الاثنين، 3 فبراير 2020

حول الانتحار

بسم الله، رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي
أولا: إن الجزم بأن أي منتحر هو بالضرورة مريض نفسي أو فاقد الأهلية والوعي وتبرير موقفه ودفع أي إنكار عام أو خاص بهذه الحجة دون تعرف على كنه الحالة أصبح يشبه تبرير الطلاق بالغضب، وتبرير أكل الحرام أو الربا بالضرورة، ووجه الشبه هو إهمال ضبط المبرر، فصاحب هذه العبارات المعلبة المعبأة حديثا عادة لا يفرق بين الحزن والضيق والشعور باليأس وبين المرض النفسي أصلا، بعيدا عن كون المرض النفسي مبررا مقبولا دائما أم لا وهو ما سأتطرق إليه لاحقا، يقولون أنه بالتأكيد كان يمر بمشاعر صعبة (تبرر) له هذا وترفع القلم عنه!، فذكرني هذا بمن سأل شيخا عن يمين طلاق رماه على زوجته ويريد من الشيخ أن يسقط هذا اليمين فبرره بأنه كان غاضبا، فقال له الشيخ (يا بني لا أحد يطلق زوجته وهو يأكل (يقزقز) لب)، طبيعي يكون غضبان، أين الإضافة؟ لكن هل معنى هذا أن أي غضب سيدخله في دائرة الغائب عن الوعي تماما وتسقط عنه التكليف؟ كم من بيوت يخشى أنها تقوم على الزنا بسبب طلقات لم تحتسب بهذه الدعاوى، وكذلك من يستحل الربا والأموال المحرمة بدعوى الضرورة، وتكون هذه الضرورة في حقيقتها احتياجا توسعيا وليس أساسيا لا تستقيم الحياة بدونه، والنفس المبالغة في التطلع قد يؤرقها الاحتياج التوسعي كما تؤرق الضرورات المضطر الحقيقي.
فكون المنتحر يمر بمشاعر صعبة فهذا أكيد، وإلا لماذا انتحر؟ ومع كون الأصل في المنتحر أنه يعاني متاعب قوية فقد جاء الحكم الشرعي بالتحريم وبالعد من الكبائر وبالتهديد بالخلود في النار، فالدنيا دار ابتلاء أصلا، فليست هذه المشاعر والظروف الصعبة مبررا في ذاتها لتصد به الإنكار، هي تحصيل حاصل لا معنى له ولا أثر.
وتصورك العجيب أن كل من يجد هذه المشاعر بالتأكيد مريض نفسي هو خلل عقلي! كونك لا تتصور أن يصدر هذا الفعل من إنسان طبيعي فهذا ضيق في تصورك أنت، ولم أر طبيبا نفسيا حتى يزعم أن أي قاتل لنفسه هو مريض نفسي يقينا! أبسط شيء هناك من يقتلون أنفسهم لأجل معتقداتهم وهم في كامل الصحة النفسية، وكم من معتقد أن الجحيم أرحم من متاعبه الآنية أيا كان نوعها بسبب خطأ تصوره لحجم متاعبه مقارنة بحساب الآخرة، أو لم يكتمل يقينه في هذا الحساب فرأى أن التراب أفضل من وضعه الحالي، في حالته هذا قرار عقلاني تماما يتحمل مسئوليته كأي اختيار آخر.
إن البعض يظن أن لن يبدو مثقفا منفتحا إلا إذا نفى أي سبب غير طبي لهذا الفعل، بل ولأي فعل، ما أن يسمع كلمة (إيمان) (يأس) (رحمة الله) إلا وانتفض معمما (إن الانتحار لا علاقــــــة له أبدا بالإيمان واليأس والظروف ولكنه المرض النفسي كالسرطان والالتهاب الرئوي الذي يصيب الصالح والطالح)، طبعا بعيدا عن تشبيه السرطان بالمرض النفسي والذي يكشف قدر العجب في الموقف، ولكنك أردت أن تبدو مغايرا للجاهل الذي لا يرى أن الأمراض النفسية لا يمكن أن تكون لها أسباب سوى ضعف الإيمان، فمارست نفس جهله في التعميم العكسي.
معادلة أن المتاعب والضغوط النفسية = مرض نفسي، وأن المرض النفسي = رغبة آلية في الانتحار، يرفضها الواقع قبل العقل، فالأصل في الناس حب الحياة والحرص عليها، فقراء ومعدمو العالم يشهدون، أهل المجاعات والجفاف يشهدون، المعتقلون لعشرات السنوات يشهدون، آلاف وملايين النماذج الذين لاقوا من أهلهم ومن حولهم أهوالا واستمرت حياتهم بل ومنهم من تميز تميزا خاصا يشهدون، أهل الحروب واللاجئون يشهدون، فأكثرهم لم يمرضوا نفسيا، وأكثر من ابتلوا بالمرض النفسي لم ينتحروا، وكثيرا ما يأتي الانتحار خارج هذه الدائرة تماما.
ثانيا: في مقاومة الجهل يشارك صديقنا المثقف عاليا – وأنا معه – في التوعية دوما بشأن المرض النفسي وكونه مرضا مثل أي مرض، وأنه يختلف عن المرض العقلي، وأن الجهلة هم الذين يساوون بين المريض النفسي والمريض العقلي، وأن اعتبار المرض النفسي دربا من الجنون هو ما يحول بين الكثيرين وبين تلقي العلاج، يدي في يده والله في أن نعامل من ابتلي ببعض المتاعب النفسية لأي سبب عضوي أو غير عضوي معاملة عادية لا فيها نفور ولا مبالغة في التعاطف بصورة تجرحه، لكنه في كل أزمة يسحب يده من يدي فجأة ويطالب – عمليا – بمعاملة كل مريض نفسي كمجنون مرفوع عنه القلم! الله يهديك، ماذا تقول وماذا تكتب من كلام جارح!
هل هناك من المتاعب النفسية ما قد يتعقد ويرفع القلم فعلا عن صاحبه؟ ربما، لا أدري ولا أختلف، لا أدري هل يقول الأطباء بهذا ولن أختلف معهم إن قالوا، ولكن ما أثق فيه أن الأمر لن يجاوز (بعض) الحالات لا سيما المتأخرة، فلماذا هذا التعميم الأخرق؟ لقد جعلت المرض النفسي مرادفا للجنون الذي لا يؤاخذ المرء فيه على أفعاله! وأصحابك يقرأون ويسمعون، تظن نفسك تدافع عمن مات وأنت لا تعرفه، وتفتح أبوابا للأحياء، إما باستسهال اللحاق به، أو للشعور بالإهانة من قبلك!
ثالثا: الكثير من المتاعب النفسية التي قد تتحول لمرض مؤقت أو مزمن ينتج من الظروف، سواء طويلة الأمد متراكمة التأثير أو من الصدمات، ومنها ما لا يكون هكذا وله أسباب جينية وعضوية حسب معلوماتي العامة، وهذا ما يمنع في رأيي المساواة المطلقة مع السرطان والنزلة المعوية، وهذا ما يجعل الكلام عن كون البناء النفسي والإيماني وتصحيح الكثير من تصورات الناس الخاطئة عن طبيعة الدنيا وقاية للكثيرين - وليس للكل بالضرورة - من آثار تلك المتاعب والصدمات، فإخراج هذه الجانب من دائرة الوقاية مطلقا أيضا هو تحامق ناتج عن الرغبة في الظهور كنصير العلم ومحارب الرجعية، وإلا إذا مرض طفل أو حتى شاب نفسيا بسبب معاملة والديه فلا تطلب من والديه تغيير معاملتهما له لأن معاملة الوالدين لا تؤثر على السرطان سلبا أو إيجابا، لكل إنسان احتياجاته، ولكل حالة متطلباتها، مغفلون ومخطئون خطأ جسيما من أراهم – وهم أيضا كثير للأسف – يتهمون كل مريض نفسي بأنه ضعيف الإيمان، ولكن لا يكون علاج حماقتهم بالتطرف المضاد أبدا.
أخيرا: الابتزاز في كل شيء أصبح سيد الموقف، نعم يا أخي لا أحد يضمن الثبات على الطاعة، ولا الصبر عن المعصية، ولا يضمن البقاء في صحة نفسية جيدة، ولا يضمن أن يختم له بالخير
 يارب نجنا مالناش غيرك يا كريم
 وكل هذا لا علاقة له بأن يحل المرء ما أحل الله ويحرم ما حرم الله!
تكلمت سابقا عن عبارة (لعله يكون عند الله أحسن منك) في حال إنكار أي منكر عموما، أما في موضوعنا ما أن يقول أحد الانتحار كبيرة وحرام إلا وفتحوا عليه أبواب العلب المغلقة (وما يدريك أنك لا تفعل هذا في المستقبل)، يا أخي هل تترك القاتل يقتل لأنك قد تقتل والعياذ بالله في المستقبل، وكذلك السارق والجاسوس والكذاب و...، أتدري؟ حتى لو أنك واقع في خطأ ما الآن وليس في المستقبل، فعليك أن تنكره وتنهى عنه مع مجاهدة نفسك للإقلاع بالتأكيد! أين التعارض والمشكلة! إن تكلم المتكلم فقد ينقذ روحا قبل أن تهون على صاحبها وتزهق عمدا، أما إذا انصاع لابتزازك وصمت فما المكسب الذي تحارب لأجله كل هذه الحرب عند كل كلمة حق تقال، إنك تبرر لمن مات تبريرا لن ينفعه فهو بين يدي الرحمن يكفيه دعاءك ودعاءنا أجمعين، ولكن تبريرك يقرأه الحي المهتز وهو من سيتأثر به، احسبها صح مرة بالذات المرة دي.
والأعجب أنك تقولها باسم الرحمة وهي أبعد ما تكون عن الرحمة، أتدري لماذا؟ تجدها في المنشور السابق، فقد وجب علي أن أتوقف عند هذا الحد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق