الأربعاء، 28 سبتمبر 2011

جولة المشير، والصحفي ، وراكب الميكروباص



جولة المشير، والصحفي ، وراكب الميكروباص
معتـز عبد الرحمن


      عودت نفسي منذ نعومة أظافري الفكرية ألا أنشغل كثيرا بتصرفات الحكام والحكومات قدر انشغالي واهتمامي بتصرفات الشعوب ، لأن الشعب الواعي لا تضيره تصرفات حكامه مهما ساءت لأنه قادر على ضبطها ، والشعب السيئ لا تنفعه تصرفات حكامه مهما حسنت لأنه قادر على إفسادها ، لذا فلم أتوقف كثيرا مع جولة المشير التي خطفت أضواء الإعلام خلال الأيام الماضية قدر توقفي مع رد فعل الصحفي الذي كان ضيفا في التليفزيون المصري والذي رأى بعبقرية فذة أن أهم مؤهلات رئيس المحروسة القادم قدرته على ارتداء بدلة مدنية ، تذكرت جملة قلتها بعد الثورة بقليل ، وهي أنه فيما يبدو أن تطهير الإعلام كان أهم وأولى من إسقاط النظام ، فالمديح المبالغ فيه والثناء والإطراء بدون وجه حق كفيل بتحويل أصلح الصالحين إلى أعتى العتاة وأظلمهم ، وقبل أن يهدأ سخطي على الإعلام ركبت سيارة "ميكروباص" كعادتي اليومية ، فتذكرت موقفا متكررا طالما رأيته في أثناء استخدامي للمواصلات ، موقفا يبدو تافها ، إلا أنه عندي ذو دلالات ودلالات ، فكثيرا ما أركب أحد وسائل المواصلات ثم يحتك السائق بسائق آخر على الطريق ويكون سائقنا هو المخطئ وخطأه واضح وضوح الشمس ، وتحدث مشاجرة أو لا تحدث ، ويحدث تبادل للسباب أو لا يحدث ، لكن عادة الذي يحدث هو تجلي أحد الركاب وانفعاله وإلقاؤه قصيدة مدح في سائقنا المخطئ وقصيدة هجاء في السائق المظلوم ، بل ويبدو عليه الغضب أكثر بكثير من السائق نفسه ، وليس هذا وحسب ، بل أحيانا تكون المشاجرة بين السائق وبين أحد الركاب الإيجابيين الذي يرفض الخضوع لابتزاز السائق وفرضه أجرة مضاعفة على الركاب ، فتجد أن راكبا آخر من نفس الطراز ومن نفس المتضررين من الأجرة الغالية قام ليدافع عن السائق المبتز ضد الراكب الإيجابي الذي إذا انتصر سيعود ذلك بالنفع على الجميع بما فيهم صاحبنا المنافق.

     ويظن البعض أن هؤلاء مختلون ، أو مجرد "مطيباتية" ، أو أنهم ذوي طبيعة ثرثارة لا أكثر ، ولكن الحقيقة غير ذلك ، الحقيقة أن من تعود أن يقول خلاف ما في قلبه من أجل تحقيق مصلحة أو خشية الأذى يصبح ذلك طبعه وسلوكه ، والذي يظن أن ذلك نوع من "الفهلوة والشطارة والذكاء" يدمن هذا السلوك على كل المستويات ، فيبدأ الأمر بنفاق صاحب العمل من أجل الترقيات والمكافآت ، وبنفاق أستاذ الجامعة للحصول على الماجستير ، وبنفاق أمين الشرطة ليتجنب المخالفة المرورية ولو كان يستحقها ، ويصل به الابتذال لنفاق البقال كي يصرفه سريعا ولا ينتظر دوره ، ونفاق سائق الميكروباص ومعاداة الراكب المحق حتى لا تؤخره المشاجرة خمس دقائق عن العودة للمنزل ، فيبدو لنا من المشهد أننا أمام شعب بعض أبنائه – إن لم يكن كثير منهم - مستعدون لنفاق أي قائد ولو كان قائد سيارة ، وأي صاحب سلطة ولو كان بقالا تنحصر سلطته في ترتيب الزبائن ، وهذا كله مقابل فتات المصالح والمنافع، فما ظنكم إذا كانت المصالح – حسب معتقداتهم – هي الاستقرار ولقمة العيش وانتهاء الانفلات الأمني المزعوم و"المتروك" ، يقول الله تعالى في سياق الحديث عن بني إسرائيل في سورة البقرة (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(96) ) وكما تعلمنا في المدرسة أن "حياة" جاءت هنا نكرة لتفيد العموم ، أي أنهم حريصون على أي حياة ، كريمة أو ذليلة ، حرة أو أسيرة ، المهم أنهم يعيشون ، يأكلون ويشربون ويتنفسون ، ومن أجل ذلك يبذلون كل شيء ولو كان ماء وجوههم واحترامهم لأنفسهم.

    إنني لا أخاف على مصر من حكم العسكر ، ولا أخاف على مصر من الفلول ولا الانفلات الأمني ولا من عودة مبارك شخصيا ، إنني أخشى على مصر من المصريين ، فجولة المشير في حد ذاتها عادية وغير مقلقة ، ولو حدثت في أي دولة غير مصر لما التفت إليها أحد حتى لو كانت هذه الدولة تمر بنفس الظروف ، وإنما الذي أقلق المحللون والمراقبون والسياسيون معرفتهم الجيدة بطباع الكثير من أبناء الشعب المصري ، إن الشعب الذي يكثر بين أبنائه طراز "أحرص الناس على حياة" هو خير أرض ينبت فيها الطغاة ، فيا شعب مصر ، إن الإنسان لا ينال كرامته إلا إذا كانت أغلى عنده من كل شيء ، ولا ينال حريته إلا إذا أصبحت أغلى عنده من حياته ، فسيناء لم تكن لتحرر لو قدم جنودنا حياتهم على حريتهم وكرامتهم ، والجزائر لم تكن لتتحرر بدون المليون شهيد ، ولم تتحرر دولة في العالم دون تضحيات ، ولم يقام عدل في دولة دون حراسة من أبنائها ، فالحرية والكرامة والمستقبل الواعد سلعة لها ثمن وليست منحة مجانية ، فاتق الله في نفسك ، واتق الله في بلدك ومستقبلك ومستقبل أبنائك وأحفادك (اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف) (1) ،، وأعلم (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (2) فحقوقك لم تكن يوما مسلوبة ، ولكنها كانت ضائعة وأنت الذي أضعتها ، وأنت الذي تملك بإذن الله حمايتها في المستقبل بعد أن بدأت تعود إليك بفضل الله وحده ثم مجهود قلة من أبنائك الذين لم يسيروا على نهج أغلبيتك ورفضوا أن يعيشوا جبناء ليموتوا مستورين ، فهل ستتغير ويتحقق الأمل ؟ أم أننا بعد سنوات سنظل نردد كلمات الشاعر سيد حجاب ( وليه بترشي وتتساهل ؟ وتضيع حقوقك بالساهل ؟ ، تستاهل النار تستاهل ، يا غويط ويحسبك الجاهل ، ساهل وساهي وغبي وعبيط)
-------------------------------------------------
(1)   صحيح الترمذي ، صححه الألباني
(2)   سورة الرعد ، الآية 11
    للتواصل مع الكاتب عبر الفيس بوك
مدونة الكاتب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق