الاثنين، 3 فبراير 2020

شهوة الروح




إذا أراد الزوج إبداء المظلومية في خلاف بينه وبين زوجته قال (تفعل معي هذا وأنا لم أقصر معها في شيء) يعني بذلك غالبا عدم التقصير في الإنفاق وشراء الاحتياجات.
وإذا أرادت الزوجة فعل المثل قالت (يفعل هذا معي وأنا لم أقصر معه في شيء) وتعني غالبا العلاقة الزوجية وطبخ وغسل الاحتياجات التي اشتراها الرجل.
وكل هذا متعلق بشهوات الجسد واحتياجاته، ولكن أين شهوة واحتياجات الروح!

وشهوة الروح هي الشعور بالاهتمام، الشعور بأنك مختلف عند شخص معين، يعنيه أن تكون بخير وألا يمسك سوء، يهمه أن تكون سعيدا وألا تكون حزينا ولو كنت بعيدا عنه لن يرى سعادتك أو حزنك، نعم هذه شهوة يحتاجها الإنسان جدا، وأهم مصارفها في الصغر اهتمام الوالدين، وفي الكبر اهتمام الزوج والزوجة وكذلك الأصدقاء والأرحام، ثم في الشيخوخة اهتمام الأبناء ومن تبقى من الأصدقاء والأرحام.

فالسكن والمودة والرحمة الواردة في آية الزواج هي أمور متعلقة بالروح أكثر من تعلقها بالجسد والمادة، والعمل على إشباع هذه المشاعر هي أولى واجبات الطرفين قبل أن ينسب أحدهما لنفسه (عدم التقصير)، وقبل أن يتعجب أيا منهما من نفور الطرف الثاني أو تأثره بمؤثرات خارجية لم يكن يتوقع أن تؤثر فيه بعد كل ما بذله لأجله – في ظنه.

تساءلت يوما بعدما سئلت عن مأساة (الشات) التي يقع فيها الكثير من الرجال في عصرنا، ما الذي يجعل رجل يتعلق بامرأة تراسله (كتابة) فقط، لم يرها، لم يسمع صوتها، لا يدري أصلا إن كانت امرأة أو رجل، وفي أحيان كثيرة يخلو الحوار بينهما من الكلام (القبيح)، فيزيد هذا المتسائل حيرة، فقط (سلامات وطيبون)، وماذا أكلت اليوم؟ إياك أن تدخن فتدمر صحتك! عدني بأن تقلل القهوة حتى لا تضر بضغطك، ولماذا أشعر بأنك مش في (المود).. إلخ، ما المكسب من هذه الحروف والنقاط الصماء!، فلم أجد إجابة سوى شهوة الروح! الشعور بالاهتمام الذي يبدو مجردا، الشعور بأن شخصا ما لا يطلب منه نفقة ولا مسئوليات يهتم بأن يكون سعيدا، بينما يؤدي ما يؤدي في البيت ولا يظهر له هذا الاهتمام.

وبدت نفس المشكلة عند النساء أيضا، لماذا تقع الكثير من النساء في الإعجاب بأولئك الذين يجيبون على الاستشارات سواء مباشرة كالأطباء النفسيين أو على الانترنت، أو حتى في الدردشات العقيمة مع رجال قد لا يتجاوزون أيضا (السلامات والطيبون)، أو تعليقات باردة على المنشورات والصور، وطبعا جروبات الشكاوى والحكايات، إنه ذات الشعور المفقود بالاهتمام، الشعور بوجود من يسأل، من يلاحظ التغير في صيغة العبارات المكتوبة فيستشف السعادة والحزن، بينما من يرى المرأة أمامه ثلاثية الأبعاد ويسمعها على الهواء لم يظهر أي عناية بأي شيء.

بالطبع لا يتوقف الأمر عادة عند شهوة الروح فهي خطوة من خطوات الشيطان أعاذنا الله من شروره وشرور أنفسنا، لكن غياب إعفاف الروح خطير وإن عف الجسد وتوفرت المادة، لأن الأولى تحكم الثاني وتوجهه، وقادرة على تزهيد الجسد فيما يملك مهما كثر أو بث القناعة فيه مهما قلت الموارد المادية، بل وإن قلت الوسامة والجمال.
فالرجال والنساء واقفون طوابير على جروبات الطبخ والمشتروات والرياضة والتخسيس بل وعلى جروبات قذرة تزعم التثقيف الجنسي وحل مشكلاته، وجلهم رغم ذلك جوعى يشكون فاقة وفقرا في أرواحهم على جروبات أخرى لا تزيدهم إلا سخطا أو في حواراتهم الشخصية والافتراضية، أو حتى بينهم وبين أنفسهم.

وهذا الفارق يظهر كذلك بقوة في احتياجات الصغار من آبائهم كما ذكرت، فلا يذكر الشاب والمراهق لوالديه الألعاب والنزهات والملابس والحلوى والتعليم باهظ التكاليف قدر ما يذكر لهم العناق والقبلة والسؤال عن الحال والاهتمام إذا ظهر عليه الضيق أو الاكتئاب ولو لسبب تافه، وأيضا مواقع الاستشارات والـASK مشحونة بكلام الشباب والبنات عن هذا الفقر الشديد، وهو أيضا باب خطر كبير عليهم إذا وجدوا هذا الشعور من مصدر خارجي قد يكون فاسدا، فيطيرون نحوه كالفراشات نحو النيران المشتعلة لا يأخذ بحجزها شيء، ولا يأخذ بحجزهم بعد حفظ الله تعالى إلا قوة اهتمام موازية تحقق لهم اتزانا نفسيا ضد ما يثير شهوات روحهم قبل أجسادهم، وكم من أب وأم يدعون عدم التقصير في حق أبنائهم وبناتهم بنفس المنطق السابق، بينما هم لم يطعموا أرواحهم وقلوبهم شربة ماء واحدة، حتى قالت فتاة يوما أن والدتها لا تعانقها أبدا، ولا تدري ماذا تفعل كي تجعلها تعانقها دون أن تطلب منها لأنها كبرت على الطلب ولن تتحمل أي إحراج، مع إقرارها أن والدتها لا تقصر في خدمتهم المادية، ما الذي يحقق لمثل هذه الفتاة الإتزان إذا فاجأها مصدر - ولو كان فتاة أخرى – يسكب اهتماما في هذا الفراغ مختلطا بمفاسد عدة ما لم يشأ الله حمايتها بلا أسباب أرضية!

الشجون كثيرة، والكلام يبحث عن خاتمة ولا يجد، ولكن أكتفي -عنوة - بهذا القدر آملا أن تصل الرسالة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق