الأربعاء، 30 مارس 2011

مش هبيـــع البيـــــت

مش هبيـــع البيـــــت
معتـز عبد الرحمن

    جائتني قصة على بريدي الألكتروني منذ فترة طويلة مفادها أن رجلا أراد أن يبيع بيته ليشتري البيت الذي يحلم به ، فأرسل إلى صديقه الحميم الذي يعمل في مجال الإعلانات وطلب منه أن يكتب إعلانا يعرض فيه البيت للبيع ، فنفذ الصديق الطلب وكتب وصفا أمينا للبيت الذي يعرفه جيدا بحكم الصداقة وكثرة الزيارات ، منزل واسع ذو حمام سباحة وحديقة جميلة يطل على البحر من فوق ربوة عالية ، قريب من كل المرافق الخدمية والمولات .... إلخ ، قرأ صاحب البيت الإعلان في الصحيفة فوجد أن هذا هو البيت الذي يحلم به وزيادة ولكنه لم يكن يشعر بقيمته ، فاتصل بصديقه وطلب منه إلغاء الإعلان لأنه لن يبيع البيت.
     تذكرت هذه القصة بعد انتهاء الثورة – أو بمعنى أدق بعد تنحي الرئيس – عندما بدأت الجماهير المصرية تتطلع لتحقيق أحلامها ومطالبها التي ثارت من أجلها ، أحلام العدالة والمساواة والكرامة ، أحلام العيش الكريم والتحضر والرقي ، عندما بدأت تطالب بالقضاء على الفساد ومحاسبة الفاسدين ، وإعدام السفاحين الذي سفكوا دماء الشهداء الزكية البريئة ، تذكرتها عندما شاهدت الارتياح الذي قوبل به تشديد عقوبة البلطجة والترويع اللذين يؤديان للوفاة إلى الإعدام ، بل وتذكرتها عندما ارتفعت الأصوات المطالبة بإلغاء نسبة الـ 50% عمال وفلاحين من مجلس الشعب حتى يكون مصير الوطن في أيدي أهل العلم والتخصص والخبرة ، تذكرتها ومازلت أتذكرها مع كل موقف حتى أني لم أعد أستطيع نسيانها ، فهذا الشعب وهؤلاء الثوار الكرام ذوي المطالب الشريفة مصرون على بيع البيت الذي يحوي كل أحلامهم ، شبه مجمعين على رفض المنهج الذي يضمن مطالبهم ، يحاربون تطبيق النظام الذي يؤمن مستقبلهم ومستقبل وطنهم ، يرفضون الشريعة التي من مبادئها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (1)  والتي من مبادئها ( أما بعد ، فإنما أهلك الناس قبلكم : أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، والذي نفس محمد بيده ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) (2) ،إن الذي تظاهروا أمام المحكمة يطالبون بإعدام السفاح قاتل المتظاهرين الأبرياء إنما كان طلبهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) (3) ، وقرار تشديد عقوبة ترويع الآمنين وقتلهم لم يكن سوى (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (4) ، ومطلب إلغاء نسبة العمال والفلاحين إنما هو من الفروق بين الشورى في الإسلام وبين الديموقراطية ، إذ أن الإسلام يشترط في أهل الشورى والحل والعقد أن يكونوا أهل علم وخبرة وتخصص وليس فقط شعبية وأموال وعائلة حتى تكون قرارتهم مدروسة وصادرة عن علم وبينة (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا ) (5) وأولي الأمر هنا هم أهل العلم والرأي والعقل والرزانة (6) ، بل والذين يتشدقون بحقوق "الآخر" كأنهم يطلبون  (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (7)

   كل ما ذكرت هو نقطة في محيط ، وكل ما ذكرت يدل أن الناس يهربون مما يريدون ، ويحاربون ما يتمنون ، فالجحود الذي يلاقيه الإسلام من أبنائه الآن ليس مثله جحود ، يبرره البعض بأنه بسبب جهل المسلمين بدينهم وتصديقهم لحملات الإعلام على مدى عشرات السنين ، وفي الحقيقة هذا عذر أقبح من ذنب ، فمعرفة المسلم لأصول دينه واجبة عليه ، فكيف يجهل المرء الدين الذي يعتنقه والذي سيحدد مصيره يوم القيامة ، وكيف يدعي إنسان حب الدين وتوقيره وهو يكره أحكامه وتشريعه مما يجعله في خطر عظيم (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (8) ، وكيف يعتقد المسلم في عظمة الله وجلاله وعلمه وحكمته ، وأنه هو الذي خلق والذي رزق والذي يعلم طبيعة خلقه وما يصلحهم ، وفي نفس الوقت يرى أن المصلحة في تطبيق أحكام غيره (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (9) ، إذن علينا أن نتوقف قليلا ، لنفتش في بيتنا ونعرفه قبل أن نطالب ببيعه وتركه ، نعرف ديننا العظيم قبل أن نجحده بل وقبل أن نهاجمه أحيانا ، وهذه مسئولية فردية لكل مسلم ، لا تقل أن على العلماء أن يعرفوا الناس بالدين ، وأن عليهم كذا كذا ، بل علينا جميعا أن نتعلم ونعرف وننشر المعرفة كي نعود لبيتنا الجميل بعد عشرات السنين التي قضيناها في مخيمات اللاجئين.
------------------------------------------------
(1)   سورة النساء (135)
(2)   صحيح البخاري 4304
(3)   سورة البقرة (178)
(4)   سورة المائدة (33)
(5)   سورة النساء (83)
(6)   تفسير الطبري وتفسير السعدي
(7)   سورة الممتحنة (8)
(8)   سورة محمد (9)
(9)   سورة المائدة (50)
للتواصل مع الكاتب عبر الفيس بوك
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق