خواطر تحت الأنقاض
بين بوستر الشعراوي وعقيدته
الفاسدة
كنت في الصف الثاني الإعدادي - ربما - عندما توفي الشيخ محمد متولي
الشعراوي رحمه الله ، وكنت قبل هذا التاريخ أنفق شيئا كبيرا من أحلام يقظتي في
تخيل وتمني مقابلة الشيخ ورؤيته ، بل وكنت أحيانا أتساءل كيف سيكون شكل العالم
عندما يموت الشيخ الشعراوي! لابد أن الكون سيظلم ، أظن أن عددا كبيرا سيموتون حزنا
في هذا اليوم ، لابد وأظن لابد وأظن ،، ثم أطرد الفكرة عن بالي سريعا لصعوبتها على
نفسي ، ولما جاء يوم وفاته فعلا كنت في الشارع في منطقتي وكنت كلما مررت على
مجموعة من الواقفين أو أمر على أحد المحلات لأشتري شيئا أجد الجميع يتداولون الخبر
بحزن وتأسف على حال الدنيا الذي لا يدوم ، لقد كان شكل العالم من حولي حزينا ولكنه
أقل بكثير جدا من صورته التي كانت تأتي في بالي قبل ذلك ، وعدت إلى المنزل متأسفا
على فوات حلمي الصغير بأن ألتقي الشيخ وجها لوجه يوما ما ، وجلست أتابع مراسم
جنازته في التلفاز باهتمام وأسى ، انظر إلى ذلك الطفل الصغير كيف كان وقع الخبر
عليه وماذا يمثل الشيخ له رغم أنني لم أكن أفهم شيئا يذكر مما يقوله في التلفاز كل
جمعة أو قبيل المغرب في رمضان ، وحتى عندما حاولت أن أقرأ كتابا أو كتابين من
سلسلته الموجودة في مكتبة أخي كنت أفهم ولا أفهم في آن واحد ، وربما لو سألتني
حينها عن معلومة واحدة واضحة تعلمتها من الشيخ لم تكن لتجد عندي إجابة ، ورغم ذلك
كانت رمزية الشيخ عندي كبيرة ومكانته عندي عالية شأن أغلب المصريين الكبار الذين
بالطبع يفهمون ما يقول جيدا ويتعلمون منه ويحفظون علمه ويطبقونه وإلا فكيف حصّل
تلك المكانة عندهم! ولماذا يحزنون عليه كل هذا الحزن! ولماذا كل هذا الاهتمام
والتساؤل الذي دار في ذلك الحين هل أتم الشيخ تفسير القرآن أم لا! يسأل الناس
بعضهم بعضا وهم يخافون جدا أن تكون الإجابة سلبية وبالتالي تكون الخسارة أشد
جسامة! فلو أنهم لا يستفيدون بكل حرف في كلامه لماذا يخشون أن يكون قد فاتهم عددا
من هذه الأحرف بموته قبل التمام؟!
***
وفي خلال السنوات التالية لوفاة الشيخ أصبحت صوره في كل مكان ، في
المواصلات في المحلات في البيوت على التقويم السنوي (النتيجة) ، صور مصحوبة بدعاء
مأثور في السنة النبوية أو آية أو حديث أو أحيانا غير مصحوبة بشيء! صورة وفقط! كنت أتطلع أن أجد بجوار صورته على الأقل معلومة
قد قالها أو خاطرة قد اشتهرت عنه فلا أجد! أذهب إلى معرض الكتاب فأجد كتبا لم أكن
أسمع عنها عليها صورة الشيخ ، أشتري شيئا منها أعود للبيت فاكتشف أن الكتاب لم
يؤلفه الشيخ وإنما هي تجميعات أنتقاها أحدهم من خواطر الشيخ المرئية والمكتوبة في
تفسيره وأكمل عليها شيئا من عنده ثم وضع عليها صورة الشيخ واسمه (وبيع يا معلم) ،
بدأت انتبه أن بعض حلقات الجمعة تعاد وتتكرر من حين لآخر وأغلب الناس لا ينتبهون
أو لا يعلقون على ذلك ، بدأت أرصد من الذي يهتم بشراء ذاك التفسير الذي كاد يبكي
عندما مات الشيخ خشية ألا يكون الشيخ قد أتمه فلا أجد نسبة تذكر من هؤلاء الباكين
المحبين! أستمع لحوارات ونقاشات دينية بين الناس ولا أجد واحدا منهم ينقل عن الشيخ
معلومة واحدة ولا يستخدم فائدة واحدة وينسبها إليه بل أغلب الكلام ارتجال وحواديت!
بدأت أتساءل نفس السؤال المذكور عاليا ماذا لو سألت أحد الكبار المحبين هذه المرة (أخبرني
عن معلومة واحدة واضحة تعلمتها من الشيخ؟) ووجدت أن الإجابة لن تختلف عن إجابة ذاك
الطفل المحب ، ولو ذكر معلومة فلن ينجح في ذكر الثانية والثالثة ، وأن أكثرهم
استفادة لن يتذكر الشيخ وهو يقرأ القرآن سوى في بضع آيات أو يزيدون قليلا ، إذ أن
علاقة أغلب هؤلاء بعلم الشيخ ودروسه لم تكن تختلف كثيرا عن علاقة ذاك الطفل به ،
وأن المشكلة لم تكن في قصور ذهن الطفل ولكن في طبيعة العلاقة وطبيعة مفهوم التدين
في هذا المجتمع ، نحب الدين دون أن نمرر أكثر أفعالنا على ميزانه ، ونحب من يتكلم
في الدين دون أن نسعى لتحقيق استفادة حقيقية منه ، صور أدعية بوسترات ثم صور على
الفيسبوك تماشيا مع التكنولوجيا وطلبا في مزيد من "اللايكات" والتعليقات
، رمزية شكلية هي تلك التي تربط الكثير من المسلمين المصريين لا بالشيخ الشعراوي
أو غيره فقط فهو مجرد مثال ، ولكن هي التي تربط الكثير من المسلمين عموما بدينهم
ورموز الدعوة القدماء والمعاصرين، إن هذا الطفل الذي أزعجتكم بقصته في بداية
المقال تمر عليه السنوات في بلادنا فيكبر جسده وتنبت لحيته وشاربه ويتزوج وينجب
ويهرم ويموت وعقليته الشرعية لا تزال واقفة عند زمان الطفولة لم تتقدم خطوة واحدة
، إلا ما رحم ربي.
****
وصل الطفل إلى الثانوية العامة أخيرا ،، وبدأت قدماه تعرف طريق المسجد ولله
الحمد ، كان حتى هذا الحين يظن أن المتدينين كلهم طيف واحد وتوجه واحد، وبعد صلاة
العشاء في يوم من الأيام كان جالسا في ذهول وهو يتابع حوارا بين شابين يعرفهما
شكلا من المسجد ، كلاهما ملتحي كلاهما يرتدي القميص الأبيض لا يعرف فرق بينهما إلا
أن الأول أزهري والثاني غير أزهري ، وحتى هذا الحين أيضا لم يكن يعلم أن هذا فرق
ذو بال..
الثاني (بلهجة تحدي توحي أن هذا الحوار ليس الأول): يا شيخ ،، ما معنى
(الرحمن على العرش استوى)؟
الأول (بهدوء مصطنع): لا أدري.
ثم سأل سؤالين أو ثلاثة في نفس الموضوع والأول يجيب (لا أدري) بنفس الهدوء
المصطنع ثم أضاف: اذهب واقرأ للشعراوي لتعلم الإجابة.
الثاني: لا أقرأ للشعراوي ، فالشيخ الألباني قال عنه عقيدته فاسدة.
الأول (وقد رفع صوته أخيرا وبشكل ملحوظ جدا): تقول الشعراوي عقيدته فاسدة ،
قلها ثانية وسمّع أهل المسجد ، يا أهل المسجد تعالوا واسمعوا ما يقول عن الشعراوي!
فتوتر الثاني وانصرف على الفور.
عدت إلى المنزل ورأسي يكاد ينفجر من الدهشة ، وظل هذا المشهد بعد ذلك في
ذهني سنين بل حتى الآن أحلله باستمرار وأتعلم منه الكثير ، إن الشاب الأول كان من
النوع الذي ذكرته عاليا مع إضافة تعديل لم يستخدمه ، عندما أراد أن يتجنب نقاشا
علميا في مسألة علمية ألقى بكل معلوماته التي درسها في الأزهر في النهر وأراد أن
يريح نفسه ويعتمد فقط على رمزية الشعراوي في إفحام خصمه أمام الشباب الجالسين ،
فلما أخبره الثاني أن الشعرواي لا يمثل له رمزية ولا مرجعية لم يغير السبيل ليفهمه
أو حتى يفهم الجالسين أصل المسألة شرعا ولكنه استخدم رمزية الشعراوي مرة أخرى في
جمع أهل المسجد عليه ، وما أدراك أن يقال لأهل مسجد في مصر أن هذا الشاب يهاجم
الشعراوي ، سيتمنى حينها لو كان سارق أحذية إذ أن احتمالية نجاته أكبر ، أما
الثاني فلم ترهبه رمزية الشعراوي في أن يخالفه ، ولكن علام اعتمد؟ اعتمد فقط على
رمزية أخرى للشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله - وكانت هذه المرة الأولى التي
أسمع فيها اسم الشيخ المحدث - ولم يحاول أن يشرح ما وجه خطأ الشعراوي في هذه
المسألة ، عدت حينها مستاء من الشاب الأول وأسلوبه ولكني مقتنع أنه الصواب لأن
الثاني استخدم اسما لا أعرفه ليبطل اسما أعرفه ، أين الشريعة في كل هذا الحوار؟ لا
أدري..
****
إن الكثير من الشباب السلفي للأسف قد تخلص من ثقافة الرمزية الدينية
الجوفاء عند المصريين والناتجة عن المواريث وحب كل من يتكلم في الدين بأسلوب رقيق
ليتخذ مكانها ثقافة رمزية أخرى جوفاء تعتمد على التصنيفات التي يقولها شيوخه عن
هذا وذاك ، استبدل اسما باسم وشخصا بشخص وثقة بثقة دون أن يتجاوز ما وراء ذلك
ليعرف ببساطة ما وراء الخلاف وسبب ترجيح أحدهما عن الآخر ، وهذا من أسباب فشل
الكثير منهم في الوصول للناس في السنوات الماضية ، ولعدم الاستفاضة في هذه النقطة
أرجوا مراجعة مقال (وانتفض قائلا لحومهم مسمومة) وسأضع رابطه في نهاية المقال بإذن
الله ، إن الشباب السلفي في خلال السنوات الماضية ترك السماع والقراءة للكثيرين من
الدعاة والشيوخ ولكنه لا يستطيع أن يدخل في حوار لمدة خمس دقائق يشرح فيه أسباب
هذا الامتناع فضلا عن أن يتطور إلى النهي الحكيم الموثق للآخرين عن الاستمرار في
اتباع هذا الشيخ وذاك الداعية ، بالضبط كما أن النوع الأول لا يستطيع أن يتكلم خمس
دقائق متصلة عن الفوائد التي تعلمها من هذا الشيخ وذاك الداعية ، فتحول الأمر إلى
نوع من العزلة ليس أكثر ، إذ أنه لا يشارك الناس ما يحبون وفي نفس الوقت لا يستطيع
أن يفهمهم لماذا يخالفهم ، إذ أن القول المجمل للشيخ فلان عن الشيخ علان لن يغير
في الناس شيئا لا سيما إذا كان الشيخ علان أشهر بمراحل من الشيخ فلان ، الأمر لم
يكن قاصرا على الشيخ الشعراوي فقط أو غيره بل امتد لكثيرين كالشيخ القرضاوي مثلا
الذي لا يحاول أكثر محبيه أن يفهموا ويقرأوا وجهة نظر مخالفيه وأدلتهم ويعتمدون
فقط في الدعوة إليه على الكلمات الكبيرة الضخمة في وصفهم إياه ، ولا يحاول أكثر
مخالفيه من الشباب معرفة حيثيات مخالفته فإذا هاجموه كان الهجوم أيضا بقول فلان
وقول علان، وكذلك من يؤيد ومن يعارض الشيخ الألباني في بعض المسائل ، وابن باز
وابن عثيمين والغزالي ... والقائمة لا تنتهي وإنما ذكرت من ذكرت كأمثلة تبين أصل
المرض ليس إلا.
****
إن واقع ما بعد الثورة وما قبلها بقليل على مرارته إلا أن من مميزاته أنه
هدم هذه المنهجية السطحية على رؤوس من يجلسون تحتها ويختبئون وراءها ، فأصبحوا ما
بين واع أفاق لنفسه وبدأ ينفض عن رأسه التراب ويفهم ، وما بين مستمرئ للحياة تحت
الأنقاض مستمتعا بالغبار والظلام تحتها ، لقد اكتشف الواعون - والواعون فقط - في
ظل الانفتاح الذي حدث بين التيارات بعد الثورة أن الاستخدام المصمت للأسماء ليس له
قيمة ، وأنه في ظل تهدم رمزية الكثيرين لم يعد استخدام ضخامة الوصف والمصطلح قيمة
في ردع المخالف فكريا فضلا عن اقناعه، إن الذي كان يعتمد على قول الشيخ فلان في
تقييم الشيخ علان ويناظر الآخرين بقوله ويحتج به فوجئ أن فلانا نفسه يمتدح علانا
على الهواء وربما يقبل رأسه وسط ضحكات وسخرية من كان يناقشهم ويجادلهم ويخاصمهم
بسببه! فوجئ أن الشيخ سين عندما أراد أن يفتتح سلسلة لتفسير القرآن على فضائيته قد
استفاض في مدح الشيخ صاد وتفسيره دون أن يذكر شيئا من أخطائه أو يحذر من منهجه بل
زكاه تزكية تجعل حديث الشاب مع الناس عن صاد وأباطيله والتي كان يسمعها من سين
قديما نوعا من النكات ، لقد أصبح احتجاج الشاب بطعن ذاك الشيخ في هذا الداعية بسبب
مواقفه السياسية والديموقراطية لا قيمة له بعدما قلد ذاك الشيخ هذا الداعية في كل
مواقفه وأقواله! لقد هدم السطح وانكسرت القشرة ، ولم يعد هناك سبيل للباحث عن
النجاة إلا أن يبني لنفسه حصنه العلمي والشرعي من جديد ولكن هذه المرة عليه أن
يبنيه لبنة من القرآن ولبنة من السنة مرتبة على ما كان عليه النبي صلى الله عليه
وأصحابه ، بعدما كان حصنه مكونا من مجموعة أسماء بشرية تصيب وتخطئ وكانت الآيات والأحاديث مكتوبة فقط كنوع
من الزخارف على الجدران ، بالمناسبة هذا لا يعني أن معتقداته بالضرورة ستتغير
ومواقفه ستختلف ، ولكن الفرق أنها ستتحول من قشرة إلى لب ، ومن سماع أجوف إلى علم
نافع موثق ، ومن سطح جميل مبني على قش وطين إلى منشأ حديدي ضخم لا تهزه الريح ولا
تنهكه الصدمات قائم على أساس متين وحجة دامغة، هذا هو واجب الباحث عن النجاة ،
واجب لم يعد مخيرا فيه.
لم يعد بوستر الشعراوي ينفع ولم يكن نافعا من قبل ، ولم يعد مواجهة الرمزية
بالرمزية تنفع ولم تكن نافعة من قبل، اللهم إني قد بلغت، فاللهم وفقني للعمل بما
بلغت ، واللهم اشهد.
****
ملحوظة
مسكين من سيظن أن هذا المقال قد جاء ليهاجم فلان أو ينصر فلان ، مسكين من
سيظن أنني سأجيب في التعليقات عن تساؤلات فرعية عن الأسماء المذكورة أو غيرها
تخرجنا عن أصل الفكرة المطلوب مناقشته والواضح بشدة في خواتيم المقال.
****
مقال (وانتفض قائلا لحومهم مسمومة)
https://www.facebook.com/Moataz.articles/posts/571561976190605?fref=nf
والله إن اللى علمك ظلمك
ردحذف