعين – الحقيقي والوهمي – على كلا العنصرين – الفرد والجماعة.

الاضطهاد ، قتل المواهب وصناعة التطرف
لا تكاد تخلو عائلة من فرد تعامله بقية العائلة باضطهاد ، لا تكاد تخلو مؤسسة من موظف موضوع في القائمة السوداء ، لا يخلو مجتمعنا – للأسف – من نماذج كثيرة ممن يطلق عليهم في لغة الناس الآن "المغضوب عليهم" ،ورغم أن الاضطهاد لا يبرره شيء أبدا ، إلا أنك لا تجد في صحيفة هؤلاء شيئا يستحقون عليه ولو جزء مما يلاقونه من "ديمومة الظلم" ، لا تجد أسبابا غير الأهواء الشخصية – الشريكة العظمى في كل مشاكلنا الاجتماعية – وربما الغيرة والرغبة في تحجيم النجاح ، ويزداد عجبك عندما تجد في بعض الأحيان أن السبب هو مجرد الإهمال في اكتشاف ومتابعة المواهب وتطويرها ، ويزداد سخطك عندما تجد أن أسباب الاضطهاد كلها صنعت بإيدي المضطهـِد المريضة ، يستفز بها المظلوم لتصدر عنه ردود أفعال تكن بعد ذلك ذريعة الاضطهاد.

وتأخذنا هذه النقطة إلى مسألة اضطهاد الطوائف والفئات ، فممارسة الاضطهاد ضد طائفة معينة لا توقف فكرا ولا تغير توجه ، وإن تغير فإنه يتغير إلى الأسوأ ، فليس كل مظلوم قادر على الصبر فشعور الفئة بالاضطهاد دون سبب – خاصة إذا كانت هذه الفئة هي الأقرب للصواب ولإخلاق المجتمع وقيمه – قد يؤدي لردود أفعال غير محمودة ، فيتحول الاضطهاد التعسفي إلى اضطهاد مبرر ، ويزداد الضغط على هؤلا المضطهدين من باب حماية المجتمع من شرورهم ، وتظل المزايدة بين الفعل ورد الفعل ، حتى تخرج الأمور عن السيطرة ، ويدفن المجتمع في المقبرة.

فكلا الأمرين خطير ، فاضطهاد الأفراد يورث الإحباط ويقتل المواهب ويخسر الأمة الكثير من كوادرها وثرواتها البشرية ، واضطهاد الطوائف والفئات يصنع التطرف ويخلق الكراهية ويحجب العقول ويدخل المجتمع في دوامات يصعب إيقافها وأمراض يصعب علاجها، وعلى كل من يساهم في كليهما أن يعد من الآن جوابا للسؤال أمام الله تعالى عندما يجد في صحيفة سيئاته " تدمير مجتمع مسلم" ، وعليه أن يتذكر (اتقوا الظلم . فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ) رواه مسلم، وعليه أن يتذكر (يا عبادي ! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما . فلا تظالموا) رواه مسلم ، وعليه أن يتذكر (الظلم ثلاثة ، فظلم لا يتركه الله ، و ظلم يغفر ، و ظلم لا يغفر ، فأما الظلم الذي لا يغفر ، فالشرك لا يغفره الله ، و أما الظلم الذي يغفر ، فظلم العبد فيما بينه و بين ربه ، و أما الظلم الذى لا يترك ، فظلم العباد ، فيقتص الله بعضهم من بعض) حسن لشواهده، السلسلة الصحيحة.

توهم الاضطهاد ، تبرير العجز وصناعة الفتنة

"حجة البليد" هو ما أستطيع أن أصف به ذلك العاجز المقصر عندما يدعي أن تقصيره بسبب ما يتعرض له من اضطهاد من روءسائه وزملائه وإخوته وأقاربه ، فإنه يُمنح كل الفرص ويأخذ كل الحقوق ومع ذلك لا تكاد أسطوانة الشكوى تتوقف أبدا ، وقد يكون بداية الأمر موقف تعرض فيه فعلا للظلم أو لعدم التقدير، لكنه يسقط ذلك الموقف على كل مواقف حياته التالية ، ويفسر كل المواقف بشكل سلبي ، وعلى حد علمي أن هذا الشعور الوهمي قد يؤدي لمرض نفسي ويدخل هذا المريض في دوامة لا يعلم مداها إلا الله.

أما إذا أردت تدمير مجتمع آمن مستقر، تعيش كآفة طوائفه في تكامل بديع وسلام اجتماعي لا يوصف ، لا تحاول أن تحاربه عسكريا ولا حتى اقتصاديا ، بل أيسر ما يمكنك فعله أن تسرب ثقافة الشعور بالاضطهاد إلى أحد أو بعض أقلياته ، وأن تغطي أعينهم بسحابة سوداء من دخان الوهم والكراهية ، فإذا تم الإحسان إليهم فسروه بأنه مكر وخديعة ، وإذا تعرضوا لإساءة - يتعرض لها كل أبناء المجتمع من كل الطوائف - فسروها بأنهم هم المستهدفون بها ، وإذا كانت التفسيرات المريضة للأحداث لا تكفي لتبرير دور الضحية ، فلا مانع من تأليف بعض القصص الوهمية التي قد تضحكك من سذاجتها إلا أنها تشعل نيران الفتنة في قلوب من استهوى الفتنة واستطاب الشعور بالاضطهاد ، إن هذا التوهم هو أكبر مصانع الفتنة وأيسرها في أي مجتمع ، ونتائجه قد تكون أخطر من نتائج الاضطهاد الحقيقي الذي ذكرته آنفا لأنه في هذا الحالة يكون موجها مدبرا ، لذا فينبغي لأولي الألباب ألا يسقطوا فيه ، ويبحثوا عمن وراءه وعن المستفيدين منه ، ويتصدوا لهم ويوقفوهم ، ويأخذوا على يد كل من عاونهم من داخل المجتمع - بعلم أو بجهل - إن كانوا صادقين في حبهم للمجتمع وكراهيتهم للفتنة.

وأخيرا ، تنبيه وعون ودواء
إن هذا الموضوع كان من أصعب ما كتبت ، وهممت أكثر من مرة بالتوقف عن إتمامه ، إلا إن ما أراه حولي في مجتمعنا وفي العالم أجمع دفعني للاستمرار ، لعل الله يجعل في كلماتي تنبيها وعونا ودواء.
 تنبيها للأمة عامة على خطورة هذه الظاهرة وأهمية التصدي لها  ، وتنبيها لكل من يساهم في اضطهاد وظلم أي فرد أو فئة أن يتقي الله وألا يستهين بفعله هذا وأثره على المجتمع وألا يستهين بدعوة المظلوم وأثرها ، وألا يستهين بجزاء الظلم يوم القيامة فهو كما ذكرنا ظلمات وكرب (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) )سورة إبراهيم.
 وعونا للمظلوم  فأقول له صبرا فلكل ليل نهاية  (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(128) ) الأعراف ، ولا تحبط ولا تستسلم ، وأسعى وراء حقوقك دون أن تسقط في دائرة التطرف أو تخرج عن الصواب ، فحقك إن لم تأخذه في الدنيا فستأخذه في الآخرة بلا شك وسترى من ظلمك أمامك مفلسا (أتدرون ما المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : إن المفلس من أمتي ، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا . فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته . فإن فنيت حسناته ، قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه . ثم طرح في النار) رواه مسلم.
 ودواء لمرضى الأوهام ليفيقوا من أوهامهم ويعملوا عقولهم ، ولا يكونوا معولا للهدم ، ولا يسقطوا المجتمع في فتن تطيش فيها العقول وتجعل الحليم حيرانا.
 ---------------------------------------------------------------------------------
الآيات القرآنية نسخ ولصق من موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
http://www.qurancomplex.org/
الأحاديث النبوية (وراويها ) نسخ ولصق من موقع الدرر السنية – الموسوعة الحديثية
http://dorar.net/enc/hadith

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق