الجمعة، 22 يوليو 2011

"قلة الأدب" ، الفضيلة الغائبة



"قلة الأدب" ، الفضيلة الغائبة
معتـز عبد الرحمن

   
        الشعور بالظلم شعور شديد القسوة والألم ، والنفس السوية والفطرة السليمة لا تتحمله وتأبى الرضوخ له ، وتنتفض لمقاومته ورفعه مهما كلفها ذلك من ثمن ، أما عن الإسلام فهو لم يأمر بمقاومة الظلم ونصرة المظلوم فحسب ، بل جعل مجرد مهادنة الظالم والركون إليه سببا في دخول النار وبئس المصير(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) (1) ، لذا فقد كنت دوما أتعجب من خضوع الشعوب الإسلامية والعربية عامة والشعب المصري خاصة للظلم والظالمين ، بالرغم أن هذه الشعوب قد جمعت بين الحسنيين الفطرة والإسلام ، فكيف وصلت لهذا الحال المزري من الصمت والقبول بالقهر ليس فقط على أيدي الحكام بل على أيدي كل من علاهم في المنصب والسلطة ولو كان مديرا لثلاثة نفر ، وبالطبع أسباب ذلك عديدة ، ولكن من أعجب وأخطر هذه الأسباب في وجهة نظري  أن هذه الشعوب قد طورت نظاما فكريا أسطوريا ربما لم ير مثله من قبل ، وهذا النظام بلا شك من أسباب تأخر ربيع الثورات العربية إلى هذا الحين ، وإن لم نكافحه ونوقفه سيكون سببا في إجهاض هذا الربيع ، وبذرة لعودة القهر مرة أخرى واستمراره لعقود أو لقرون.
**********
    كان حلا عبقريا – وإن شئت قل شيطانيا -  للمعادلة الصعبة ، فالمسكين وجد نفسه بين مطرقة وسندان ، فهو يكره الظلم ولا يتحمله ، وفي نفس الوقت يحب الدنيا ويخشى الأذى ، فإما أن يناضل ويواجه على حساب أمنه وماله وآماله ، وإما أن يعترف بالجبن والخضوع والرضا بالدنية ، وإما الحل الثالث وهو أن يحرق ملف القضية ، فينفي الظلم عن الظالم بالتبرير واختلاق الأعذار، ويبحث بملقاط عن الإبرة الصالحة في كومة قش الفساد ، ويلمعها ولا يكف عن ذكرها ، ويتناسى ملايين اللطمات التي تصفع وجوه المظلومين ، ويذكر قبلة طبعت عمدا على جبين طفل أمام الكاميرات ، فيتحول الحاكم الفاسد إلى خليفة راشد ، ويتحول المدير الفاشل إلى متفاني مناضل ، ويصبح السكوت حينها ليس جبنا ولا خضوعا ، فليس هناك ظلم أساسا  كي يكافح ، وإن وجد فهو لا يزال في حدود المقبول من بشر يصيب ويخطئ ، ويصبح المعترض على الظلم إنسانا كئيبا سوداويا لا يرى سوى الـ 90% الفارغة من الكوب.
**********
    ومع مرور الوقت وتعاقب الأجيال التي رضعت الخوف والسلبية رضاعة ، صار الصمت فضيلة وحكمة ودفعا للعجلة التي لا توجد إلا في الخيال ، وأصبح قول الحق افتراء وتعدي ونكران للجميل ، وقد تجلى ذلك عندما شاء الله تعالى أن تنكسر الحلقة وتحدث الطفرة ، ويخرج هذا الشباب الطاهر الذي لم يتدنس بهذا المفهوم الانهزامي الجبان ليناضل الظلم ويطالب بالإصلاح وينقذ بلاده من القهر ، فمن أول ما قيل عنهم أنهم شباب (مش متربي) وأن مطالبهم المشروعة بمحاكمة الفاسدين وإخضاعهم للقانون ( قلة أدب لا تتناسب مع الأخلاق ومع التسامح المصري الذي يعلمنا الأدب مع كبار السن ) ، التسامح المصري الذي لا يظهر إلا مع من هو أقوى ، ولا يرى ربع العشر منه مع الضعفاء وغير ذوي السلطان ، فتأمل كيف حولت النفس الجبانة الأمارة بالسوء فرعون إلى موسى ، واعتبرت قول الحق ومكافحة الظلم وقاحة وتعدي ، بل ووصفت رفيق سيد الشهداء بأنه شاب "قليل الأدب"  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، و رجل قام إلى إمام جائر فأمره و نهاه فقتله) (2) وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم متحدثا عن هذا القلب الرهيب للمفاهيم (سيأتي على الناس سنوات خداعات ، يصدق فيها الكاذب ، و يكذب فيها الصادق ، و يؤتمن فيها الخائن ، و يخون الأمين ، و ينطق فيها الرويبضة . قيل : و ما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) (3)
**********
    إن الذين يقولون الآن أنه من "العيب" أن ننتقد أداء المجلس العسكري لأنه هو الذي حمى الثورة ، هم الذين قالوا بالأمس أنه "ميصحش" نثور على مبارك لأنه صاحب الضربة الجوية والمترو والدائري، وهم من سيقولون ذلك غدا إذا انتقدنا أي شيء في أداء الرئيس القادم ، وهم الذين صنعوا ويصنعون الطغاة في كل عصر وفي كل منصب عظم أو صغر ، دعوا الأخلاق وشأنها يا سادة ، فالأخلاق لا تحمي الظلم ، ولا تكتم صوت الحق ، ولا تؤصل السلبية ، الأخلاق فقط تضبط طريقة عرض الحق (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى  (43)فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44)) (4) ، ولو كان الأمر كما تزعمون لما وقف نبي الله موسى من الأساس في وجه آل فرعون الذين التقطوه من اليم وربوه في قصرهم بمشيئة الله وحفظه ، ولما وقف نبي الله إبراهيم في وجه أبيه ، ولما وقف الإمام أحمد بن حنبل في وجه المعتصم عندما ابتدع ، رغم أن المعتصم يضرب به المثل في المروءة والغيرة على رعيته فهو الذي فتح عمورية لينقذ امرأة مسلمة خطفت ، حتى قال الشاعر: رب وامعتصماه انطلقت من فم الصبايا اليتم ،، لامست أسماعكم ولكن لم تلامس نخوة المعتصم.
**********
    الجهر بالحق ومكافحة الظلم (قلة الأدب بلغة أهل عصرنا ) هما الفضيلة الغائبة إن لم يكونا الفريضة الغائبة التي ما إن غابت عن أرضنا حتى دخلنا في ظلام دامس وليل طويل من الفساد على كافة المستويات ، ولا سبيل للنجاة وللرقي إلا بعودتها إلى حياتنا بكافة الصور ، وحتى ذلك الحين ، فلنستعن بالله ، ونساهم في الإصلاح قدر استطاعتنا ، ونقول كلمة الحق ولا نخاف لومة لائم حتى وإن وصفنا بقلة الأدب.
     -------------------------------------------------
(1)   سورة هود ، الآية 113
(2)   السلسلة الصحيحة ، الألباني
(3)   صحيح الجامع ، الألباني
(4)   سورة طه

للتواصل مع الكاتب عبر الفيس بوك
مدونة الكاتب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق