الجمعة، 6 مارس 2020

هدنة مع طواحين الهواء



1-      هل توجد عقوبات إلهية في الدنيا (المبدأ)؟
2-      هل إصابة المسلمين في حدث ما تنفي عنه مطلقا (احتمالية) كونه عقوبة؟
3-      ما الفرق بين الابتلاء والعقاب، وبين رخاء وبركة الطاعة والاستدراج؟
4-      إذا كان هناك عقوبات إلهية في الدنيا، فلماذا لا يعاقب أعداء المسلمين (كونيا) رغم كل ما فعلوه ويفعلونه؟
أولا: هل توجد عقوبات إلهية في الدنيا (المبدأ)؟
أدلة مبدأ وجودها في القرآن والسنة أكثر من أن تنحصر، فجُل قصص الأنبياء تدل عليها، وكثير من الآيات والأحاديث تذكر استمرار ذلك، أخذا في الاعتبار أن أنها لا تنحصر في الظواهر الكونية الخارجة تماما عن تأثير الإنسان في ابتدائها أو في مباشرتها، بل يدخل فيها فساد ذات البين ووقوع الاقتتال والتناحر وفقدان بوصلة الصواب وحرمان التوفيق للهداية وغيرها، كما أن وقوع العقوبة الدنيوية غير لازم دائما لكل فاسد وظالم، فالاستدلال بعدم وقوع العقاب المادي لبعض الكفار والفاسدين على انتفاء وصف العقوبة عما وقع للبعض الآخر استدلال به خللان:
الأول افتراض ضرورة وقوع العقاب العاجل للجميع وإلا فلا عقاب لأحد.
والثاني حصر العقاب في الصور المادية الكونية وتجاهل الصور الأخرى.
وكلاهما يخالف الأدلة القرآنية والنبوية، ولا يشترط في الحدث الإهلاك الكامل كي يعد عقوبة، بل دلت الآيات والأحاديث على وقوعه بصور جزئية للتذكير والاستتابة ومنح فرص العودة واليقظة قبل أن يأتي العقاب الأساسي والأخير والذي لا ينفع معه شيء وهو العقاب الأخروي.
ثانيا: هل إصابة المسلمين في حدث ما تنفي عنه مطلقا (احتمالية) كونه عقوبة؟
وهذا مما يكثر به وفيه الجدل، وهو بناء على افتراض غير مستند لدليل، بل الدليل يخالفه من وجهين:
الوجه الأول: أنه بالنظر في الأدلة الشرعية نجد فيها احتمالية امتداد أثر العقاب إلى المسلمين إذا كثر الفساد والخبث
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)) سورة الأنفال
عن زينب أم المؤمنين أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يقولُ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ، ومأْجُوجَ مِثْلُ هذا، وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ، وبِالَّتي تَلِيهَا فَقَالَتْ زَيْنَبُ فَقُلتُ يا رَسولَ اللَّهِ أنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ، رواه البخاري ومسلم.
عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بأولهم، وآخرهم، قالت: قلت يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم. متفق عليه،
إذن فوصول الأذى للمسلم ليس دليلا نافيا بالضرورة لكون الأذى عقوبة محتملة.
الوجه الثاني: أن أدلة القرآن الكريم والسنة النبوية لم تجعل النجاة من هذه العقوبات مرتبطة بمجرد الإسلام فقط، فخيرية الأمة مشروطة وعافيتها كذلك، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)) سورة آل عمران.
(فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)) سورة هود، ووصف الإصلاح مرتبط بالنهي عن الفساد وليس بمجرد الصلاح الذاتي (الصالح غير المصلح)، والصلاح قدر إضافي فوق الإسلام.
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)) سورة المائدة.
حديث أبي بكر الصديق قال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه. رواه الترمذي.
فهل الموانع الحقيقية للعقوبة الدنيوية متوفرة عند المسلمين الآن؟ انظر حولك.
والعجيب أن كثيرا ممن يستدلون بامتداد أثر حدث ما إلى المسلمين لينفوا عن هذا الحدث أي وصف بالعقوبة هم أنفسهم من يعيرون المسلمين ليل نهار بتخلفهم وانتشار الفساد فيهم، والتخلف والفساد ليسا من الدين في معتقدنا، ومعتقدهم الذي يظهرونه على الأقل، وبالتالي هؤلاء المسلمون ليسوا النموذج الحقيقي للإسلام، فلماذا يتحولون فجأة إلى نموذج مثالي تعد إصابته بالضرر دليلا جازما على كون هذا الضرر ليس عقوبة!
ثالثا: ما الفرق بين الابتلاء والعقاب، وبين رخاء وبركة الطاعة وبين الاستدراج؟
خلاصتها، أن زيادة النعمة أو وقوع المحنة ليسا دليلا مستقلا، إذ أن كليهما يقع للصالح والطالح، وإنما الأمر مرتبط بالحال المصاحب، وللتفصيل وتجنب الإطالة والتكرار يرجى مراجعة هذا الرابط.
-
رابعا: إذا كان هناك عقوبات إلهية في الدنيا، فلماذا لا يعاقب أعداء المسلمين (كونيا) رغم كل ما فعلوه ويفعلونه؟
خلاصتها: أن الأمم التي كلفت بالصبر فقط كان عقاب أعدائها إلهيا كونيا مباشرا، أما الأمم التي كلفت بالجهاد فأمرها مختلف، وفي قصة بني إسرائيل نجد نموذجا للحالتين معا، إذ نصروا أول الأمر عند خروجهم من مصر بشق البحر وإغراق فرعون وجنوده، وهم لم يؤمروا حينها بالجهاد، فلما كلفوا بالجهاد لدخول الأرض المقدسة لم يُهلك الجبارون كما أهلك فرعون، وعندما عصى بنو إسرائيل أمر الجهاد عوقبوا هم على تقصيرهم وامتد حكم الجبارين إلى أن جاء الجيل المجاهد وكان عقاب الجبارين على أيديهم، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم كذلك، نعم يكون هناك توفيق وإمداد يفوق أسباب المسلمين وإمكانياتهم، نعم قد يقع بعض النصر لهم وبعض العقاب لأعدائهم دون سعي منهم، فالله تبارك وتعالى يفعل ويحكم ما يريد، ولكن يبقى أن الأصل في أمتنا أنها مكلفة بالجهاد وأن عذاب الكافرين في الدنيا على أيدي المؤمنين وليس كالأمم التي لم تكلف بالجهاد.
(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)) سورة التوبة.
(ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)) سورة التوبة.
وكان تأويل وعيد آية الإسراء (وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ۖ وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)) ما وقع في غزوة بدر، فلم تلبث قريش مستقرة بعد إخراجها النبي صلى الله عليه وسلم إلا قليلا، فوقعت بها الهزيمة المنكرة التي قتل فيها سادتها بعد عام ونصف، ولم يمض في عمر الزمان شيئا يذكر حتى زال حكمهم عن مكة كلها، بأيدي المؤمنين.
وللاستزادة أيضا يمكن الرجوع للفصل الرابع من (وقت مستقطع).
-
وأخيرا، قد يكون من المبالغات التي يقع فيها بعض الناس الجزم اليقيني القاطع بتوصيف حدث بعينه بكونه عقوبة لأمة معينة على فعل معين، فهذا مما يعسر الجزم به وأقصى ما يقال فيه الاحتمال والتأمل والعظة، ولكن في المقابل النفي المطلق مع تجاهل أدلة ثبوت المبدأ، ثم الاستناد في النفي على أدلة وهمية لم ترد في الشرع أصلا بل ربما ورد ما يضادها تماما -كما تبين - خطأ جسيم، واستهلاك النفس والناس فيه رغم خواء محتواه محاربة لطواحين الهواء، والأمر لا يحتاج لكل هذا لمن أعطى لنفسه فرصة النظر في الدليل قبل تحديد نتيجة الاستدلال وليس العكس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق