الأربعاء، 27 يوليو 2011

جمعة 29 يوليو ، حدوتة مصرية



جمعة 29 يوليو ، حدوتة مصرية
معتـز عبد الرحمن


      





   
سألني الكثيرون عن موقفي من جمعة 29 يوليو ، ولكني أرى أن ردي بالتأييد أو بالرفض سيكون منقوصا ، فجمعة 29 يوليو ليست حدثا وليد اللحظة ، ولكنها ميراث أحداث متلاحقة ، وفصل في حدوتة طويلة ينبغي أن أذكرها قبل أن أذكر رأيي ، وأرجو أن تتحملوا طولها لأنها غاية في الأهمية.

الفصل الأول (قبل السقوط)
    في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس مبارك ، عاش الإسلاميون مرحلة عصيبة من الكبت والتضييق ، وأقصد بالإسلاميين كل ما يؤمن وينادي بأهمية ووجوب تطبيق الإسلام والشريعة سواءً كانوا تيارات أو أفراد ، ورغم أن النظام السابق كان يفتح أبوابا وهمية للمعارضة والحرية ليظهر أمام العالم بصورة الديموقراطي المتفتح ، إلا أن مسألة تطبيق الشريعة ظلت هي المسألة الوحيدة التي لا يسمح لأحد بالحديث عنها قط ، لذا رأينا القوى الإسلامية التي توصف بـ"المعتدلة" تتحدث عن الإسلام الدين ، وعن الإسلام الحضارة ، وأنهم يريدون تطبيق الإسلام الحضارة وليس الإسلام الدين ، ومع ذلك لم يستطع أيا منهم تكوين حزب في خلال العهد البائد ، ورأينا القوى الإسلامية السلفية يضطر الكثير منها لتجنب الحديث ولو همسا عن مسألة السياسة الشرعية ، من أجل الحفاظ على استمرارية الدعوة وعدم استئصالها من باب ما لا يدرك له لا يترك كله ،  ومن أجل تقليل المخاطر التي يتعرض لها تلاميذهم ، وظلت القوى العلمانية في مصر المسيطرة على كل وسائل الإعلام تهاجم كل ما هو ومن هو إسلامي ليل نهار ، وسط حملات شرسة للتشويه لا تتوقف ، أفلام ومسلسلات وبرامج ، مقالات وصحف تكاد تكون متفرغة لذلك ، وهجوم على السنة والصحابة واختلاق تفسيرات عرجاء للقرآن الكريم ، وهجوم وتلميح مستمر حول المادة الثانية للدستور التي بدت مؤرقة لهؤلاء أكثر من المواد التي فصلت من أجل التوريث ، حتى قامت الثورة وسقط النظام وبدأ الفصل التالي من القصة.

الفصل الثاني (فور السقوط)
     بعد ساعات من السقوط المفاجئ الصادم الذي لم يتوقعه أحد ، وفي ظل الاضطراب والتخبط الذي يصيب الأعمى الذي استرد بصره فجأة بعد عقود من الحرمان ، طفق كل فصيل مصري ينادي على ليلاه ، فالعلمانيون والليبراليون ينادون بحماية الدولة المدنية ، وضمان عدم وصول الإسلاميين للحكم ، أو على الأقل تقييدهم إذا وصولوا للحكم خوفا مما أسموه (الدولة الدينية) التي لا توجد إلا في التاريخ الأوربي مصدر إلهامهم وأفكارهم ، وخرج كثير من الإسلاميين ينادون بالحد الأدنى وهو الحفاظ على المادة الثانية للدستور التي لم تكن مفعلة أصلا من باب الحفاظ على الهوية الإسلامية لدولة هي درة تاج العالم الإسلامي فضلا عن أن أغلبيتها مسلمة ، وأصبح كلا من  التاريخ المرير من التشويه والهجوم على الإسلام و الإسلاميين ، و الخلاف على إبقاء مادة "غير مفعلة" في دستور لا يزال في علم الغيب، شرارة لأحداث متلاحقة شقت الصف وغيرت خريطة مصر ما بعد الثورة ، وأراها تهدد الثورة بالفشل ، بعدما أخطأ الفريقان أخطاءً جسيمة.

الفصل الثالث (الاستفتاء)
      وجاء الاستفتاء على التعديلات الدستورية ، والذي أخرجته المعارك الفكرية والإعلامية الدائرة بين الفريقين عن مساره تماما ، فالإسلاميون رأوا أن الموافقة على التعديلات هي أكثر الطرق أمانا للحفاظ على الشريعة كمصدر أساسي للتشريع ، فانتخاب لجنة تأسيسية للدستور من خلال مجلس شعب "يتوقع" أن تكون أغلبيته من الإخوان المسلمين يؤمن بقاء هذه المادة ، أما عدم الموافقة فليس لها سيناريو واضح ، ويحتمل أن تختار لجنة تأسيسية بالتعيين وليس بالانتخاب ولا ندري ماذا سيحدث حينها ، وهذا كان من أوائل أخطاء الإسلاميين التي أثرت على المراحل التالية كثيرا ، ليس الخطأ أنهم قالوا نعم ، فأنا نفسي قلت نعم ولكن لأسباب أخرى ، ولكن الخطأ أنهم بنوا كل خططهم الشريفة على حلم المجلس ذي الأغلبية الإسلامية ، رغم أن هذا مجرد احتمال غير مضمون ، وقد يأتي المجلس بأغلبية ليبرالية أو علمانية أو فلول حزب وطني خاصة أن الإخوان قرروا المنافسة على أقل من النصف ، ناهيك عن التراجع الذي قد يصيب شعبية الإسلاميين بسبب سياسة السكوت و"التفويت" من أجل تحقيق الاستقرار والوصول للانتخابات ،  وحينها سيكون الدستور الموضوع على خلاف غرض الإسلاميين الشريف ، والشعب غالبا سيقول نعم لأن الاستفتاء لن يكون على مادة مادة، ولن يكون من حق أحد حينها أن يعترض أو يثور فهذه هي الديموقراطية.

الفصل الرابع (فزاعة الإسلاميين وفزاعة العلمانية)
     بعد الاستفتاء ، وعلى نفس النهج الذي تعودوا عليه زمنا طويلا ، من الادعاء والتلفيق واستغلال السقطات – التي كانت كثيرة للأسف – بدأ الإعلام العلماني في إعادة إنتاج فزاعة الإسلاميين من جديد ، مع استبدال الإخوان بالسلفيين ، فكلما كان البطل مغمورا كلما سهل تأليف وإخراج الدور ، ولن أدخل كثيرا في أمثلة ذلك لأنني كتبت عنها كثيرا وبلا شك أنكم سمعتم عنها مرارا ، ولكن وقفتي هنا مع إخوتي الإسلاميين الذين اخترعوا هم أيضا فزاعة العلمانية واستهداف الإسلام ، ربما لم يدعوا أو يلفقوا كخصومهم ، ولكنهم أعطوا الأمر – في وجهة نظري - أكثر من حقه ، فرفضهم للعلمانية والليبرالية – بمفهومها الغربي- جعلهم ينظرون بعين الشك والريب لكل ما يقوله العلمانيون والليبراليون ، رغم أن العلمانيين والليبراليين لهم مواقف كثيرة صحيحة وقوية ، وعلى رأسها أنهم هم من بدأوا الثورة التي نتنعم الآن جميعا في الحرية الناتجة عنها ، ولم يكن هدفهم من الثورة استهداف الإسلام أو المادة الثانية ، وإنما إسقاط نظام معاناتهم هم منه كانت أقل كثيرا من معاناة الإسلاميين ، إلا أن نظرية المؤامرة التي عاشها الإسلاميون أثرت كثيرا بالسلب على دورهم الشعبي في هذه المرحلة الفارقة من تاريخ مصر ، فأنني قد أتفهم مقاطعتهم لتظاهرات 27 مايو التي كانت تطالب صراحة بالدستور أولا وهو الأمر الذي يخالف الاستفتاء ، لكنهم في المقابل ضحوا ببقية المطالب العادلة والشريفة من القصاص للشهداء وسرعة المحاكمات والجدول الزمني للمرحلة الانتقالية ، وكان الأحرى بهم أن يتخيروا يوما آخر أو ميدان آخر للمطالبة بهذه المطالب وحسب ، بدلا من "الفرجة والشماتة" في قلة عدد متظاهري 27 مايو.

الفصل الخامس (8 يوليو)
    وعلى الرغم من الثقة الشديدة التي يبديها الإسلاميون في شعبيتهم وقدرتهم على الحشد خاصة بعد وهم الاستفتاء ، إلا أن تلك الفزاعة قد فاقت هذه الثقة ، فنزلوا لتظاهرات 8 يوليو التي خلت من أي مطالب خاصة للقوى العلمانية والليبرالية وهم يقدمون قدما ويؤخرون أخرى ، وسارعوا بالانصراف بعد يوم الجمعة خوفا من دس بعض المطالب الخاصة واستغلال العدد الكبير الذي حشدوه هم في إضفاء شرعية على هذه المطالب ، وفي رؤيتي أن صاحب الشعبية والقدرة على الحشد لا ينبغي أبدا أن يخاف من ذلك ، لأنه يستطيع السيطرة على أي مطالب خارجة ويستطيع توجيه الدفة كما شاء ، ولكن في النهاية انتصرت الفزاعة مرة أخرى ولم يكتف الإسلاميون بالانسحاب ، بل راح بعضهم يهاجم المعتصمين ويتهمهم باستخدام المطالب الشريفة المتفق عليها كذريعة من أجل تحقيق أغراض خاصة ، انتصرت الفزاعة وكبدت الإسلاميين خسائر فادحة في شعبيتهم وثقة الناس فيهم ، وكبدت مصر خسائر أكبر ، فتواجد الإسلاميين أصحاب الحشد في الميدان – كمتظاهرين على الأقل وليس بالضرورة كمعتصمين – كان سيمنع كثير من الأفعال الشاردة  كإغلاق المجمع وتهديد الطرق والمترو وقناة السويس ، وكان سيعجل بتحقيق المطالب ، وربما حمى مصر من تصعيد العباسية الذي كادت مصر كلها أن تدفع فيه ثمنا باهظا.

الفصل السادس (بيان الجيش والمواد فوق الدستورية)
     توافقت ظنون الإسلاميين مع ظنون المجلس الأعلى للقوات المسلحة مع اختلاف التفاصيل ، فظن الإسلاميين أن الاعتصام يهدف للالتفاف على إرادة الشعب وإحياء مطلب الدستور أولا ، وتأخير الانتخابات (الأمل) ، وظن القوات المسلحة أن الاعتصام يهدف لزعزعة أمن البلاد والصدام مع المجلس الأعلى وإشاعة الفوضى لحساب قوى خارجية ، فلما خرج بيان الجيش الذي تلاه اللواء محسن الفنجري بصوته الراعد المتوعد ، رحبت القوى الإسلامية بهذا البيان الذي لم يكن فيه أي استجابة لمطلب معين من المطالب التي تظاهروا لأجلها في 8 يوليو ، وهو نفس البيان الذي احتوى التوصية بعمل وثيقة حاكمة للجنة العليا للدستور التي سيتظاهرون ضدها يوم الجمعة ، إذن فالتحرك والحشد لم يحدثا نتيجة الوثيقة الحاكمة ، ولكن نتيجة اختيار الغزالي حرب المعروف بالعلمانية للإشراف على هذه المسألة ، وليت شعري ماذا سيكون موقف الإسلاميين لو كان المجلس العسكري اختار إسلاميا ليقوم بهذا الدور؟ والذي سيمثل حينها أيضا التفافا على الاستفتاء؟ هل كنا سنسمع عن جمعة الإرادة الشعبية؟ في ظني – الذي قد يكون سيئا -  أننا كنا سنسمع عنها ولكن من العلمانيين ، أما الإسلاميين فكانوا سينادون بجمعة الوحدة ولم الشمل كما يطلب بعض العلمانيين الآن، فإذا كنا سننزل دفاعا عن إرادة الشعب فلنضع في قلوبنا أن رد الفعل هذا هو نفس الرد الذي كنا سنتخذه إذا كلف المجلس أحد الإسلاميين بمهمة الغزالي ، وإلا فلنقولها صراحة أننا ندافع عما نراه مصلحة للإسلام وليس عن أرادة الشعب ، وقد صدمت وأنا اقرأ بيان أحبائي ومشايخي في الدعوة السلفية بالإسكندرية حول جمعة 29 يوليو ، والتي كان أول مطالبه (رفض الوصاية التي تحاول قلة معروفة بانتمائها العلماني والليبرالي فرضها على إرادة الأمة من خلال كتابة "وثيقة" حاكمة على "الدستور") وهنا فقط أحب أن أذكرهم أن صاحب فكرة الوثيقة هو الجيش وليس الـ "قلة" ، وبالتالي فمن كان معترضا على الوثيقة فليعترض على الجيش أو ليصمت.

الفصل السابع (أول جمعة خالصة لله)
    كلمة يرددها كثيرون من الشباب الملتزم الآن، وهي إن دلت تدل على أن الوعي لدى الكثير منهم لم ينضج بعد ، فأولا الجمعة القادمة ليست للمطالبة بتطبيق الشريعة ولا نصرة لها ، هي نصرة لإرادة الشعب والتي من الممكن بتحسين النية أن تتحول لجمعة خالصة لله بلا شك ولكن أريد أن أذكر إخواني أنكم قد تنجحون – وستنجحون بإذن الله – في إبطال فكرة المواد فوق الدستورية وتفويض مجلس الشعب في اختيار اللجنة لوضع الدستور بالكامل دون قيود ، وهنا أذكركم بالسيناريو الذي ذكرته في فصل الاستفتاء والذي يعني أنه ليس بالضرورة أن تكون نتيجة ال(نعم) وجمعة الإرادة الشعبية هي الحكم بالشريعة أو اتخاذها مرجعية ، وبالتالي فالجمعة القادمة هي الأخرى ليست بالضرورة نصرة للشريعة، أما ثانيا ، بأي حق نقول أن تظاهرات الثورة التي أسقطت النظام الفاسد وما تلاها من تظاهرات من أجل القصاص وسرعة المحاكمات وتطهير مؤسسات الدولة ليست خالصة لله أو أنها من أجل "أمور دنيوية" على حد تعبير البعض؟ أليس الوقوف في وجه الظلم ونصر الحق والمطالبة بالعدل عبادة لله وواجب شرعي ؟ أليست هذه التظاهرات التي أعادت العلماء إلى المساجد وإلى الفضائيات المغلقة؟ أليست هي التي مكنت شابا مثلي من المناداة صراحة بتطبيق الشريعة والدفاع عنها بعدما كنت أكتب عنها تلميحا من بين السطور؟ فلننزل يوم الجمعة للدفاع عن إرادة الشعب وحريته ، ولننزل مطالبين بدماء أصحاب الحقوق علينا ، ولننزل للمطالبة بالعدالة ، ولننزل للمطالبة بكل المطالب الشريفة والمشروعة للشعب المصري ، ولن يخرجها ذلك أبدا عن كونها خالصة لله.

الفصل الأخير (لم يكتب بعد)
    الفصل الأخير لا يزال في علم الغيب ، لكنه في رقبة كافة القوى الإسلامية في مصر ، قد يكون فصلا قصيرا يُكتفى فيه بنقدي أو مهاجمتي أو اتهامي بأي من التهم الجاهزة هذه الأيام ، وقد يكون مجرد استكمال للفصول المملة السابقة ، وقد يكون فصلا منيرا مضيئا في حدوتة مصر الجديدة ، اخرجوا أخوتي من القمقم واكسروا الدائرة المغلقة، ودعوا عنكم الإفراط والتفريط ، فأنتم تتنقلون بين خنادق الدفاع ولو بدون داع وبين الهجوم المفرط المبالغ فيه ، أنتم جزء عزيز وشريف من هذا الشعب ، فعيشوا بالإسلام بين إخوانكم ، وأدعو إليه وطبقوه وانصروه ، ثقوا بالله ثم في عظمة الدين الذي تدعون إليه ، ولا تكونوا آذانا بلا عقل ، دعوا الخطأ وانتقدوه ولو كان عند أعز أحبابكم وانحازوا إلى الحق وأيدوه ولو كان مع خصومكم ، وقولوا الحق ولو كان مرا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(1)  ، هذا هو الإسلام الذي أعرفه ، وهذا هو نهج السلف الصالح الذي أتبعه ، وهذا المقال هو مجرد اجتهاد ورأي وتحليل اختصرته قدر المستطاع لأنه نابع من متابعة دقيقة للأحداث على مدى شهور حافلة ومشحونة ، هو رأي يحتمل الصواب والخطأ ، ويقبل التصويب والنصح ولكنه لا يقبل التخوين أو التشكيك في النوايا.
     -------------------------------------------------
(1)   سورة المائدة ، الآية 8
للتواصل مع الكاتب عبر الفيس بوك
مدونة الكاتب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق