السبت، 30 أكتوبر 2010

انفصاميون ،، بلا حدود



    لا أحتاج أن أقدم كثيرا لكلماتي التالية، فهو موضوع واضح ملحوظ لكل ذي لب وتأمل ، وقد ترددت كثيرا في الكتابة عنه خاصة أن الكثيرين قد سبقوني إلى ذلك ، لكن ربما أردت أن أتناوله بشكل مختلف لم أجد – فيما قرأت – تناولا مشابها.

     منذ سنوات أعتدنا في مجتمعنا على بعض المشاهدات التي كانت تعكس ظاهرة الانفصام وانتشارها ، تسمع عن الملتحي المدخن وإمام المسجد سارق التبرعات ، والراقصة المتصدقة والمطرب كافل اليتامى ، حتى صرنا نسمع مقارنات ساذجة مثل أيهما أفضل مصلي لص أم غير مصلي شريف ؟ ومحجبة سليطة اللسان  أم متبرجة خلوقة ؟ وكان الكثيرون يرون دوما أن ضعف الوعي الديني في المجتمع هو السبب الرئيسي في هذا الانفصام ، فلم يكن هناك منهجا متكاملا لتربية الفرد وتهذيبه ، فهؤلاء يهتمون بالعبادات دون المعاملات ، وهؤلاء يهتمون بالمعاملات دون العبادت ، لأن كلا منهم لا يعلم سوى ما وجد عليه آباءه ، فلم يستكمل ما ينقصه فتولد الانفصام ، وعندما بدأ الوعي الديني في الانتشارفي السنوات الأخيرة حدث ما لم يتوقعه أحد ، فقد أظهر هذا الانتشار مدى عمق الانفصام الذي نعانيه ، وأن الذين لخصوا علاج الانفصام في أنه مجرد وصول المعلومة كانوا واهمين ، وتبين للجميع أن علاج الانفصام طريق طويل ، أطول من علاج مرض السرطان ، لأنه بالطبع أخطر من السرطان.

الشفاء من الانفصام لا يعني العصمة

    وفي البداية يجب أن أشير أن الانفصام الذي أعنيه ليس أن يفعل الانسان حسنات وسيئات في آن واحد ، فكل ابن آدم خطاء ، ولا يسلم رجل مهما كان صلاحه من سيئات ومعاصي ومخالفات ، فإن العصمة قد دفنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي عهده صلى الله عليه وسلم  وصحابته – خير القرون – ارتكبت كبائر وأقيمت حدود ولكن لم ينقص ذلك من مقدارهم شيئا ولم يفسد مجتمعهم ، لأن الطاعة والاتباع كانا المنهج والأصل والمعصية كانت الاستثناء والخطأ الذي هو صفة لبني آدم ، فلم يستحلوا حراما ولم يبرروا لأنفسهم الأخطاء ، لذا قال تعالى في صفات المتقين (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) ) سورة آل عمران ، وقال تعالى (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(102) ) سورة التوبة ، وبالطبع ينبغي على المسلم ألا يهمل في علاج ذلك الأمر وأن يكون سريع التوبة معالجا لأسباب المعصية حتى لا تجتمع عليه الصغائر فتهلكه ، وتسبب السيئات ظلاما في قلبه ، ولكن انفصام المنهج هو الخطر الأكبر الذي يجب التصدي له.

انفصام المنهج هو المرض الحقيقي

    فكرت كثيرا في تعريف انفصام المنهج، حتى تذكرت أني قرأته في كتاب الله في آيات بليغة، قال تعالى في سورة النور (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ  (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)) ، فتطبيق الدين عند مريض الانفصام ليس مرتبطا بإيمانه المطلق أن الدين خير منهج للحياة ، ولكنه مرتبط بمصالحه الشخصية ، فإذا كان تطبيق الدين في موقف ما يعطيه حقوقا فبها ونعمت ، وإن كان يلزمه بواجبات أو يسلبه حقوقا أخترعها لنفسه فلا دين في الحياة ولا حياة في الدين ، وهذا الذي يجعلك ترى رجلا متدينا في مسجده وشارعه وربما داعية وإمام ، علمانيا في عمله ، ديكتاتورا في بيته ، فاسدا مع صحبته ، يأخذ من الدين ما شاء ويترك ما شاء كقوله تعالى في سورة البقرة عن بني إسرائيل عندما طبقوا بعض أحكام الكتاب وتركوا بعضها ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)) .
     لذا ترى في ديننا ربطا كبيرا بين أمور الدين وبعضها ، ليتبين للناس أن هذا الدين كلٌ لا يتجزأ فاقرأ معي على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى في سورة العنكبوت (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصوم (من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم (.....ثم ذكر الرجل يطيل السفر . أشعث أغبر . يمد يديه إلى السماء . يا رب ! يا رب ! ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام . فأنى يستجاب لذلك ؟ ) رواه مسلم

أسباب الانفصام
    أظنها كثيرة ، ولكن في تحليلي هناك ثلاث أسباب رئيسية ينبغي علاجهم عند مريض الانفصام
أولا: اتباع الهوى: فاتباع الهوى سبب رئيسي في الانتقائية كما ذكرنا ، فمرحى بالدين إذا وافق الهوى ، وإذا خالف الهوى فلم تريدون إعادتنا أربعة عشر قرنا للوراء ، واتباع الهوى دائما مذموم في كتاب الله ، وسببا رئيسيا في الضلال ،قال تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ  (23) ) سورة الجاثية ، وقال تعالى (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)) القصص

ثانيا: عدم فهم الدين : فالكثيرون لا يفهمون أصلا معنى الدين ، ما معنى أن يتدين الانسان بالإسلام ، وما معنى الإسلام ؟ فالإسلام هو : الاستسلام لله تعالى بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك ، فكيف للمستسلم المنقاد لله بالطاعة أن يختار شيئا ويترك شيئا ، وهذا ليس تحليل ولكنه متضح في قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا(36)  ) الأحزاب ، وقال تعالى (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)) النساء ، والآية الجامعة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ  (208) ) البقرة ، ومعنى الآية ادخلوا في شرائع الإسلام كلها ولا تتركوا منها شيئا، فالسلم هنا بمعنى الإسلام (تفسير السعدي) .

ثالثا : مذهب أصحاب السبت ، و هو ناتج عن الهوى ولكنه يختلط بضعف شديد في الإيمان يسول للعبد أنه قادر على خداع ربه ، فيظن أنه قادرعلى أن يصل لما يريد من هواه دون أن تسجل عليه معصية ، فأصحاب السبت كانوا قد نهوا عن الصيد يوم السبت ، وابتلاهم الله بوفرة الأسماك في يوم السبت وقلتها بقية الأسبوع ، فنصبوا الشباك يوم الجمعة ، وجمعوها يوم الأحد وقالوا لم نصطاد يوم السبت، قل لي كم مرة قابلت رجلا من أصحاب السبت يعيشون بيننا الآن؟؟ أعلمت أن التحايل في طلب الفتوى والالتفاف حول الأحكام وتبرير الفساد والمعاصي ليس أمرا جديدا ؟ لقد عشنا ورأينا أحفاد أصحاب السبت ولكن أسأل الله ألا يرينا عقابهم (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)) سورة البقرة

وأخيرا ،، لابد من بداية

    لابد من بداية فورية في علاج هذا الداء الذي يفتك بأمتنا ، فهذا الداء ليس فقط داء أفراد ، بل داء جماعات وتيارات وأحزاب ، فكل هؤلاء لو دخلوا في السلم كآفة ما رأينا هذه الاختلافات والعصبيات والنعرات ، لكن كلٌ أخذ ما شاء وترك ما شاء ، فأصبح حالنا كما نرى .

   وأنا بكلماتي هذه لا أدعي براءتي من هذا المرض ، ففي ظني أن أغلبنا به شيء من الانفصام ولكن بنسب مختلفة ، فأدعو نفسي وإياكم لوقفة حقيقية مع النفس ، أولا للتقييم هل أنا انفصامي أم لا ؟ ثانيا لتحديد السبب والباب الذي تسرب من الانفصام إلى نفسي ، ثالثا غلق هذا الباب ، رابعا علاج آثار الانفصام ، خامسا الأخذ بإيدي الآخرين ممن يعانون الانفصام ولا يشعرون أو يشعرون ولا يحاولون التغيير.

    وينبغي ألا يفهم من كلامي أنني أقلل من شأن نشر الوعي الديني ، بل نشر الوعي الديني هو الذي سيعالج السبب الثاني  ( عدم فهم الدين) لكني أرى أن نشر الوعي الديني لا ينبغي أن يقتصر على نشر الفتاوى (حرام ، مكروه ، مباح ، مستحب ، واجب) بل ينبغي أن ينشر معه منهج الدين في تربية النفس وتهذيبها  وفي اتباع أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا آنفا، بمعنى آخر ينبغي أن ينشر الدين كله دون الاقتصار على بعض أبوابه، فكيف نطالب الناس بتطبيق كل شرائع الدين وهم لا يعلمون إلا اليسير منها؟.


خاتمة لابد منها

    في النهاية هذه الكلمات هي محض اجتهاد ورأي وتحليل ، قد أكون أصبت في بعضها وأخطأت في بعضها ونسيت ما ينبغي ذكره ، وذكرت ما لا ينبغي ذكره ، لذا فأنا أرحب بكل رأي أو تصويب أو انتقاد أو تعديل ، فليس هدفي إملاء المشكلة والحل ، ولكن هدفي الوصول للتشخيص والحل ، فليست القضية من يقول الحق ، ولكن القضية أن يقال الحق.

الآيات القرآنية نسخ ولصق من موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
http://www.qurancomplex.org/
الأحاديث النبوية (وراويها ) نسخ ولصق من موقع الدرر السنية – الموسوعة الحديثية
http://dorar.net/enc/hadith

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق