الخميس، 6 أكتوبر 2011

شجرة الطائفية ، التربة والسباخ



شجرة الطائفية ، التربة والسباخ
معتـز عبد الرحمن



كنت أتمنى أن أكتب عن مشاعري الجميلة تجاه هذه الحرب في ذكراها الثامنة والثلاثين ، فقبل ثورة يناير كنت دوما أقول أن حرب أكتوبر هي آخر أيام العزة التي شهدها هذا الوطن ، حتى جاءت الثورة لتضيف لتاريخنا أيام وساعات جديدة من العزة والكرامة ، إلا أنني وللأسف أرى أن أمامها معوقات كثيرة تحول دون اكتمالها ، أكتب اليوم اضطرارا عن واحدة من هذه المعوقات والمخاطر التي تحيق بالوطن عامة وليس فقط بالثورة ، خطر كبير يعاني من الإهمال والسطحية الشديدة والتعامل معه بمنطق المسكنات وعلاج العرض دون النظر لأسباب المرض ، أتحدث اليوم عما يسمونه الفتنة الطائفية.
التربـــــة
إننا نواجه مرضا لم تشهده مصر في تاريخها بهذه القوة والكثافة ، ونسمع تعبيرات ومصطلحات لم نكن نسمعها من قبل ، وهذا إن دل يدل على أن ثمة تغيرا جذريا حدث ، تغييرا في الأفكار والمعتقدات والتي هي بمثابة التربة للنبات ، فالعناصر الموجودة في التربة هي التي تنتقل إلى الجذور والساق والأوراق ، إذن فماذا تغير في التربة؟؟
التربية والأفكار
لا تتعجب قارئي الكريم عندما أقول لك إن ملاحظتي لتغيرات التربة بدأت عند كنت طالبا في الصف الثالث الإعدادي ، فالمفاجأة والذهول نحتا الموقف في ذاكرتي نحتا ، كنت أتحدث مع زميلي المسيحي - المتدين المواظب على الذهاب للكنيسة - في أمور عامة ، وفجأة قام بتحويل الحوار وبدأ الحديث عن الاضطهاد الشديد الذي يعانيه المسيحيون في مصر وعن الصعوبة البالغة التي يواجهونها في حياتهم بسبب اضطهاد مبارك لهم! وسرعان ما انضم له زميل آخر – من أقربائه – ليكمل معه وصلة الشكوى والمرار ، ولأني كنت أعرفهم جيدا بدا لي تماما حينها – على حداثة سني – أن هذه الوصلة ليست متجانسة مع طريقة كلامهما وتفكيرهما ، وأنها تكاد تكون مأخوذة (نسخ ولصق) ممن هو أكبر منهم سنا ، ولا عجب أن نفس هذا الزميل بعد ثلاث سنوات وفي الثانوية العامة عندما رأى طالبا مسلما واقفا مع مجموعة من الطلاب المسلمين في ناحية من الفصل – أي ليس على العموم -  ليحدثهم عن فضل رمضان أو ما شابه ، ذهب إليه وقاطعه واعتبر ذلك الحديث الجانبي نوعا من الاضطهاد له ، وعندما تضايق الطالب المسلم واحتد عليه في الحديث بسبب مقاطعته ذهب لإدارة المدرسة ليشكو المسلم ويتهمه رسميا بالاضطهاد ، وقد كتبت تفصيليا عن قضية الاضطهاد الوهمي قبل الثورة في مقال (مقبرة المجتمعات) فأرجو الرجوع إليه (1) ، وإذا أضفنا إلى ذلك الهتافات والتصريحات المستمرة والتي يتورط فيها رجال دين رسميين وليس فقط مسيحيون عاديون يمكن اعتبارهم متطرفين كالموجودين في أي ديانة وأي فصيل ، إذا أضفنا اللغة الجديدة التي لم تسمع من قبل سوى في السنوات الأخيرة عن احتلال المسلمين لمصر وعن وجودهم فيها كضيوف لا أكثر ، ندرك فعلا أن التربة لا تتغير وحسب بل تتسمم ، فاقتناع آلاف وملايين البشر بكلام لم يتردد طوال أربعة عشر قرنا فضلا عن كونه لا يدخل عقل طفل صغير مثير للتساؤل والقلق ، لأن هذا الكلام يعني أن المسيحية أقدم من مصر ، وهذا غير منطقي ، فالمسيحية دخلت مصر بعد بعثة المسيح بفترة أي منذ أقل من ألفي عام ، واعتنقها كثير من المصريين ولم يقل حينها أحد أن المسيحيين ضيوف ، لأن تغيير المواطن لديانته لا يغير جنسيته ، فعندما يقوم نفس هؤلاء المصريون المسيحيون باعتناق الإسلام بعد حوالي خمسمائة عام هم بالقطع لايزالون مصريين فعن أي ضيوف يتحدث المسممون؟ وهل ما يقرب من خمسة وسبعين مليون مسلم الآن من نسل حوالي أربعة آلاف مسلم عربي دخلوا مصر والباقي هم نسل شعب مصر بأكمله؟ ناهيك عن أن الجيش المسلم لم يتوقف في مصر بل استكمل طريقه غربا ، بجانب تقارب السلوكيات والطباع بل والملامح بين كل المصريين ، فبلا شك أن الذي يقنع آلاف وملايين البشر بهذا الكلام لا يعتمد على المنطق وحسب ، وإنما أشياء أخرى اعتقادية ، إذا أردت أن تعلمها فلا تسمعها مني ولكن من مقالات المهندس هاني سوريال فهو مصري مسيحي وهو شاهد من أهلها.

التعامل الأمني وغياب العدالة
قضية الفتنة الطائفية قضية أمن قومي بلا ريب ، لأنه قد يفجر حربا أهلية لا يعلم مداها إلا الله ، لذا فيجب التعامل معها بقوة وحزم والأهم بعدالة ، النظام السابق الذي شهد أزهى عصور الفتنة كان يدرك ذلك جيدا ، ولكن في ظني أن الذي كان يشغله لم يكن الحرب الأهلية ، ولكن التدخل الأجنبي وتأثيره على استقرار عرشه ، والدليل على ذلك أنه تعامل مع الموقف بقوة وحزم ولكن دون عدالة ، وركز ضرباته الأمنية دوما على الطرف الذي لا يثير التدخل الأجنبي ، لذا فقد رأينا الأباء والأمهات المسلمين يحثون أبناءهم دائما على تحاشي الشجار أو الخلاف مع أي زميل مسيحي في المدرسة أو الكلية ، ليس لأن الإسلام يدعو لذلك ، ولا لأنهم شركاء في الوطن ، ولكن لأنهم يدركون أن ابنهم إذا ذهب إلى القسم مختصما مع مسيحي فأنه قطعا سيذهب وراء الشمس ، ورأينا المدير الذي يخشى معاقبة الموظف المسيحي المخطئ حسب القانون خشية اتهامه بالاضطهاد ، كل هذه الأشياء فرغت حسن المعاملة من مضمونها الإسلامي والوطني الراقي وجعلتها مجرد وسيلة لاجتناب الأذى الأمني ، فإذا غاب العنصر الأمني لم يعد هناك وازع للتعايش ، بل وربما ظهرت دوافع أخرى عنيفة بسبب الكبت والشعور بالظلم، ومن ستر الله وحفظه أنه رغم هذا الشحن وهذا الجو الخانق من القلق والإرهاب الفكري لم يحدث أي احتكاك ولم تفرغ أي شحنات عندما غاب الأمن تماما عن مصر عقب اندلاع الثورة لأن التربة المصرية الصالحة تغلبت على هذه التربة الفاسدة الدخيلة ، ولكن استمرار التعامل الأمني مع هذه القضية دون تطبيق للعدالة على أي مخطئ كائنا من كان ربما يجعل هذه التربة تغلب في وقت من الأوقات.
الخلط بين المعتقد والسلوك
قضية تافهة تطرح الآن إعلاميا بشكل أقل وصف يقال عنه أنه مضحك ومزري ، هل المسيحيون كفار؟ ويصور هؤلاء الأبواق أن وصف المسيحي بالكفر هو شرارة الفتنة الطائفية ، والسؤال ، منذ أربعة عشر قرنا هل جاء يوم واعتقد فيه المسيحي أن المسلم مؤمن وسيدخل الجنة؟ أو اعتقد المسلم أن المسيحي مؤمن وسيدخل الجنة؟ وهل يحزن المسيحي عندما يقال عنه أنه كافر بمحمد (صلى الله عليه وسلم) ولا يؤمن به ، وهل يحزن المسلم عندما يقال عنه أن كافر بالتثليث والصليب؟ وهل كفر الله المسلمين عندما قال عنهم (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2) فكلمة الكفر ليست سبة ، ففي الآية أن المسلمين كفار ولكن بالطاغوت ، وهم كفار بالتثليث وبقول أن العزير ابن الله ، والمسيحي كافر ، بمحمد وبالقرآن الكريم وهذا واقع لا ينفيه بل يفتخر به ، والمسلم والمسيحي كفار ببوذا ، وإذا قال عنا البوذي أننا – نحن والمسيحيين- مؤمنون علينا أن نقاضيهم بتهمة السب والقذف ، إذن يبقى ما الذي يترتب على هذه الصفة؟ يقول أحدهم أننا إذا قلنا عن المسيحيين كفارا لم يبق إلا الضغط على الزناد ، وهذا إرهاب فكري محض ، وعليه قبل أن يقول هذا أن يأتي بدليل كلامه من الإسلام الذي وللأسف المتحدث من معتنقيه ، فقرار قتال غير المسلم يكون في يد غير المسلم نفسه وليس في يد المسلم والدليل في سورة الممتحنة (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)) وبالتالي الذين يخوفون المسيحيين من تسمية كافر وربطها بسفك الدماء إنما هم يصنعون تربة الخوف والقلق التي لا يخرج منها إلا الشقاق والفتنة والاضطرابات.
السبــــــــاخ
كما ذكرنا ، التربة هي أصل النبات ومصدر غذائه ، ولكن هناك مقويات وعوامل مساعدة تساهم في سرعة نموه وتضخمه ، يسمونها السماد ، أما أنا فقد تعمدت استخدام لفظة (السباخ) وهو السماد البلدي المصنوع من روث الطيور ، لأن الفتنة لا تقوى ولا تتضخم إلا بالأفكار القذرة والأساليب الحقيرة ، رائحتها سيئة ومفضوحة ولكنها للأسف ، فعالة.
الاستغلال السياسي
المتأمل في توقيتات أحداث الفتنة الطائفية على مدار السنوات الماضية سيجدها في أوقات كثيرة ذات دلالة ، فاتحاد أي شعب خطر يداهم أي طاغية ، فعندما توحد الشعب المصري لمدة ثمانية عشر يوما فقط أسقط أقوى رئيس عربي على الإطلاق ، ولعله كان يفهم ذلك فسعى لتفريق الشعب مرارا قبل الثورة ، ولعل غيره أيضا يفهم ذلك فلا يزال يسعى للفرقة بعد الثورة ، وهذا ليس تفعيلا لنظرية المؤامرة ولكن قراءة للواقع ، فكيف تعيش الكنائس في أمان تام أثناء الانفلات الأمني ثم تهاجم وتحرق في ظل دولة وداخلية وجيش؟ ، وإذا كانت العداء والخصومة متوغلة في الطرفين إلى هذا الحد فلم توجد هذه الفترات البينية الواسعة بين الأحداث؟ ولم تزداد الأحداث دائما في أوقات اضطراب المشاعر الشعبية ووجود توجهات توحدية (ينايرية) جديدة؟

تصفية الحسابات
أضحك كثيرا عندما استمع لحديث بعض الساسة والناشطين والإعلاميين ليبراليين كانوا أو علمانيين أو يساريين أو غيرهم وهم يحاولون إقناع المستمعين بعدم واقعية تطبيق الشريعة ، إذ أنهم يحاولون إقناعنا أن سبب رفضهم للشريعة هو خوفهم عليها ، إذ أن السياسة لعبة قذرة ينبغي أن نرفع الدين عنها ، ويبدو أنهم يطبقون قذارة السياسة التي يؤمنون بها بمهارة ، ففور حدوث أي واقعة ينبري كثير من هؤلاء ويستغلون الفرصة للهجوم على خصومهم السياسيين ذوي التوجه الإسلامي ، وإذا كانت الواقعة طفيفة لا تستحق يبادرون بإضافة التوابل اللازمة واختلاق الوقائع الكاذبة لإشعال الموقف كي يتسنى لهم تصفية حساباتهم مع خصومهم ، ولتحترق مصر كي يبتعد السلفيون والإخوان عن البرلمان ، ولتراق الدماء ويتيتم الأطفال حتى لا يحكمنا ملتحي ، إن الرجل الشهير الذي قطعت أذنه في مشاجرة ، بدأت الأقلام تكتب وتحلل والحناجر تتهم وتحدد ربما قبل أن تصل أذنه على الأرض ، إنهم لا ينتظرون تحقيقا ولا حتى شهادة شاهد عيان ، فهدفهم واضح وغير شريف وغير معني بالحقيقة ، والدليل أنه إذا ثبت الخطأ عند الطرف الذي لا يمثل خصومة ولا منافسة سياسية ولا فكرية لهم ، تخرس الألسنة وتجف الأقلام وكأن شيئ لم يكن ، وهؤلاء أسوأ أنواع السباخ.

مسمار جحا
لأنهم ليسوا أقل قذارة ، فالقوى العظمى تسعى دوما لأن تظل عظمى بأي وسيلة ، لذا تجد دوما أن هذه القوى تبحث عن مسمار جحا في كل دولة يحتمل أن تكون منافسة لها في يوم من الأيام ، كي تجهض أي نمو أو تقدم في المهد ، وهذا المسمار قد يكون أسلحة دمار شامل ، أو الإرهاب ، أو حقوق الإنسان ، أو حقوق الأقليات ، ويبدو أن الأخيرة هي مسمار مصر ، فمن غير المنطقي أن أمريكا التي تمارس أقصى أنواع التمييز والاضطهاد وتحتضن أكثر دول العالم بلطجة وعنصرية ، وتقف في طريق حصول أصحاب الأرض – وليس الأقليات – على حقوقهم ، ويصلي فيها المسلمون صلاة العيد على مرحلتين وثلاث مراحل لضيق المساحات التي تخصصها للمساجد نسبة لأعدادهم ، هي التي تهتم وتخشى وتخاف على المسيحيين في مصر ، وليس من المعقول أن تتهم أمريكا مصر في عهد مبارك بالتمييز والاضطهاد للمسيحيين في حين أنها كانت تتخذه حليفا استراتيجيا ودعمته بقوة في بداية الثورة ، إذن فملف المسيحيين في مصر لم يكن سوى ورقة للضغط على الحليف ، ولن يكون سوى ورقة للضغط على أي حاكم قادم يخرج عن النص التي تكتبه أمريكا ، فأمريكا التي تغاضت عن التعذيب والطوارئ في مصر طوال العهد السابق ، ستتغاضى عن أي سوء يفعله أي حاكم ضد المسيحيين طالما أن هذا لم يؤثر على طاعته وتعاونه معها ، وهذا ما أتمنى من شركائنا في الوطن أن يدركوه ، فالغرب المثير للفتنة والمحتضن لأمثال موريس صادق لن يكون أرفق بكم أبدا ممن يعيشون معكم ، وبينكم وبينهم (عيش وملح) طوال أربعة عشر قرنا ، وأنتم لا تمثلون له سوى ورقة ضغط لا أكثر ، وربما لو زادت أعداد الشيعة مثلا في مصر ، تتحول دائرة الضوء عنكم إليهم ويصبح كل هم أمريكا المعلن حماية الشيعة من الاضطهاد السني في مصر.
أخيـــــــــرا
من كل هذا وغيره نجد أن قضية الطائفية أكبر بكثير من الطرح الذي يتناول إعلاميا ، وتحتاج للكثير من الجهد والإخلاص من كل الأطراف على سواء ، فأي مجهود فردي لن ينجح ، ومطالبة طرف دون الآخر بتحمل المسئولية لأنه الكبير لن تنجح ، والانشغال بالحديث عن السماد (الفلول والأصابع الخارجية ) دون تطهير التربة لن ينجح ، لن ننجح إلا إذا حدث تعاون عقلاني منطقي من خلال رؤية شاملة صريحة وشجاعة للواقع والأحداث ، حينها فقط يمكن أن نقتلع هذه الشجرة النتنة من أرضنا إلى غير رجعة.
-------------------------------------------------
(2)   سورة البقرة ، الآية 256
    للتواصل مع الكاتب عبر الفيس بوك
مدونة الكاتب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق