الاثنين، 3 فبراير 2020

وزاء موسى وجنوده



فجأة وبدون مقدمات، بدأت أتأمل في حال تلك الصبية الصغيرة التي كلفتها أمها أن تبحث عن أخيها الرضيع الذي ضاع في النهر، (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ)، ولكن ما مجال وحدود البحث؟ الدنيا كلها، فلا يعلم أحد أين يمكن أن يكون، لا يعلم أحد هل نجا من النهر أصلا أم لا، تنطلق في الطرقات والأسواق لتتفحص وجوه وأيادي آلاف الناس بلا يأس أو كلل، حتى تسمع وسط هذا الزحام صوتا تعرفه رغم تقارب الأصوات في هذا السن، وتلمح وجها تألفه رغم تقارب الملامح بين الرضع، (فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) إن أضعف الاحتمالات قد وقع، الطفل الضائع في النهر محمولا بين أيدي الناس على البر في زحام الأسواق، نعم إنه هو، ولكن مع من؟ إنه بين أيدي الطغاة الذين لم تلقه أمه في اليم أصلا إلا خوفا من وصولهم إليه! يا ترى كيف كانت صدمتها! كيف كان فزعها! بل وكيف كان عجبها حينها إذ رأتهم لا يبحثون عن سيف يذبحه ولكن عن أم ترضعه!
-
تخيلتها من الفرحة تجري إليه، أو من الصدمة تصرخ، أو إلى أمها تركض، لا أرى أن صبية يمكنها في مثل هذا الموقف أن تفعل شيئا آخر، ولكن الوزير الموفق من قبل الإله العظيم الحكيم تبارك وتعالى يتماسك ويتصرف بصورة لعلها أكثر إعجازا من إعجاز العثور على الرضيع، تتصرف كمدير تسويق ذكي وجد صفقة رابحة، تحبس دقات قلب الأخت المحب المشفق وتتكلم بلغة جامدة تناسب الموقف والعميل (فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)) فيعيده الله تعالى إلى حضن أمه بربأطة جأش أخته وحسن تصرفها (فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)، ولتعيد قصتها تعريف (العزوة) في نفوس ووجدان المؤمنين إلى يوم الدين، فقد أعادت يد أخت واحدة طفلا رضيعا من الضياع إلى أسرته، وضاع طفل واع على أيدي أحد عشر أخا نقلوه من أمان الأسرة إلى ضياع المجهول.
-
لعل فرعون كان يستعرض جنوده الأشداء كأي قائد عسكري كبير، وينظر في مجلسه إلى وزرائه الدواهي الذين يعينونه على إحكام قبضته على الخلق، فيبتسم مطمئنا على استتاب الأمر في يده، بينما يجلس نبي الله موسى في المقابل على عرش من التوفيق وحوله من الوزراء والجنود من لا يستطيع فرعون أن يقاتلهم فضلا عن أن يراهم.
وزير موسى وجنديه، ذلك الإلهام إلى أمه (أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)
وزير موسى وجنديه ثبات الأم حين ضاع (إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
وزير موسى وجنديه ماء النهر الذي لم يغرقه ولم يتركه إلا على باب قصر فرعون (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ)
وزير موسى وجنديه تلك المحبة التي يفشل الجميع في مقاومتها (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي)
وزير موسى وجنديه الجوع ورفض المراضع الذي لولاه ما خرجوا به من القصر أصلا (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ)
وزير موسى وجنديه ما كان من شأن بحث أخته وثباتها وذكائها.
وزير موسى وجنديه الناصح المجهول الساعي من أقصى المدينة (قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)
وزير موسى وجنديه عجز والد الفتاتين عن الخروج للعمل (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)
وزير موسى وجنديه رغبة الفتاتين في ترك العمل (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)
-
كل هؤلاء الجنود والوزراء وغيرهم ممن لم أذكر أو أتذكر سخرهم الله تعالى في حياة موسى عليه السلام قبل أن تأتيه النبوة، قبل أن يطلب وزيرا من أهله (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30))، كل هؤلاء قبل جنوده التسع (العصا واليد والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والدم والضفادع)، كل هؤلاء قبل السحرة وإيمانهم، قبل مؤمن آل فرعون وقوة حجته وشجاعته، قبل شق البحر وإغراق الماء الذي أهلك جيشا ولم يهلك طفلا في تابوت صغير.
أعد النظر إلى قصر فرعون ومجلسه المزدحم بعلية القوم، وإلى جيشه الذي لا ترى آخره من الكثرة والقوة والعتاد، لقد كانوا في لحظة البلاغ يقفون أمام رجلين اثنين متجردين للناظر من كل قوة وجند، مواجهة غير متكافئة محسومة لصالح فرعون، ولكن من يوسع نظره إلى ما وراء المشهد، لربما أشفق على فرعون وجنده من هذه المواجهة، وأشفق عليهم من الورطات التي وضعوا أنفسهم فيها، ولكن قد كانت الفرصة في أيديهم ليدركوا حجمهم، وتجددت مرارا مع كل آية، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)) سورة الأعراف


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق